مجلة البيان - القومية وأثرها في انهيار الأمم

 القومية وأثرها في انهيار الأمم
القومية وأثرها في انهيار الأمم


واحدة من أكثر المفاهيم التي حاولت نخب اليسار على مستوى العالم الترويج لها في سياق إعادة صياغتها للمجتمعات ضمن صراعها مع الرأسمالية الغربية هو مفهوم(القومية)، لكن مؤشرات الواقع أكدت أن ذلك المفهوم في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها خلف الكثير من الأضرار في أوروبا وصنع أكبر أزمات العالم الأمنية والسياسية التي أفرزت الحرب العالمية الثانية وإعادة صياغة المشهد الأوروبي والعالمي بأكمله وفق رؤية جديدة. وفي الوقت الحالي الذي تعيش فيه أوروبا أزمة الديون والهجرة والتحولات الديمغرافية طفت على السطح مجدداً حركات يمينية قومية متشددة تسير على خطى جمهورية فايمار التي ابتدعها أدولف هتلر في ألمانيا لإنقاذ العرق الآري من الاندماج داخل مجتمعات أخرى. تحاول الكتل اليمينية التي أصبح لها تمثيلاً كبيراً في البرلمانات الأوروبية في العقد الأخيرة الإنقلاب على فكرة الهوية الأوروبية المشتركة لصالح الدولة القومية وتسعى إلى التصالح مع هويتها الدينية والقومية على حساب عوامل عديدة ساهمت في بناء الاتحاد الأوروبي لتجنيب شعوبه نفس المصير الذي عانته قبل الحرب العالمية الثانية. فالخلاف الحالي في أوروبا لا يتعلق بصراع حول الهوية السياسية للدولة بقدر ما يمكن  تشخيصه كصراع ما بين من يتبنون خيار الوحدة كحل مصيري لإنقاذ أوروبا من هلاكها المحتوم بسبب تأثير موجات الهجرة والأزمات الاقتصادية التي تضربها وضعف تأثيرها على الاقتصاد العالمي بفعل الصعود الصيني بالإضافة إلى أزمتها الأمنية لاسيما بعد تقوقع الإدارة الأمريكية أيضاً حول المفهوم الشعبوي لهوية الدولة والتهديد الروسي.

وأما الطرف الآخر الذي يمثله شخصيات مثل مارلين لوبان وماتيو سلفيني وفيكتور أوربانو والرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، يسعى إلى تشكيل بناء الدولة السياسي على أسس قومية بهوية دينية شعبوية بحثة هدفها بالدرجة الأولى التخلص من المهاجرين والملونين والمسير على خطى جمهورية فايمار وليس للأمر علاقة بالحفاظ على استقلالية القرار السياسي للدولة، فأوروبا التي أنقذت نفسها من الصراعات الداخلية عقب الحرب العالمية الثانية وإنهيار الرايخ الألماني تمكنت من ذلك بقيادة أمريكية كان محورها الرئيسي خطة (مارشال) التي صنعت الهوية الاقتصادية للاتحاد الأوروبي حتى أصبحت تلك الشعوب المتنوعة الأعراق واللغات تنساق لقوانين الوحدة الأوروبية، وانتقلت من تكتيل قواها ضد بعضها البعض إلى مجابهة العدو السوفيتي المشترك والأخطار المصيرية المشتركة.

في عالمنا الإسلامي والعربي وجدت نماذج عديدة للدولة القومية التي دفعت الشعوب ثمن مغامراتها، أبرزها مشروع الدولة القطرية لحزب البعث الإشتراكي الذي أراد تشكيل وطن عربي موحد وفقاً لأسس اليسار العربي طمعاً في أن يضمن هذا الكيان الوحدة على أسس قومية بعيدة عن الهوية الدينية للشعوب وهو من الناحية الظاهرة بالنسبة للكثير من العوام حالة انتصار على الضعف الذي تسببت به فرقة الشعوب والاستعمار لكن من حيث المضمون فالهدف الأساسي منه هدم الهوية الإسلامية لشعوب المنطقة واستبدالها بمجموعة قيم ومبادئ جلبها اليسار العربي من أدبيات كارل ماركس وفلاديمير لينين وجوسيف ستالين تضمن استبدال الإستعمار الغربي للمنطقة والمتمثل في النفوذ البريطاني والأمريكي والفرنسي بإستعمار بمفهوم جديد للاتحاد السوفيتي.

القومية بمفهومها العام هي جمع الناس وفق روابط الدم والعرق والتاريخ واللغة ضمن كيان سياسي وهوية واحدة بعيدة عن مضامين العقيدة وغاياتها، ومن شواهد تاريخنا الإسلامي والعربي على فشل هذا المفهوم ودوره التخريبي في تشويه الهوية العربية والإسلامية ومحاولة القائمين عليه تقزيم الهوية الدينية، تجربة جمعية " العربية الفتاة"  التي انطلقت في باريس عام 1909 على يد بعض الطلاب العرب لمواجهة جمعية" الاتحاد والترقي" التي كانت تدعم تتريك الدولة العثمانية على حساب الحقوق العربية.  ومن نتائجها تضخم الهوية القومية العربية وظهور عهد الانقلابات العسكرية التي رعتها في العالم العربي والإسلامي وساهم ذلك كثيراً في إخضاع المنطقة للإستعمار وتسهيل الشقاق والصراع بين بلدان العالم الإسلامي والعربي حتى يومنا هذا، فعلى سبيل المثال لا الحصر من أهم وأبرز النزاعات التي ورثتها القومية العربية لمصر والسودان الصراع على مثلث حلايب وشلاتين، كذلك الإرث الإشتراكي القومي الذي أصبح أتباعه يمارسون الإرتزاق على حساب قضايا شعوبهم وأمتهم الإسلامية وأبرز النماذج الحالية مساندتهم للنظام السوري وإيران ضد الشعب السوري.

هل الإسلام يؤيد القومية؟َ! هذا السؤال يطرح في سياق الحديث عن مضامين مفهوم (القومية)، ولا يطرح بصورة عامة. فالقومية بمفهومها العام يصفها الشيخ ابن باز رحمه الله بأنها: "دعوة جاهلية،إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه "، ويرى أنها أداة من أدوات  أعداء الإسلام للإنقضاض على الهوية الإسلامية للأمة.

وهنا يجب الإستطراد في تفسير معنى القومية سواء كهوية إجتماعية لغوية أو كهوية سياسية عصبية تضر المجتمع الإنساني أكثر من نفعها له. وهذا ما شخصه الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله:"ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".

يقول ربنا سبحانه وتعالى : }يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم{، في الآية يوضح القرآن الكريم المفهوم الذي حدده الله سبحانه وتعالى للقومية وجعل المضمون الوحيد فيه "التقوى" بصفتها معيار تحديد هوية الإنتماء للأمة المسلمة ولم يجعل اللغة أو العرق جزء من ذلك بل دعا الناس من شعوب الأرض كافة للإجتماع على المبادئ والقيم والتشريعات التي حددها الإسلام، وليس العدالة الإنتقائية التي اخترعها اليسار العربي لتدجين الشعوب تحت رايته.