(أصول وقواعد منهجية) المبحث الثالث: قواعد في التكفير 1-2

المبحث الثالث: قواعد في التكفير 1-2


الرئيسية - أصول وقواعد منهجية

 

المبحث الثالث

قواعد في التكفير

مسائل التكفير من أصعب وأدق المسائل، وهي مظنَّة مزلَّة الأقدام، وتحتاج قبل التصدر لها إلى علم كبير وورع وفير، ومن أوائل المسائل التي أدت إلى التفرق والاختلاف في هذه الأمَّة كانت في مسائل تكفير أهل القبلة؛ ففي خلافة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - خالفه الخوارج وكفَّروا بالذنوب، وكفَّروا من خالفهم في بدعتهم واستحلُّوا دمه وماله.

وفي هذا العصر كثر الاضطراب والاختلاف، وتجارت الأهواء بأصحابها، بسبب كثرة الجهل، واندراس العلم، وضعف الحرص على طلبه، وهجر القرآن والسنن النبوية، وأصبح بعض النَّاس يقع في التكفير والتبديع والتفسيق، بدون علم ولا تثبُّت ولا رويَّة، وقابلهم آخررون فتساهلوا في هذه المسائل ولم يقيموا لها وزناً، وقصَّروا في بيان حكم الله - تعالى - في التكفير والتبديع. والحق - ولله الحمد والمنَّة - وسط بين طرفين، وهو الطريق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وسلفنا الأبرار - رضي الله تعالى عنهم أجمعين -.

ولعلَّ مِن أجمع العلماء الذي تحدَّثوا في مسائل التكفير، فوضحوا السبيل القويم والصراط المستقيم، هو شيخ الإسلام ابن تيمية[1]، وفي كتابه (منهاج السُّنَّة النبوية) تكلَّم - رحمه الله تعالى - كلاماً متيناً في غاية القوة والاتقان، وقد رتبته على هيئة قواعد ليسهل فهمها وضبطها إن شاء الله تعالى.

القاعدة الأولى: خطورة التكفير:

تأتي خطورة التكفير من عدَّة جوانب، من أهمها:

1 - أنَّ من أطلق حكم الكفر على أحد بدون تثبت - ولم يكن كذلك- رجع عليه الحكم، فعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما)[2].

وعن أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (.. من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه)[3].

2 - الحكم على الإنسان بالكفر كقتله، فعن ثابت بن الضحاك - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بملَّة غير الإسلام كاذباً، فهو كما قال، ومن قتل نفسه في شيء عُذِّب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمناً بكفر كقتله)[4].

3 - أنَّ الحكم على أحد بالكفر له لوازم كثيرة تتبع ذلك، مثل: إقامة حدّ الردّة عليه بعد استتابته، والتفريق بينه وبين زوجه، وإذا مات لا يُغسَّل، ولا يُكفن، ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين.. ونحو ذلك.

من أجل ذلك: حذَّر علماء الأمة من إطلاق حكم الكفر بدون تثبت ولا تورع، فها هو ذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «قتال المسلمين بعضهم بعضاً بتأويل، وسب بعضهم بعضاً بتأويل، وتكفير بعضهم بعضاً بتأويل: بابٌ عظيم، ومن لم يعلم حقيقة الواجب فيه وإلا ضلَّ»[5].

القاعدة الثانية: التكفير حقٌ لله - تعالى -:

قال ابن تيمية في معرض حديثه عن الخوارج: «.. ومع هذا: فقد صرَّح علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأنَّهم مؤمنون ليسوا كفاراً ولا منافقين. وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفراييني ومن اتبعه، يقولون (لا نُكفِّر إلا من يُكفِّر)، فإنَّ الكفر ليس حقاً لهم؛ بل هو حق لله، «وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله؛ بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوّط به، لم يجز قتله بمثل ذلك، لأنَّ هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سبَّ النصارى نبينا، لم يكن لنا أن نسبَّ المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نُكفِّر عليَّاً»[6].

وقال أيضاً: «الخوارج تُكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يُكفِّرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة، ومن لم يُكفِّر فَسَّق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً، ويُكفِّرون من خالفهم فيه، وأهل السُّنَّة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يُكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق، كما وصف الله به المسلمين بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]،قال أبو هريرة: كنتم خير النَّاس للناس. وأهل السُّنَّة نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس»[7].

