إنما يتقبل الله من المتقين

إنما يتقبل الله من المتقين


الحمد لله رب العالمين، وخالق الناس أجمعين {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 94- 95] نحمده فهو الرب العظيم المحمود، ونشكره فهو الإله المعبود الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلقنا من العدم، وربانا بالنعم، ودفع عنا النقم، وأعطانا مما سألناه وما لم نسأل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ هدى الله تعالى به الناس فأخرجهم من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم، ومن عبودية الأنداد والشركاء إلى عبودية الله وحده لا شريك له؛ فمن اتبعه هدي ورشد، ومن عصاه ضل وغوى، ولا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله تعالى شيئا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على ما منّ به عليكم من مواسم الخيرات، فقد مرّ بكم رمضان فصمتموه، وأتاكم موسم الحج فتعبدتم في عشره الفاضلة التي هي أفضل أيام السنة، ومنكم من تيسر له أن يحج، ومن لم يحج صام عرفة وهو مكفر لسنتين، وضحّى وفي الأضحية أجر كبير {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36، 37].

أيها الناس: في مواسم الخيرات أعمال صالحات تعظم بها البركات، وتكثر فيها الحسنات، وترفع بها الدرجات، ويتسابق أهل الإيمان والعمل الصالح عليها، ويتنافسون فيها، فمنهم السابق ومنهم المقتصد، والمعول عليه في كل قربة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى هو القبول، فإذا قبل العمل ولو كان قليلا نفع صاحبه، وإذا رُدَّ العمل لم ينفع صاحبه ولو كان كثيرا، وقد قبل الله تعالى عمل بغي من بغايا بني إسرائيل سقت كلبا بموقها فغفر الله تعالى لها بهذا العمل، بينما سحب ثلاثة على وجوههم إلى نار جهنم رغم أن أحدهم قتل في الجهاد، والثاني أمضى حياته في العلم، والثالث أنفق ماله في كل وجوه البر؛ وذلك لأن أعمالهم لم تقبل لفقد الإخلاص فيها. 

ومن نظر في القرآن وجد أن القبول قد حصر في التقوى، ومن يا ترى يحقق التقوى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

قَالَ الْفَقِيهُ أبو الليث السمرقندي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: مَنْ عَمِلَ الْحَسَنَةَ يَحْتَاجُ إِلَى خَوْفِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ:

 أَوَّلُهَا: خَوْفُ الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

وَالثَّانِي: خَوْفُ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

وَالثَّالِثُ: خَوْفُ التَّسْلِيمِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، فَاشْتَرَطَ الْمَجِيءَ بِهَا إِلَى دَارِ الْآخِرَةِ.

وَالرَّابِعُ: خَوْفُ الْخِذْلَانِ فِي الطَّاعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يُوَفَّقُ لَهَا أَمْ لَا؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]

ومن العلماء من فسر التقوى في الآية باجتناب المحرم، سُئلَ الإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى عن معنى (المتقينَ) في آية حصر القبول في المتقين، فقالَ: يتقي الأشياءَ، فلا يقعُ فيما لا يحِلُّ له.

ومن العلماء من يحمل الآية على الورع باجتناب المتشابه وبعض الحلال، وجعله برزخا بينه وبين الحرام؛ كما جاء في الحديث الصحيح «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ».

سئل مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. قَالَ: «تَنَزَّهُوا عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي الْحَرَامِ، فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ مُتَّقِينَ».

ومن العلماء من يذكر مع اجتناب المحرمات: الإخلاص والمتابعة؛ كما نقل ابن رجب عن ابن عجلان قوله: العمل لا يصلح إلاّ بثلاث؛ التقوى لله عزّ وجلّ، والنية الحسنة، والإصابة.

وكل هذه المعاني المذكورة حول الآية صحيحة، والتقوى درجات، فمن حقق الإخلاص والمتابعة في عمله الصالح، واجتنب المحرمات كان من المتقين، وهو أحرى بالقبول ممن يقارف المحرمات. ومن ترقى إلى اجتناب المتشابهات كان ذلك أكثر لتقواه، وكان أقرب إلى القبول ممن يقع في المتشابهات.

