القضية ضد مجهول وموسوعة غينيس

القضية ضد مجهول وموسوعة غينيس

لعل أغرب ما شهدت في حياتي، هو حدوث جريمتين مأساويتين متشابهتين، حدثتا في بغداد خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي لم يفصل بينهما سوى سبعين يوماً فقط. وقد قيّدتا ضد مجهول، شأنها شأن آلاف الجرائم المنظّمة والأعمال القذرة التي شهدها العراق، منذ أن دنّس المحتل أرض الرافدين سنة 2003م، والتي بات الفاعل فيها معروفاً، رغم أنها تسجّل عادة ضد مجهول، في ظل الصراع الدامي والفوضى الضاربة الأطناب وبرنامج التدمير المنظم للبلد، والتي لا يعلم عددها وآثارها المقبلة إلا الله سبحانه.

 إن تسجيل تلك الجرائم ضد مجهول يراد منه إفساح المجال للجرائم المثيلة والمتكررة أن تنفذ في الزمان والمكان المطلوب، وأن تمر دون حساب.

لقد حدثت الجريمة الأولى في مساء يوم 8 ذي الحجة سنة 1431هـ (14/ 11/ 2010م)، في الشارع الرئيسي لحي العدل ببغداد، حيث كان الضحية يقود سيارته بصحبة أخيه وأطفاله، فأطلق الجناة النار عليه وعلى من معه، فقتل في الحال وأصيب أخوه برصاصة في رأسه ونجا أطفاله، لكونهم غير مستهدفين كأبيهم.

 وقد حضرتُ مجلس العزاء للضحية، لأنه كان قريب أحد أصهاري (والصهر عرفاً هو زوج البنت أو الأخت). وقد بقي أخو الضحية في المستشفى لمدة غير قليلة وفي حالة خطرة، ثم تحسّنت حالته ومنّ الله عليه بالشفاء الجزئي مع بعض الأضرار المستديمة، التي يمكن أن تحدثها رصاصة في الرأس، وتأثيرها المتوقع على الدماغ والوظائف الجسمية الأخرى.

والجريمة الثانية حدثت في مساء يوم الأربعاء 21 صفر 1432هـ (26/1/2011م) على جسر الغزالية على الطريق السريع غربي بغداد، وبنفس الطريقة تقريباً.

 إذ كان الضحية يقود سيارته بصحبة زوجته وأخته وأطفالهما، فأطلق الجناة المحترفون النار عليه وعلى من معه، فقتل في الحال وأصيبت زوجته في رأسها، ونجت أخته وأطفالهما، لأنهم ليسوا هدفاً في تلك العملية المبرمجة الخاطفة.

وقد حضرتُ أمس مجلس العزاء للضحية، إذ أنه كان قريب أحد أصهاري أيضاً، وكان رحمه الله شاباً طيباً كريماً شهماً لم نسمع عنه إلا خيراً، وهو من مواليد 1975م وفي ريعان شبابه، نسأل الله أن يدخله الجنة شهيداً بغير حساب.

 أما زوجته المسكينة فهي الآن فاقدة الوعي، وراقدة في إحدى مستشفيات بغداد، تنتظر مصيرها المجهول، إذ لابد من الانتظار أياماً عديدة قبل أن يعرف الأطباء: هل ستكون من الناجين من الحادث أم أنها ستكون شهيدة مع زوجها؟.

ولو قدر الله لها النجاة، فما هي الأضرار المستديمة التي يمكن أن تسببها لها تلك الجريمة القذرة، التي نفذتها مجموعة مدربة من عصابات القتل والاغتيال، بسيارة معدة لتلك الأغراض، وبأسلحة شاع عنها أنها قاتلة وكاتمة للصوت، لأنها تفضّل القتل والاغتيال بهدوء وعلى استحياء من الناس ومن الإعلام!. نسأل الله لها النجاة رحمةً بها وبأطفالها.

وفي حالة من الحزن والذهول الذي يعتري كل من شهد ما حصل، أحدّث نفسي بأسىً مصحوباً بالسخرية وأقول: كيف سيقيّم غينيس وموسوعته تلك الحوادث المأساوية الواقعية والجادة؟.. وهي الموسوعة الشهيرة التي طالما اهتمت بالأرقام القياسية لنشاطات الإنسان المتنوعة، في مجال الرياضة والفن والأحداث الغريبة التي ليس لها نظير ولا شبيه.