القاعدة الثالثة: الكفر حكم شرعي وليس حكماً عقليَّاً:

إذا كان تكفير الناس أمر عظيم، فكذلك تعطيل حكم الله الشرعي في تكفير من يستحق التكفير أمر عظيم، والواجب أن يوضع كل أمر في موضعه اللائق به شرعاً، بالدليل الواضح والحجة البينة.

قال ابن تيمية: «الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً، كما أنَّ المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً مسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم من جعله الله ورسوله معصوم الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنَّه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنَّه شقي فيها، والواجب من الصلاة والصيام والصدقة والحج ما أوجبه الله ورسوله، والحلال ما أحلَّه الله ورسوله، والحرام ما حرَّمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، فهذه المسائل كلها ثابتة بالشرع...

وإذا كان كذلك: فكون الرجل مؤمناً وكافراً وعدلاً وفاسقاً هو من المسائل الشرعية لا من المسائل العقلية»[8].

القاعدة الرابعة: أهل العلم يُخطِّئون ولا يُكفِّرون:

قال ابن تيمية: «من عيوب أهل البدع: تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنَّهم يُخطِّئون ولا يُكفِّرون»[9].

وهذه القاعدة تعني: أنَّ أهل العلم الراسخين، أهلَ الورع والدين، لا يُسارعون في التكفير لكلِّ مخطئ أو مبتدع، ولكن من ثبت كفره بيقين لتوافر شروط التكفير وانتفاء موانعه: فإنَّهم يُطلقون لفظ الكفر عليه، تطبيقاً لأمر الله - تعالى -.

القاعدة الخامسة: المجتهد المخطئ لا يُكفَّر:

من عقيدة أهل السنة أنَّ المجتهد الذي يملك أدوات الاجتهاد إذا أخطأ يردّ عليه خطؤه، لكن يلتمس له العذر ويحسن به الظن، ولا يكفَّر أو يفسق لخطئه. وفي هذا حفظ لمقادير العلماء، ورعاية لمنازلهم. أما الجهلة وأهل الأهواء فإنهم يتطاولون على أعراض العلماء بالتفسيق والتكفير دون اعتبار لقواعد الشرع وعوارض الأهلية.

قال ابن تيمية: «من شأن أهل البدع أنَّهم يبتدعون أقوالاً يجعلونها واجبة في الدين؛ بل يجعلونها من الإيمان الذي لا بدَّ منه، ويُكفِّرون من خالفهم فيها ويستحلِّون دمه، كفعل الخوارج والجهمية والرافضة والمعتزلة وغيرهم.

وأهل السُّنَّة لا يبتدعون قولاً ولا يُكفرون من اجتهد فأخطأ، إن كان مخالفاً لهم، مكفراً لهم، مستحلاً لدمائهم، كما لم يكفِّر الصحابةُ الخوارجَ، مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما، واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم»[10].

وقال أيضاً: «المتأوِّل الذي قصده متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُكفِّر، بل ولا يفسق - إذا اجتهد فأخطأ - وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأمَّا مسائل العقائد: فكثير من النَّاس كفَّر المخطئين فيها، وهذا القول لا يُعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنَّما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويُكفِّرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية، ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة، كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم»[11].

وقال في سياق الكلام في ذكر الخلفاء الراشدين على المنبر وفي الدعاء لسلطان الوقت، ونحو ذلك: «إذا تكلم في ذلك العلماء أهل العلم والدين، الذين يتكلمون بموجب الأدلة الشرعية، كان كلامهم في ذلك مقبولاً، وكان للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجر على ما فعله من الخير، وخطؤه مغفور له»[12].

القاعدة السادسة: المتأوِّل المخطئ مغفور له:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «مـمَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ الأمَّة يقع فيها أمور بالتأويل في دمائها وأموالها وأعراضها، كالقتال واللعن والتكفير، وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - أنَّه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلاً فعلوته بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فقتلته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟) قال: قلت يا رسول الله، إنَّما قالها خوفاً من السلاح، قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفاً من السلاح أم لا؟!) فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذ[13].

وفي الصحيح عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - قال: قلت يارسول الله: أرأيت إن لقيتُ رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت، أفأقتله بعد أن قالها؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله). فقلت: يا رسول الله إنَّه قطعها، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله، فإنَّك إن قتلته فإنَّه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنَّك بمنزلته قبل أن يقول كملته التي قالها)[14].