لقد حمل الصالحون من المتقدمين والمتأخرين همَّ القبول أكثر من همَّ العمل؛ لأن العمل من كسبهم وسعيهم، ويقدرون عليه، ولكنهم لا يضمنون قبول العمل؛ فذلك إلى الله تعالى لا إليهم، وهو متعلق بإحسان العمل، من الإخلاص فيه، وصلاح القلب في أدائه، واجتناب أسباب الرد وعدم القبول. والقلوب تعيي من يعالجها، وإصلاحها أشد من أعمال الجوارح مهما كثرت؛ ولذا كان تفكر ساعة خير من قيام ليلة. قال مالك بن دينار رحمه الله تعالى: «الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل».

ويخبر ابن أبي رواد عما كان سائدا عند السلف الصالح في عمل العمل، والخوف من عدم قبوله فيقول: «أدركتهم يجتهدون في العلم الصالح، فإذا بلغوه وقع عليهم الهمّ أيتقبل منهم أم لا».

 إن آية تعليق قبول العمل بتحقيق التقوى قد عظم بها هَمُّ الصحابة والتابعين، وأبكت العباد الصالحين، وأقلقت الزهاد الورعين، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «كُونُوا لِقُبُولِ الْعَمَلِ أَشَدَّ هَمًّا مِنْكُمْ بِالْعَمَلِ، أَلَمْ تَسْمَعُوا اللَّهَ تعالى يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]».

ومن الصحابة من كان يتمنى أنه يعلم قبول عمل له ولو كان قليلا جدا؛ وذلك لعظمة القبول في نفوسهم؛ ولعلمهم أن من قُبل عمله نجي من العذاب، وفاز بالجنة والرضوان؛ لأن الله تعالى كريم يجزي على القليل كثيرا، فكان همهم متوجها إلى القبول، لا إلى العمل ولا إلى جزائه. قال فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ رضي الله عنه: «لَأَنْ أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ تَقَبَّلَ مِنِّي مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينِ} [المائدة: 27]».

وجاء سائل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فقال لابنه: «أعطه دينارا، فلما انصرف، قال له ابنه: تقبل الله منك يا ابتاه، فقال: لو علمت أن الله تعالى يقبل مني سجدة واحدة، وصدقة درهم؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت، أتدري ممن يتقبل؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]».

وكان من السلف من يبكي عند الموت خوفا من أن عمله لم يقبل منه كما وقع لعَامِرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن الزبير رحمه الله تعالى كان من مشاهير الزهاد العباد، ومع ذلك بكى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: «مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَيَّةٌ فِي كِتَابِ اللَّه تعالىِ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]».

فعلينا -عباد الله- بعد كل موسم من مواسم الطاعات أن يقع علينا هَمُّ قبول أعمالنا، مجتهدين في إكمال العمل وإخلاصه لله تعالى، ملحين على ربنا سبحانه بالقبول، مستغفرين من تقصيرنا فيما عملنا.

نسأل الله تعالى أن يقبل منا ومن المسلمين، وأن يجعلنا من عباده المخبتين، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم....

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

أيها المسلمون: كما أن مواسم الخير والبركة فرصة لاكتساب الحسنات، والتزود من الباقيات الصالحات؛ فإنها فرصة كذلك لتربية النفس على العمل الصالح، والاستمرار عليه بعد انقضائها؛ فإن المؤمن ما دام في الدنيا فهو في دار العمل والاكتساب، ولا يتوقف العمل إلا بموته {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

 والديمومة على العمل الصالح منهج نبوي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أمته به؛ فمن التأسي به عليه الصلاة والسلام أن يثبت المؤمن على ما عمل من الصالحات، ولا يقطعها بعد مواسم الخيرات. 

عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ، قَالَ: قُلْتُ: «يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الْأَيَّامِ؟ قَالَتْ: لَا، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً...» رواه الشيخان.

وفي رواية لمسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً».

 وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» رواه الشيخان.

فمن التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم الديمومة على العمل الصالح، وعدم قطعه، والعبد لا يدري متى يبغته الموت، فإذا مات على عمل صالح بعث عليه، وكان من الناجين الفائزين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وصلوا وسلموا على نبيكم....

 

أعلى