وهل ستهتم بتلك الوقائع الحقيقية الجادة بدل السفاسف والترهات والأمور التافهة، التي تعرض علينا تفاصيلها في وسائل الإعلام كالفضائيات والصحف والمجلات؟.

وهي أمور معظمها ترفي وكمالي وترفيهي، غالباً ما يخص الأطوال والحجم والوزن والصورة والشكل.

والبعض منها لا توازيها تفاهة سوى محدودية تفكير بعض الناس، من المترفين المتنافسين والمهتمين بهذا النوع من التميّز والتسابق للحصول على مكان في كتاب موسوعة غينيس تلك، طلباً للشهرة والمجد والخلود، في زمن مات فيه الضمير البشري، وتجمّد وتحجّر، بحيث فقد الإحساس بالمظالم والجرائم ومسخ ذوقه وفطرته وسجيته التي خلق عليها.

بل اخترع لها أحياناً ما يبررها من المصطلحات والتشريعات والمسميات، وبمباركة من القوى الكبرى المتحكّمة بالعالم اليوم.

 فلم يعد مسموعاً في عصرنا الحالي سوى صوت النفاق والزيف والرياء والاهتمامات الهابطة والمصالح الذاتية، ولم نعد نرى في عالمنا سوى صور الظلم والفساد والتزوير والكذب والخديعة، على يد تجار الحروب والفتن والصراعات، ومروجي الفساد والظلم والرذيلة، وفي زمن العولمة الغربية وأذرعها العديدة، القائمة على الغش والخداع ومداعبة الشهوات والنزوات الرخيصة، فأحدثت لنا حضارة الغرب المادية العديد من وسائل الترف والجوائز والمسابقات والمهرجانات منها، موسوعة غينيس وجائزة السلام وجائزة نوبل وجائزة الأوسكار ونشاطات الفيفا ومسابقات الجمال (جمال الصورة بدل الذوق والأخلاق) ومهرجانات الأفلام والمشاهير وصناعة النجوم وغيرها.. مما يجود به العقل الغربي من فعاليات وتنظيمات عالمية، على يد حفنة من مفكريه ومنظريه وصانعي القرار ومروجي الفتن والفوضى الخلاقة وثقافة صدام الحضارات والصراع مع الطبيعة، وعلى منوالهم وطريقتهم منشئي مؤسسات الثقافة والأدب والفن والإعلام، وغيرها من المراكز العالمية التي تدعم المفاهيم والتوجهات المسيسة المذكورة.

 كل تلك الكيانات والمقتربات والنشاطات التي يقودها الغرب ويبشّر بها، والتي تجسّدت بوضوح في عصر العولمة الحالي تشير بقوة إلى حقيقة ساطعة ملخصها: أن حضارة قتلت من قتلت وسرقت ما سرقت ودمرت ما دمرت وزيفت ما زيفت، منذ عصر النهضة وحتى عصر العولمة، هي حضارة منحازة وظالمة وفاسدة، مهلكة للحرث والنسل والبيئة والطبيعة، وهي حضارة غير جديرة بالعدل والسلام والحرية، التي تنادي بها ليل نهار في قنوات الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، باسم ديمقراطية مزيفة لم تبنَ إلا على الاستحواذ على الثروات بالباطل، وإراقة الدماء البريئة بإثارة الفتن والحروب، والتحكّم بمصير الشعوب والدول بسطوة المال المجموع بالسحت والربا والاحتكار، وتزييف الحقائق والأحداث بالإعلام الميكافيلي المضلل.

ومع ذلك فقد شهد العالم ارتفاع الأصوات الشريفة والأقلام الحرة الكريمة للمطالبة بالإصلاح والتغيير نحو حضارة أخلاقية منصفة، تدعو إلى العدل والسلام الحق وليس المزيف.

ووجد اليوم بعض المصلحين الغربيين وهم يحاولون معالجة تلك العلل الخطيرة، التي اتصف بها العقل المادي الغربي وحضارته المتغطرسة، والتي غطت آثارها وأزماتها أنحاء المعمورة، بفضل العولمة ودورها في نشر تلك الثقافة المنحازة، وفرضها على الأمم والدول والشعوب في شتى بقاع الأرض، في زمن أطلق عليه العقل الأمريكي أنه عصر نهاية التاريخ وتوقّف الصراع بين الحضارات لصالح حضارة الغرب، كما زعم هنتكتون وفوكوياما الأمريكيان في كتابيهما المشهورين.

