مجلة البيان - الخريطة السياسية الماليزية .. فلسطين كانت هناك

 الخريطة السياسية الماليزية .. فلسطين كانت هناك
الخريطة السياسية الماليزية .. فلسطين كانت هناك


حملت الخريطة السياسية الماليزية الجديدة بعد انتخابات مايو/أيار 2013 مؤشرات على عدد من التحولات في موازين القوى السياسية والشعبية، على الرغم من أن المحصلة النهائية لمقاعد البرلمان المركزي وبرلمانات الولايات لا تعطي مؤشرات على تحولات مهمة وتشي بنوع من التغير البسيط. نكتب هذه السطور بعد أن كنا في ماليزيا في الأيام الماضية حيث عايشنا أجواء ما بعد الانتخابات.

النتائج الرسمية تشير إلى فوز حزب الجبهة الوطنية الحاكم "باريسان ناسيونال" (Barisan Nasional) بـ133 مقعداً في البرلمان المركزي مقابل 89 مقعداً لتحالف المعارضة "باكاتان رعيت" (Pakatan Rakyat) أو تحالف الشعب، من مجموع مقاعد البرلمان البالغ 222 مقعداً.

وبالتالي، لم يخسر التحالف الحاكم سوى سبعة من مقاعده لصالح المعارضة التي كانت تملك 82 مقعداً. وبذلك فإن التحالف الحاكم فاز للمرة الثالثة عشر على التوالي ودونما انقطاع منذ استقلال ماليزيا سنة 1957، كما احتفظ بأغلبية 60% من المقاعد.

والنتيجة نفسها تنطبق إلى حدّ ما على نتائج انتخابات مجالس الولايات، فالتحالف الحاكم الذي كان قد فاز بثمان ولايات من أصل 13 ولاية في انتخابات 2008، فاز هذه المرة في عشر ولايات، بينما احتفظت المعارضة بثلاث ولايات فقط. غير أن الدخول في التفاصيل يعطي صورة مغايرة لخريطة سياسية جديدة آخذة في التشكل.

فوز في المقاعد وخسارة في الأصوات

فاز التحالف الحاكم بعدد المقاعد، ولكن المعارضة هي التي فازت في العدد الكلي للأصوات!! إذ تشير النتائج إلى أن الانتخابات "الأشرس" والأكثر مشاركة في التاريخ الماليزي (بلغت نسبة المشاركة نحو 84.6% وهي من أعلى النسب العالمية) قد أعطت التحالف الحاكم خمسة ملايين و238 ألف صوت بنسبة 47.4% من أصوات الناخبين، بينما بلغ مجموع أصوات المعارضة خمسة ملايين و624 ألف صوت بنسبة 50.9%، ومع ذلك لم تحصل المعارضة إلا على 40% من مقاعد البرلمان.

وعلى الرغم من أن المعارضة لم تفز إلا في ثلاث ولايات، فإنها حصلت على أربعة ملايين و880 ألف صوت مقابل أربعة ملايين و514 ألف صوت للتحالف الحاكم، بفارق 366 ألف صوت لصالح المعارضة، أي بفارق يزيد عن 3.5%.

وتُظهر قراءة دقيقة للنتائج أن المعارضة قد أحدثت اختراقات مهمة في معاقل تقليدية للحزب الحاكم، كما حدث في ولايات جوهور وباهانج وصباح، كما كانت النتائج متقاربة جداً في ولايتين فاز فيهما الحزب الحاكم هما ترينجانو (17 مقعداً مقابل 15 مقعداً)، وبيراك (31 مقعداً مقابل 28 مقعداً).

وبالتالي فإن المعارضة تمكنت من تعزيز مواقعها، وزاد عدد مقاعدها على مستوى مجالس الولايات 41 مقعداً لتصبح 229 مقعداً، بينما تراجع عدد مقاعد التحالف الحاكم إلى 275 مقعداً. وبعبارة أخرى فإن النظام الانتخابي وتوزيع الدوائر قد خدم التحالف الحاكم، وهو نظام مشابه للنظام البريطاني، يعطي مقعداً واحداً لكل دائرة انتخابية، ويفوز عن الدائرة من يحوز على أعلى الأصوات، وليست هناك جولات إعادة.

وقد اتهمت المعارضة التحالف الحاكم بأنه وزع الدوائر لمصلحته بحيث كانت هناك دوائر صغيرة يكثر فيها مؤيدوه، ودوائر أخرى كبيرة فيها أعداد مضاعفة من الناخبين يكثر فيها مؤيدو المعارضة.

تسونامي صيني

تلقى التحالف الحاكم ضربة قاسية في هذه الانتخابات تمثلت في انفضاض الأغلبية الساحقة من الماليزيين ذوي الأصول الصينية عنه. فالتحالف الحاكم بقيادة حزب أمنو الملايوي نجح في معظم الأوقات في تشكيل جبهة وطنية تجتمع فيها أقوى أحزاب الملايو والصينيين والهنود. حيث يمثل الملايو المسلمون نحو 63% والصينيون (أغلبهم بوذيون وكونفوشيسيون...) نحو 26% والهنود الهندوس نحو 7%.