فقد ثبت أنَّ هؤلاء قتلوا مسلمين لا يحل قتلهم، ومع هذا فلم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ضمن المقتول بقود ولا دية ولا كفارة، لأن القاتل كان متأولاً، وهذا قول أكثر العلماء، كالشافعي وأحمد وغيرهما. ومن الناس من يقول: بل كانوا أسلموا ولم يهاجروا، فثبت في حقهم العصمة المؤثِّمة دون المضمِّنة، بمنزلة نساء أهل الحرب وصبيانهم كما يقوله أبو حنيفة وبعض المالكية، ثم إنَّ جماهير العلماء كمالك، وأبي حنيفة، وأحمد في ظاهر مذهبه، والشافعي في  أحد قوليه، يقولون: إنَّ أهل العدل والبغاة إذا اقتتلوا بالتأويل لم يضمن هؤلاء ما أتلفوا لهؤلاء من النفوس والأموال حال القتال، ولم يضمن هؤلاء ما أتلفوه لهؤلاء.

كما قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أنَّ كل دم أو مال أصيب بتأويل القرآن فإنَّه هدر، وأنزلوهم منزلة الجاهلية، يعني بذلك: أنَّ القاتل لم يكن يعقتد أنَّه فعل محرماً، وإن قيل: إنَّه محرم في نفس الأمر، فقد ثبت بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة واتفاق المسلمين أنَّ الكافر الحربي إذا قتل مسلماً أو أتلف ماله ثم أسلم، لم يضمنه بقود ولا دية ولا كفارة، مع أنَّ قتله كان من أعظم الكبائر، لأنَّه كان متأولاً، وإن كان تأويله فاسداً..».

إلى أن قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والمتأوِّل المخطئ مغفور له بالكتاب والسُّنَّة، قال الله - تعالى - في دعاء المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وثبت في الصحيح: أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قال: (قد فعلت)[15]، وفي سنن ابن ماجه وغيره أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ الله تجاوز لي عن أمتي الخطـأ والنسيان)[16]»[17].

وقال في موضع آخر: «وكذلك من كان متأولاً، في محاربته مجتهداً لم يكن كافراً، كقتل أسامة بن زيد لذلك المسلم متأولاً لم يكن به كافراً، وإن كان استحلال قتل المسلم المعصوم كفراً، وكذلك تكفير المؤمن كفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما)[18]، ومع ذلك: إذا قالها متأولاً لم يكفر، كما قال عمر بن الخطاب لحاطب بن أبي بلتعة: دعني أضرب عنق هذا المنافق، وأمثاله، وكقول أسيد بن الحضير لسعد بن عبادة: إنَّك لمنافق تُجادل عن المنافقين، في قصة الإفك»[19].

وهذه القاعدة من المسائل الدقيقة التي قد تخفى على بعض الجهلة، وقد بينها ابن تيمية بياناً شافياً يزيل اللبس.

القاعدة السابعة: ليس كلّ من نطق بالكفر أو فعله يُعدُّ كافراً:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان قول بعض أتباع الأئمة الأربعة: «منهم من يُكفِّر أهل البدع مطلقاً، ثم يجعل كلّ من خرج عمَّا هو عليه من أهل البدع. وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضاً يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة، وليس هو قول الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفَّر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك، ولكن قد يُنقل عن أحدهم أنَّه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أنَّ هذا القول كفر ليُحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفراً أن يُكفّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإنَّ ثبوت الكفر في حقٍ الشخص المعيَّن، كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع، كما بسطناه في موضعه»[20].

القاعدة الثامنة: الذنب - ما دون الكفر - لا يوجب كفر صاحبه:

قال ابن تيمية: «الذنب لا يوجب كفر صاحبه، كما تقوله الخوارج، بل ولا تخليده في النار ومنع الشفاعة فيه، كما يقوله المعتزلة»[21].

القاعدة التاسعة: لا نشهد لمعيَّن بالنَّار:

قال ابن تيمية: «لا نشهد لمعيَّن بالنار؛ لإمكان أنَّه تاب، أو كانت له حسنات محت سيئاته، أو كفّر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم؛ بل المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول - إذ أخطأ ولم يعرف الحق - كان أولى أو يعذره الله في الآخرة من المعتمد العالم بالذنب، فإنَّ هذا عاصياً مستحق للعذاب بلا ريب، وأمَّا ذلك فليس متعمداً للذنب بل هو مخطئ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضروره عن المسلمين، وإن كان في الآخرة خيراً ممَّن لم يعاقب، كما يُعاقب المسلم المتعدي للحدود ولا يُعاقب أهل الذمَّة من اليهود والنصارى، والمسلم في الآخرة خير منهم»[22].

