الأمة بين الأهداف الخاصة والأهداف العامة

الأمة بين الأهداف الخاصة والأهداف العامة


يتعامل الناس في الحياة مع الأهداف والغايات على عدة طبقات:

أولى هذه الطبقات: من لا تعنيهم أي أهداف في الحياة يعيشون فيها هائمون فيها غافلون لاهون وهم من ضيعوا أهدافهم الخاصة ولا يسعون لتحقيق شيء فمثلهم كمن يأكل ويعيش وينام ثم يستيقظ ليأكل ويعيش ثم ينام.

أما ثاني الطبقات فهم من يعيشون لأهدافهم الحياتية وهي من الأشياء التي فُطِر الناس وجبلوا عليها وهي أن لهم أهدافا خاصة تنبع من احتياجاتهم الشخصية ويحاولون ويبذلون ما في وسعهم لتحقيقها والوصول إليها. ويعتبر البعض أن من علامات نضج الفرد في أنه يصيغ أهدافه الخاصة بما يتلاءم مع قدراته وميوله ومواهبه ومع ظروف البيئة من حوله. ويتعدد الهدف الخاص الذي يسعى إليه الانسان منها وظيفة أو عملا تجاريا مريحا يدر عليه أموالا طائلة وما بين تأسيس بيتا واتخاذ زوجا وأولادا أو حتى منصبا ذا شأن يجعله ذو نفوذ في مجتمعه وحياته.

أما الطبقة الثالثة فهم الذين يحاولون ضبط أهدافهم الشخصية لتتفق مع الغاية الأكبر في الحياة ويعملون على أن يحولوا أهداف المرء الحياتية وسيلة لأهدافه الأخروية ومن هنا جاء الهدف الأسمى والغاية العليا التي حرص الإسلام في القرآن والسنة على التأكيد عليها ألا وهي العبودية لله حيث يقول الله في كتابه }وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون{[1] فالعبادة كما عرفها ابن تيمية بتعريفه الشامل "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كالخوف والخشية والتوكل والصلاة والزكاة فالصلاة عبادة والصدقة عبادة والحج عبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة وكل ما يقرب إلى الله من قول أو فعل فإنه عبادة".

والعبودية تتحقق بأمرين وهما اخلاص النية لله واستقامة العمل وفق الشرع }...فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا{[2] ...يقول السعدي في تفسيره "فالذي جمع بين الإخلاص والمتابعة هو الذي ينال ما يرجو ويطلب وأما من عدا ذلك فإنه خاسر في دنياه وأخراه وقد فاته القرب من مولاه ونيل رضاه".

وبذلك يستطيع أي شخص أو انسان أن يجعل عاداته وتصرفاته وأفعاله وكلامه عبودية لله إذا استطاع أن يحقق هذين الشرطين: اخلاص النية لله وموافقة الشرع فيه...سأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".

أما الطبقة الأخيرة من البشر والتي فهمت حقيقة العبودية الكاملة وهي ليس تحقيقها في نفسه وأهل بيته فقط بل يكون حريصا على أن يحقق العبودية في محيطه المجتمعي وواقع أمته.

وهؤلاء يعيشون لرسالة ويهبون حياتهم لقضية مهما كانت التكلفة التي قد تجيء على حساب ذواتهم وأحلامهم وطموحاتهم الشخصية فهم يعلمون أن طريقهم وعر يمتلئ بالابتلاء الذي معه الصبر على الأذى لا يدب في نفوسهم اليأس لأن الايمان يعمر قلوبهم لا ينشغلون بمدح المادحين ولا ذم الذامين ينام ويستيقظ يفكر في حال أمته وكيفية انقاذها وسبل تمكنها ووصولها إلى مكانة خير الأمم فهؤلاء منهجهم القرآني }ومن أحسن قولًا ممن دعا إِلى اللهِ وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين{[3] قدوتهم الرسل والأنبياء الذين غلبت على نفوسهم فكرة واحدة وهبوها حياتهم كلها...يقتدون بخير البشر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في دعوته لا يكل ولا يمل ولا ييأس يصفه القرآن بالآيات }فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا{[4] أي تقتل نفسك هما وغما وكمدا من عدم استجابتهم لدعوتك يا محمد  ... يربي أصحابه في دار ابن الأرقم ... يرسل بعضهم إلى الحبشة ... يذهب إلى القبائل يعرض عليهم الإسلام ... يهاجر إلى المدينة ليتخذها منطلقا في دعوته ... يجهز الغزوات ويخرج على رأسها ...يرسل السفراء إلى امبراطوريات الدنيا يدعوهم للإسلام.

وسار الصحابة على درب نبيهم صلى الله عليه وسلم فانطلقوا إلى أرجاء العالم يحملون الإسلام إلى الناس فهذا الصحابي ربعي بن عامر يفهم هذه القضية على حقيقتها ويجيب على رستم قائد الفرس في أبلغ عبارة وأقصر كلمات عندما سأله رستم: ما جاء بكم؟ لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

ونفس الفهم وقريبا من العبارة التي رددها ربعي بن عامر يردد عقبة بن نافع عندما وصلت جيوش المسلمين إلى نهاية الشمال الأفريقي عند شاطئ المحيط الأطلنطي فيدفع بخيله إلى المياه رافعا يديه إلى السماء مرددا: يا رب لولا هذا البحر المحيط لمضيت في البلاد مدافعا عن دينك مقاتلا من كفر بك وعبد غيرك.

 

 


 


[1] الذاريات :56

[2] الكهف:110

[3] فصلت:33

[4] الكهف:6

 

أعلى