إن ضرب المثل بتلك الجريمتين الآثمتين، التي قُيّدت ضد مجهول كالمعتاد في آلاف الجرائم القذرة المنظمة، التي حدثت في العراق والعديد من بلدان العالم الثالث المتخلّف والمضطهد، والذي حكم عليه الغرب بالموت بمختلف الصور النظيفة وغير النظيفة، كالغزو والاستعمار والحصار والاحتجاجات والانتخابات الصورية وغيرها من وسائل السيطرة والتوجيه، لإحكام السيطرة على الشعوب وإخضاعها لبرامج معدة سلفاً تنسجم مع ثقافة الغرب المنحازة وشريعة الغاب المعاصرة، بالترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، والتي من أبرز شعاراتها: البقاء للأقوى، وأن الحق يكمن في القوة، والغاية تبرر الوسيلة، والتطفيف في الكيل والميزان على مستوى الأشخاص والدول سواء بسواء.. ولسان حالها وقانونها المعلن يقول:

قتل امريءٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر 

                                              وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر

إن ضرب هذا المثل يشير إلى حجم المأساة وفداحة الخطر الذي يداهمنا في قعر دارنا، بفعل الجريمة المنظمة المدبّرة خارجياً في الكثير من تفاصيلها وأحداثها، والتي تسجّل دائماً ضد مجهول.

وفي مقارنة سريعة بين الجريمتين التي نُفّذت بنفس الطريقة تقريباً، يمكن تقرير ما يأتي:

إن الضحيتين (ومرافقيهما) لا صلة لهما بالسياسة أو الأحزاب التي تمارس السلطة في البلد، إلا بقدر كونهما موظفين اعتياديين في الدولة، وكلاهما في عمر الشباب الذي لم يتجاوز الأربعين عاماً، وكلا الجريحين المرافقين، كانا في عمر الثلاثينات، وقد أنجبا أطفالاً ثلاثة، والأول له ثلاث بنات أكبرهن بعمر 12 سنة، والثاني له ولدين وبنت لم تتجاوز الكبيرة الخمس سنوات والصغير عمره سنة واحدة، وكلا الحادثتين حدثتا في مناسبة دينية، الأولى في يوم التروية وقبل يوم عرفة بيوم واحد، والثانية بعد يوم واحد من أربعينية استشهاد الإمام الحسين، وكلا الجريحين قد أصيبا في الرأس بطلق ناري.

 وستترك تلك الإصابة الخطرة حتماً آثاراً وعاهات مستديمة (في حال نجاتهما من الموت)، وسترفع هاتين الحادثتين فضلاً عن الكثير من الجرائم الأخرى التي تحدث يومياً، من نسب الإعاقة والعجز بسبب العنف والجريمة المنظمة في البلد.

 وهي تعكس صورة المأساة الكبرى التي يعيشها عراق اليوم، وتشير بعمق لحالة الظلم والقتل والفتك الذي ساد مدن العراق، وذاق العراقيون ويلاته مع دخول المحتل.

 وكان ذلك كله باسم التحرر والديمقراطية وإنقاذ الشعب من الاستبداد والدكتاتورية والطغيان، الذي صنعه الغرب ومهّد له خلال الفترة الماضية، وقد أحاط بحياتنا في عهود الاستبداد والظلام الطويلة، التي أعقبت عهد الاستعمار الغربي لشرقنا الجريح.

إن تلك التفاصيل والمبررات التي ذكرناها قد لا تقنع السادة القائمين على موسوعة غينيس، لإدخال الجريمتين المتشابهتين في موسوعتهم العالمية، ذلك لأنهم يعتمدون معايير علمية وقانونية وشرعية، غير متوفرة في أحداث تلك الجرائم التي لا يمكن أن ينفذها إلا محترفين قتلة من طراز فريد.

 لذلك قد لا تكون الحادثين مؤهلة للدخول في كتاب غينيس المرموق لدى المهتمين والمتابعين له في كافة أنحاء العالم.