القاعدة العاشرة: لا ينبغي لُعن الفاسق المعيِّن:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لعنة الفاسق المعيَّن ليست مأموراً بها، إنَّما جاءت السُّنَّة بلعنة الأنواع، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)[23]، وقوله: (لعن الله من أحدث أو آوى محدثاً)[24]. وقوله: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)[25].

وقد تنازع الناس في لعنة الفاسق المعيَّن، فقيل: جائز، كما قال ذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيره، كأبي الفرج بن الجوزي وغيره، وقيل: إنَّه لا يجوز، كما قال ذلك طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم، كأبي بكر عبد العزيز وغيره، والمعروف عن أحمد كراهية لعن المعيَّن كالحجاج بن يوسف وأمثاله، وأن يقول كما قال الله - تعالى -: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِـمِينَ} [هود: 18]، وقد ثبت في صحيح البخاري: أنَّ رجلاً كان يُدعى حماراً وكان يشرب الخمر، وكان يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيضربه، فأتي به إليه مرَّة، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه؛ فإنَّه يُحبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم)[26]، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنة هذا المعيَّن الذي كان يُكثر شرب الخمر معللاً ذلك بأنَّه يحبُّ الله ورسوله، مع أنَّه صلى الله عليه وسلم لعن شارب الخمر مطلقاً، فدلَّ ذلك أنَّه يجوز أن يُلعن المطلق، ولا تجوز لعنة المعيَّن الذي يُحب الله ورسوله، ومن المعلوم: أنَّ كل مؤمن فلا بدَّ أن يحب الله ورسوله، ومن علم حال الواحد من هؤلاء لم يصلِّ عليه إذا مات، لقوله - تعالى -: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84].

ومن جوَّز من أهل السُّنَّة والجماعة لعنة الفاسق المعيَّن، فإنَّه يقول: يجوز أن أصلي عليه وأن ألعنه، فإنَّه مستحق للثواب مستحق للعقاب، فالصلاة عليه لاستحقاقه الثواب، واللعنة له لاستحقاقه العقاب، واللعنة: البعد عن الرحمة، والصلاة عليه سبب للرحمة، فيُرحم من وجه، ويُبعد عنها من وجه...

ولو كان كلُّ ذنب لُعن فاعله يُلعن المعيَّن الذي فعله، للُعن جمهور الناس، وهذا بمنزلة الوعيد المطلق: لا يستلزم ثبوته في حق المعين إلا إذا وُجدت شروطه وانتفت موانعه، وهكذا اللعن..»[27].

- المبحث الثالث: قواعد في التكفير 1-2

- المبحث الثالث: قواعد في التكفير 2-2

 


[1] للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - وأئمة الدعوة من بعده تميّز كبير في هذا الباب، وقد كانت هذه المسألة من المسائل الكبار التي أشبعوها بحثاً وتأصيلاً، فجزاهم الله عن الإسلام والمسملين خير الجزاء.

[2] أخرجه البخاري: (8/32)، ومسلم (1/79)، والترمذي (4/132)، ومالك في الموطأ (2/984)، وأحمد (6/314).

[3] أخرجه البخاري: (8/18)، ومسلم (1/79).

[4] أخرجه البخاري: (8/32).

[5] (4/471)، وفي هذا الباب يقول الإمام الشوكاني: «واعلم أنَّ التكفير لمجتهدي الإسلام لمجرَّد الخطأ في الاجتهاد في شيء من مسائل العقل عقبة كؤود؛ لا يصعد إليها إلا من لا يُبالي بدينه ولا يحرص عليه، لأنَّه مبني عليه شفا جرف هار، وعلى ظلمات بعضها فوق بعض» (إرشاد الفحول، ص 26).

[6] (5/244).

[7] (5/158).

[8] (5/92).

[9] (5/251)، وفي هذا الباب يقول ابن تيمية أيضاً: «والخوارج هم أوَّل من كفَّر المسلمين، يُكفِّرون بالذنوب ويُكفِّرون من خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله، وهذه حال أهل البدع: يبتدعون بدعة ويُكفرون من خالفهم فيها، وأهل السُّنَّة يتبعون الكتاب والسُّنَّة، ويُطيعون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق» (مجموع الفتاوى، 3/279).