عصفت نتائج الانتخابات بالأحزاب الصينية المؤتلفة مع الحزب الحاكم، حيث تلقت هزائم قاسية على يد حزب العمل الصيني المعارض (DAP). فقد صوت الصينيون لهذا الحزب بكثافة حيث حصل على 38 مقعداً بزيادة عشرة مقاعد، بينما خسر حزب جمعية الصينيين الملايويين (MCA)، العضو في التحالف الحاكم، أكثر من نصف مقاعده (فقد 8 من 15) ولم يتبقَ له سوى سبعة مقاعد. وبذلك فقد معظم تمثيله للصينيين بعد أن كان لفترة طويلة الحزب الأول بين الصينيين.

وكان هذا الحزب قد حصل في انتخابات 1999 و2004 على 29 مقعداً و31 مقعداً على التوالي، مقابل 10 مقاعد و12 مقعداً لحزب العمل الديمقراطي. غير أن تشكيل أنور إبراهيم عام 2008 لتحالف الشعب شكل رافعة لحزب العمل الديمقراطي الذي قفزت مقاعده عام 2008 إلى 28 مقعداً مقابل 15 مقعداً لجمعية الصينيين الملاويين.

الرسالة الأهم لهذه الأرقام أن الجبهة الوطنية الحاكمة فقدت قدرتها على الادعاء بتمثيل القوى الأساسية للمجموعات الدينية والعرقية في ماليزيا، وهو ما كانت تفاخر به قبل ذلك. أثارت هذه النتائج مخاوف حزب أمنو، الذي شعر أن معادلة الحكم والاستقرار التي أُرسيت بعد أحداث مايو/أيار 1969 العرقية تعرضت للاهتزاز، وأنها مهدَّدة بالانهيار. ولذلك رأى رئيس الوزراء الحالي نجيب عبد الرزاق في نتائج الانتخابات ما أسماه "تسونامي صيني".

إن الانحياز الصيني شبه الكامل إلى المعارضة قد يفسح المجال أمام معادلات جديدة في النظام السياسي، تتيح المجال أمام ما يراه الصينيون شراكة أكثر تمثيلاً وعدالة في مناحي الحياة المختلفة، بدلاً من تلك الشراكة التي أعطت بعض المزايا للملايو لمساعدتهم على اللحاق بالصينيين الذين كانوا يتحكمون بمعظم الاقتصاد في البلد.. حيث يرى كثير من الصينيين أنه لم يعد لهذه السياسة ما يبررها.

وهناك من الملايو من حذَّر الصينيين من تداعيات انهيار المعادلة الحالية، أو من أن يحاول الصينيون فرض شروطهم، مما قد ينعكس ثورة وسط الغالبية الملايوية المسلمة الخائفة على مستقبلها، التي لم توفر لها السنوات الأربعون الماضية ما يكفي لتحقيق التعادل والوصول إلى ما وصل إليه الصينيون، حيث ما زالت الفجوة كبيرة بين الطرفين. وهو ما يعني أن معادلة الاستقرار والتنمية التي تميزت بها ماليزيا طوال السنوات الماضية قد تعصف بها الاضطرابات العرقية والطائفية.

الملايو.. الرابحون.. الخاسرون

على الرغم من تراجع تحالف الجبهة الوطنية الحاكم (المكون من 13 حزباً) فإن العمود الفقري لهذه الجبهة وهو حزب أمنو قد عزَّز مواقعه وزاد عدد مقاعده من 79 إلى 88 مقعداً. وبالتالي فإن التحالف الحاكم قد أصبح أكثر اعتماداً على الملايو، خصوصاً بعد أن خسر الصينيون تسعة من مقاعدهم في هذا التحالف. وعلى هذا، فالجبهة الوطنية التي أصبحت أكثر قوة في تمثيل الملايو، صارت أكثر ضعفاً في تمثيل مكونات الشعب الماليزي.

الجانب الثاني أن الحزبين الماليزيين ذوا الأغلبية الملايوية، واللذين يقودان المعارضة إلى جانب حزب العمل الصيني، قد قلّت مقاعدهما، رغم تقدّم المعارضة في هذه الانتخابات. فحزب عدالة الشعب الذي يقوده أنور إبراهيم انخفض عدد مقاعده من 31 إلى 30 مقعداً، كما انخفضت مقاعد الحزب الإسلامي من 23 إلى 21 مقعداً، وهو ما أضعف من حضور الملايو في المعارضة الماليزية، مع تزايد الحضور الصيني.

الجانب الثالث أن التصويت أخذ شكل المدينة والحضر في مواجهة القرية والريف. فالتحالف الحاكم رغم أنه ظلّ لسنوات طويلة يمثل الحالة العلمانية المدنية، فإنه اعتمد في أصواته على الريف الماليزي وعلى المناطق الأكثر فقراً في ولايات جوهور وبرليس وسراواك وصباح. أما المعارضة فبرزت قوتها في المدن، ففاز مرشحوها في كل عواصم الولايات الماليزية ما عدا جوهور وبرليس.