 ومع ذلك فنحن لا نفقد الأمل في الفوز بشرف العضوية في موسوعة غينيس العالمية، وقد تسعفنا معلومة مهمة وفاصلة، لكي ننال شرف التسجيل في تلك الموسوعة الغربية، ونحصل على رقم تسلسلي فيها، وكذلك تؤهلنا للحصول على عضوية فخرية في جمعيات حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني التي تنشط عادة في العالم الغربي الديمقراطي!. فتجعلنا نشعر بالفخر والزهو، ليستعيد العراقي والعربي ثقته بالموازين الدولية، ويستشعر بأنها لن تضيّع حقه، بعد أن أنصفه غينيس وأمثاله من المراقبين لأحداث العالم.

 إنها حقيقة مؤلمة تصور لنا كيفية إصابة الجريحين، فكلاهما قد أصيبا برصاصة غير مباشرة، خرجت من رأس الضحية واستقرت في رأس الجريح.

 وهذا ما يفسّر لنا بقاءهما على قيد الحياة رغم خطورة مكان الإصابة.

 فأي تدريب متّقن وتمرّس عالي المستوى على القتل والفتك بالناس الأبرياء يقوم به هؤلاء القتلة المحترفون، وأي جهة مقتدرة تقوم بتدريبهم وإعدادهم لقتل الناس، فهم لا يخطئون في إصابة هدفهم بالصميم غالباً، بل إن من شدّة ودقّة إصابة الهدف، أن تخرج الرصاصة من جسم القتيل لتستقر في جسم من يجاوره.

ولنا أن نتسائل هل هي رصاصة ذكية واقتصادية تستطيع اختراق رأسين في آن واحد؟. لكل ما ذكرنا أعلاه من تفاصيل مؤلمة وصور مروّعة لما يجري في العراق من جرائم وظلم وفساد، أظن أن الغيرة والإنسانية قد تتحرك في ضمير القائمين على موسوعة غينيس، فيتجاوزوا التعليمات والمعايير التي حددت لهم، ليسجلوا ذلك الحدث الجلل والجريمة النكراء في سجلّهم المحترم، وحينها سوف لن تسجل تلك القضية ضد مجهول، بل سيكون القاتل معلوماً والسفاح محدداً، وهو من عقر الناقة وفتح باب القتل والظلم والفساد والصراع في الأرض على مصراعيه، ففتح الحدود وأدخل القتلة والمجرمين وشرّع لهم وجودهم ونشاطهم في بلدنا الجريح، منذ الاحتلال البغيض وحتى هذه اللحظة.

ولذلك وفي خضم تلك الأحداث الدامية والجرائم المتتالية التي شهدناها في السنين السبع العجاف التي تلت الحرب، سواء تلك التي طالت جموع الناس في الأسواق وفي بيوت العبادة والمناسبات أم التي طالت شخص معين وهدف محدد بذاته ولمختلف الدوافع والأسباب، والتي جعلت من العراق على رأس قائمة الدول الأكثر فساداً وأكثر خطراً في العالم، وجعلته يفقد مليوني قتيل ويعيش فيه مثلهم من الأرامل والأيتام وضعفهم من المهجرين في الداخل والخارج. فاني أحيي من كل قلبي ذلك العراقي البطل، الذي أهان شيطان الإنس ورماه بحذائه، تماماً كما يرمي الحجيج الجمرات على الشاخص الذي يرمز إلى الشيطان بمنى في شعائر الحج المقدسة. وأحيي كل من يريد أن يلعن الشيطان والظلم والظلام والجريمة التي تطال الأبرياء من الناس، لخلق الفوضى والفتن وصناعة السلوك الجمعي الشائن المتشدد، الذي يشجّع العنف والقتل وإزهاق الأرواح البريئة.

وأدعو كل إنسان وطني شريف أن يلعن الطغاة والمجرمين مروجي الفتن والحروب والتآمر على الشعوب، وعلى رأسهم بوش وبلير وفرعون وهامان وجنودهما، وكل من يساهم في تلك الأعمال البربرية الشنيعة، ويتجرء على الشرعية الدولية ويمهّد لسفك الدماء وإشاعة الفوضى، كتلك التي عمّت البلاد والعباد، وجعلت الطوفان وفقدان الأمن في بلدنا هو الغالب..

فهل سنكون ممن يشرفنا الله سبحانه مع من يقف ضد ذلك التيار الفاسد وضد الطوفان والفتن المظلمة التي حذرنا الله سبحانه منها ومن آثارها المدمرة، من أجل إشاعة الحق والعدل والسلام وتدعيم ركائز الأمن والاستقرار في العراق والعالم؟!.. نسأل الله تعالى أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه انه سميع مجيب.

 

أعلى