[10] (5/95).

[11] (5/239 - 240).

[12] (4/167).

[13] أخرجه: مسلم (1/96 - 97)، وأبو داود (3/61).

[14] أخرجه: البخاري (5/85)، ومسلم (1/95)، وأبو داود (3/61 - 62), وأحمد (6/5 6).

[15] أخرجه: مسلم (1/116).

[16] أخرجه: ابن ماجة (1/659)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/102).

[17]  (4/452 - 458).

[18] تقدَّم تخريجه.

[19]  (4/505 - 506)، وفي هذا الباب يقول ابن تيمية أيضاً: «وكثر من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنَّوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم. وإذا اتقى الرجل ربَّه ما استطاع دخل في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ٦٨٢] وفي الصحيح: أنَّ الله قال: (قد فعلت)» (مجموع الفتاوى، 19/192).

وقال أيضاً: «ليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً؛ فإنَّ المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة،وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وإن كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك، فهذا أولى؛ بل موجب هذا الكلام أنَّ من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً، وقد لا يكون ناجياً، كما يُقال: من صمت نجا» (مجموع الفتاوى 3/179، وانظر: المرجع نفسه 12/180).

[20] (5/240)، وفي هذا الباب يقول ابن تيمية أيضاً: «وقوع الغلط في مثل هذا [يعني علو الله على خلقه] يوجب ما نقوله دائماً: إنَّ المجتهد في مثل هذا من المؤمنين إن استفرغ وسعه في طلب الحق، فإنَّ الله يغفر له خطأه، وإن حصل منه نوع تقصير فهو ذنب لا يجب أن يبلغ الكفر، وإن كان يُطلق القول: إنَّ هذا الكلام كفر، كما أطلق السلف الكفر على من قال ببعض مقالات الجهمية، مثل القول بخلق القرآن، أو إنكار الرؤية، أو نحو ذلك مـمَّا هو دون إنكار علو الله على الخلق، وأنَّه فوق العرش، فإنَّ تكفير صاحب هذه المقالة كان عندهم من أظهر الأمور، فإنَّ التكفير المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجَّة التي تُكفِّر المطلق، مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجَّة التي تُكفِّر تاركها، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليَّ لُيعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك، فغفر له.

فهذا الرجل اعتقد أنَّ الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك، أو شك، وأنَّه لا يبعثه، وكل من هذين الاعتقادين كفر، يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك، ولم يبلغه العلم بما يردُّه= =عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه، فغفر الله له بخشيته.

فمن أخطأ في بعض مسائل الاعتقاد، من أهل الإيمان بالله وبرسوله، وباليوم الآخر والعمل الصالح، لم يكن أسوأ حالاً من هذا الرجل، فيغفر الله خطأه، أو يعذِّبه إن كان منه تفريط في اتباع الحق على قدر دينه، وأمَّا تكفير شخص - عُلم إيمانه - يمجرَّد الغلط في ذلك فعظيم؛ فقد ثبت في الصحيح عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن المؤمن كقلته، ومن رمى مؤمناً بالكفر فهو كقتله)..» (الاستقامة، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، 1/163 - 165)، وانظر (مجموع الفتاوى (28/500 - 501).

[21] (5/239)، وفي هذا الباب يقول ابن تيمية: «إنَّه قد تقرَّر من مذهب أهل السُّنَّة والجماعة ما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة: أنَّهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه، مثل الزنى، والسرقة، وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به، مثل: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، فإنَّه يكفر به، وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة، وعدم تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة» (مجموع الفتاوى، 20/90).

[22] (5/250).

[23] أخرجه: البخاري (8/159) و (8/161)، ومسلم (3/1314)، والنسائي (8/58 - 59)، وابن ماجة (2/862).

[24] أخرجه: مسلم (3/1567)، والنسائي (7/204 - 205)، وأحمد (2/156 و 197 و 326 - 327).

[25] أخرجه الجزء الأول من حديث أبي جحيفة: البخاري (7/169)، وأخرجه بتمامه من حديث جابر: مسلم (3/1219).

[26] أخرجه: البخاري (8/158).

[27]  (4/567 - 574).

 

أعلى