وفاز مرشحو المعارضة بتسعة مقاعد من أصل 11 مقعداً في كوالالمبور، وفازوا بأغلبية ساحقة في أكثر ولايتين ثراء وتطوراً اقتصادياً وهما سيلانجور (44 مقابل 12 مقعداً) وبيانج (30 مقعداً مقابل 10 مقاعد). وهذا يعني أن مثقفي الملايو وأبناء الطبقة الوسطى منهم قد انضموا بشكل متزايد مع الصينيين إلى المعارضة، بعد أن ازدادوا ثقة بأنفسهم، وبعد أن كثرت الدعوات بينهم لمواجهة ما يرونه فساداً مستشرياً في الحزب الحاكم، مع تطلعهم إلى قيادة جديدة. كما يعني أن مخاوفهم من الصينيين قد تراجعت مع محاولة ترسيخ فكرة المواطنة والتعايش السلمي.

ويرى البعض في تحالف الحزب الإسلامي (المتشدد في إسلاميته والأكثر اتصافاً بالطبيعة الملايوية) مع حزب العمل الديمقراطي الصيني (الأكثر تشدداً في التعبير عن علمانيته وعن مصالح الصينيين) دلالة على أن الطرفين أصبحا أكثر واقعية في عملهما السياسي وأكثر تفهماً لبعضهما بعضاً.

ويرى آخرون أن تحالف المعارضة هو تحالف هش يجمعه إسقاط الجبهة الوطنية الحاكمة وشعارات العدالة ومحاربة الفساد، وأنه سيسقط في اختبارات تنفيذ البرامج على الأرض. كما يرون أن حزب عدالة الشعب بشكل خاص، وتحالف المعارضة بشكل عام، يجتمعان حول شخصية أنور إبراهيم نائب رئيس الوزراء الأسبق، لما يملك من مهارات قيادية وكاريزما شخصية. غير أن خسارة المعارضة لهذه الانتخابات تطرح تساؤلاً: هل سيكون أنور قادراً على إدارة المعارضة، في الانتخابات القادمة بعد خمس سنوات، عندما يكون عمره 71 عاماً؟!

كما يُطرح تساؤل آخر عما إذا كان رئيس الوزراء الحالي نجيب عبد الرزاق، الذي يتمتع بشعبية لا بأس بها، يمكن أن يكون رافعة لحزب أمنو من خلال تحقيق عدد من الإنجازات على مستوى محاربة الفساد وإعادة ترتيب الحزب وتحقيق منجزات اقتصادية، بحيث تستعيد الجبهة الوطنية الحاكمة عافيتها، وتقطع الطريق على احتمالات صعود أنور إبراهيم وقوى المعارضة.

فلسطين كانت هناك

الملفت للنظر أن دعم فلسطين كان جزءاً من حملة التحالف الحاكم والمعارضة. وكان أنور إبراهيم سعى في العام الماضي لزيارة خالد مشعل وأخذ صورة إلى جانبه، كما أن هناك جهات ناشطة في دعم قضية فلسطين متحالفة مع أنور كالحزب الإسلامي وجمعية "إكرام" المحسوبة على خط الإخوان المسلمين. وقد اتهمت هذه الجهات التحالفَ الحاكم بالتقصير في حقّ فلسطين، وبإقامة علاقات اقتصادية مع الكيان الصهيوني.

أما التحالف الحاكم الذي أدرك عمق تعاطف الشعب الماليزي مع فلسطين خصوصاً بعد معركة غزة في نهاية 2008 ومطلع 2009، فقد فتح أبواب التبرعات لفلسطين، وفتح علاقات غير مباشرة مع حركة حماس. كما قام رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق قبل الانتخابات بزيارة إلى قطاع غزة، كانت رمزاً لكسر الحصار والتعاطف مع الشعب الفلسطيني ودعمه مادياً ومعنوياً. كما اتهمت الآلة الإعلامية للحزب الحاكم أنور إبراهيم بعلاقته بأميركا، وبأنه تعهد بالحفاظ على أمن الكيان الصهيوني.

ومها يكن من أمر فإن التنافس في خدمة فلسطين أمر مشروع، شرط أن لا تكون مجرد أداة أو وسيلة لخدمة أغراض مؤقتة، وأن تكون فلسطين هي العنوان الذي يجمع الجميع.

والخلاصة أن التحولات التي حدثت في ماليزيا لم تعكسها نتائج الانتخابات بشكل دقيق، وأن هناك خريطة سياسية تتشكل، قد تفتح الطريق أمام نجاح المعارضة في الانتخابات القادمة، وربما أمام معادلة جديدة في العلاقات بين الأعراق والطوائف في ماليزيا.

وطوال الأربعين سنة الماضية نجح الماليزيون في إدارة اختلافاتهم بشكل سلس وضمن سقف المصالح الوطنية، وعليهم الانتباه والحذر من الوقوع في فخ عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، في حالة الرغبة في بناء معادلة علاقات داخلية جديدة.