مجلة البيان - الديمقراطية بين الفكرة والدولة في تونس

 الديمقراطية بين الفكرة والدولة في تونس
الديمقراطية بين الفكرة والدولة في تونس


أفضت نتائج الانتخابات التونسية بشقيها البرلماني والرئاسي إلى صنع هوية جديدة أفرزتها التجربة الديمقراطية التونسية التي طالما صُدِّرت على أنها نموذج ناجح لصادرات الليبرالية إلى الشرق الأوسط. انتهت نتائج الانتخابات البرلمانية إلى أن حصلت (حركة النهضة) ذات التوجه الإسلامي على 52 مقعداً من مقاعد البرلمان، بينما حصل حزب (قلب تونس) بزعامة نبيل القروي على 38 مقعداً، ليأتي بعد (النهضة) في الأكثرية رغم أنه وليد سقوط حزب (نداء تونس) الذي لم يحصل سوى على مقعد وحيد رغم هيمنته على البرلمان خلال انتخابات عام 2014م.

أما الانتخابات الرئاسية التي تصدَّرها قيس سعيد بنسبة 72.71% مقصياً منافسه نبيل القروي الذي حصل على 27.29%؛ كانت بمثابة صدمة لمترقبي إفرازات الديمقراطية على عكس من كان يتابع إعادة تشكل المنظومة القيمية التي أفرزتها الثورة التونسية بعد أن أحرق الشاب محمد بوعزيزي نفسه غضباً من الحالة الكارثية التي تمر بها بلاده.

مع بداية الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية كانت المنافسة المطروحة في سياق إفرازات الديمقراطية الطبيعية بين الرئيس السابق المنصف المرزوقي ورئيس الوزراء يوسف الشاهد ومهدي جمعة ونائب رئيس حركة النهضة عبد الفتاح مورو، وكذلك الشعبوي سيف الدين مخلوف وحمادي الجبالي نظراً لإرثهم السياسي والإعلامي الضخم، وكذلك حملاتهم الانتخابية الشرسة لكن بروز اسم رجل القانون قيس سعيد متصدراً الجولة الأولى ومنافساً شرساً أمام إمبراطور الإعلام وزعيم حزب (قلب تونس) نبيل القروي كان مفاجأة صادمة لمن وضع معايير الديمقراطية التونسية.

في البداية يجب التعريف بالهوية السياسية التي أفصح عنها قيس سعيد للناخبين الذين استهدفهم في القرى والمدن التونسية، والتي عنونها بموقفه ضد مفهوم (التطبيع مع إسرائيل) بصفته خيانة عظمى، ودفاعه عن الهوية الإسلامية للدولة التونسية بصفتها أبرز بنود الدستور، كذلك رفضه لتشريعٍ طُرِح في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الذي كان يقود حزب نداء تونس، حول المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة وتشديده على نبذ ظاهرة المثلية الجنسية. تلك الأجندة القيمية التي خاطبت الحس الشعبي والهوية القَبَلية التي تمثل الظاهرة الأعلى صوتاً في تونس؛ جعلت المعركة بين سعيد وغريمه نبيل القروي خريج مدرسة الحبيب بورقيبة والمتهم بقضايا تبييض أموال وتهرُّب ضريبي... جعلت المنافسة بينهما عبارة عن معركة بين الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في تونس منذ رحيل الاستعمار الفرنسي وبين تيار شعبي يميل إلى رفض كل ما له علاقـة بالهوية الفرنكوفونية التي يتبناها القروي بكل تفاصيلها. فقد سرَّبت وزارة العدل الأمريكية خلال الحملة الانتخابية للقروي وثيقة كشفت عن تعاقد الرجل الذي كان حينها يقبع في السجن بتهمة التهرب الضريبي وغسيل الأموال، مع ضابط المخابرات الصهيونية السابق، آري بن ميناشيه، الذي يرأس شركة (ديكنز ومادسون) للضغط والعلاقات العامة، لمساعدته في الضغط على الولايات المتحدة وروسيا لدعمه في الانتخابات الرئاسية مقابل مليون دولار.

لم يكن القروي الخيار الوحيد لتمثيل الهوية الليبرالية في الانتخابات؛ بل كان معه رئيس الوزراء يوسف الشاهد أحد أبناء نداء تونس، وغيره شخصيات يسارية ترفض الهوية الإسلامية للدولة؛ لكن على ما يبدو فإن ما جرى في تونس كان معركة قيمية أكثر منها إفرازات طبيعية لتجربة ديمقراطية عبَّرت عنها النتائج التي أفرزتها صناديق الانتخابات، لا سيما بعد أن فشل التيار الفرنكوفوني في إصلاح الحالة الاقتصادية والأمنية للبلاد؛ رغم سيطرته على البرلمان والرئاسة والحكومة منذ إندلاع الثورة وحتى آخر حكوماته التي يتزعمها يوسف الشاهد. إن أسباب الفشل التي كانت تعيق عمل الحكومات السابقة ربما لن تزيلها نتائج الانتخابات الأخيرة لكن - كما قال قيس سعيد في مناظرته الانتخابية -: «إن مجتمع القانون هو الذي يقضي على الفساد وليس دولة القانون»، لذلك بعد الانتهاء من عقبة تشكيل الائتلاف الحكومي - وهي مهمة صعبة جداً لا سيما في ظل الوعد الذي أطلقته حركة النهضة التي تمثل الأغلبية البرلمانية بعدم التحالف مع من «لطخوا أيديهم بالفساد» - فإن أمام الحكومة التونسية ملفات شائكة ضخمة أبرزها التخلص من أركان الدولة العميقة ومافيات القطاع الاقتصادي وهم يمثلون قوة داخل مؤسسات الدولة وأبرزها ملف فساد شركة فوسفات قفصة. 

ورغم أن رئيس الجمهورية قيس سعيد سيتمتع بصلاحيات واسعة تتعلق بالأمن والدفاع والخارجية، وكذلك له تأثير كبير على تعيين كبار موظفي الدولة وحل البرلمان. إلا أنه أمام عقدة كبيرة في ما يتعلق بالانسجام مع قادة الأجهزة الأمنية بمن فيهم اللواء حبيب الضيف مدير عام وكالة الاسـتخبارات والأمن للدفاع، وخريج مدرسة الأركان الفرنسية.

الترِكَة التي للمرة الأولى ستقع على كاهل الحكومة التونسية الجديدة والرئيس الجديد؛ سيكون لها تحديات عميقة تتعلق بالحالة الاقتصادية المرتبطة بشكل كبير بصندوق النقد الدولي، وكذلك الشراكة الاقتصادية مع فرنسا، بالإضافة إلى الأزمات الأمنية وملف الإرهاب الذي يعد أحد أهم الملفات التي أفشلت الحكومات السابقة، بالإضافة إلى الملف الليبي الذي تطرَّق إليه قيس سعيد خلال برنامجه الانتخابي مقترحاً استضافة حوار لكافة الأطراف الليبية في تونس؛ لكن الدعوة التونسية وجدِّية التوصل إلى حلول لأزمة ليبيا قد تنعكس سلباً على العلاقات التونسية مع جيرانها الإقليميين سواء في المغرب أو مصر اللتين كان لهما السبق في تبني ورعاية هذا الموضوع. لذلك يمكن اعتبار نتائج الانتخابات التونسية إعلان فشل لقدرة الديمقراطية على تحييد المجتمعات عن تطلعاتها القيمية وانهزامها أمام الهوية الجمعية للمجتمعات على حساب حق الفرد في تقرير من يمثله. ففي صندوق الانتخابات التونسي كان التصارع بين الليبرالية التي تمثل مصلحة الفرد وبين الهوية المجتمعية التي كانت تمثل مصلحة الجماعة، ورغم أن هناك كتلاً برلمانية صغيرة مثلت الهوية الليبرالية؛ لكن في الغالب انحاز الناخبون إلى مصالحهم أو تأثير الإعلام على العجزة وكبار السنة ونسبة كبيرة من العوام بخلاف الخطاب الشبابي الذي تطوع لحماية مجموعة مبادئ وتحويلها إلى منتصر في المعركة الانتخابية لذلك تعـد النتائج تراجعاً كبيراً للهوية الفرنكوفونية التي وضعها الاستعمار الفرنسي لتونس، وكذلك لقوة رأس المال التي كانت تصنع الكتل البرلمانية لضمان ترويض الناخبين والسيطرة على أصواتهم داخل صناديق الاقتراع.