أيها الدعاة...!

أيها الدعاة...!

الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، وبعد ..

فإن إنجازات الصحوة الإسلامية بمختلف أطيافها الفكرية وتشكلاتها الإدارية ، كثيرة جدًّا ؛ ومن العدل المأمور به شرعًا الاعتراف بالفضل لأهله ؛ امتثالاً لقول الحق - جلَّ وعلا - : { وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ( البقرة : 237 ) .

ومع تلك الإنجازات المحمودة المشكورة : هل نستطيع القول بأن الصحوة الإسلامية تعيش أزمة ؟ وما معالم تلك الأزمة ومظاهرها ؟ وما السبيل لعلاجها ؟ والجواب : بالتأكيد هناك أزمة متعددة المظاهر والمعالم ، سوف نقف في هذه الافتتاحية على مشكلتين من أخطر المشكلات التي تواجهها :

المشكلة الأولى : اضطراب الخطاب الدعوي : وجد الإسلاميون أنفسهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في بؤرة الاتهام ، فاستُهلكت طاقات كثيرٍ منهم في دفع الشبهات والتُّهَم التي أُثيرت حولهم ، وسادت لغة الهزيمة الاعتذارية ، واستُدرج بعضهم إلى سجالات عقيمة ؛ ليقع في مآزق فكرية لم يحسب لها حسابًا .

ومن السهل عند غياب المنهج أو ضعفه ، أن ينجرَّ الخطاب الإسلامي بعيدًا عن ميدانه ، ويتيه في غير سبيله .

وفي هذه الأثناء تجددت الدعوة إلى بناء خطاب دعوي عصري يستوعب التحديات السياسية والثقافية التي تواجهه ، وهذا حَسَن بلا شك ؛ فالتجديد مطلب شرعي ، وأساليب الخطاب وقضاياه وأولوياته ينبغي أن تتجدد من عصر إلى عصر ، ويخاطَب الناس على قَدْر عقولهم ، ولا يجوز الانكفاء أو الانغلاق على أسلوب واحد مهما كان ناجحًا في وقت من الأوقات .

لكنَّ بعض المهتمين بشأن تجديد الخطاب الدعوي يغفلون عن قضية من أهم المرتكزات المنهجية ، وهي : أن التجديد لا يعني تحريف الدين ، أو كتم بعض أحكامه ومعالمه ، أو تطويعه ؛ ليتوافق مع أهواء الناس وقيم الفلسفة البشرية .

كما أن التجديد لا يعني التكلُّف في مداراة الفكر الغربي ومجاراة التيارات العلمانية والليبرالية في شعاراتها وقيمها المادية ، كما قال المولى - جلَّ وعلا - : } فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ( الشعراء : 150-152 ) ، وكما قال - سبحانه وتعالى - : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الجاثية :

18 ) .

لقد ركب هذه الموجة ثُلة من المفكرين المحسوبين على الصحوة الإسلامية ، وكانت البداية في ترجيح الاختيارات الفقهية الضعيفة بحجة التيسير ، دون التزام المنهج العلمي عند الفقهاء والأصوليين ، ثم انتهى عند بعضهم إلى الوقوع في إشكالات عقدية تناقض أصول أهل السُّنة والجماعة المتفق عليها .

إن الاضطراب والتذبذب في خطابنا الدعوي من علامات ضعف اليقين وقلَّة البضاعة ، وليس أضرَّ على الأمة من التفريط بثوابت الدين ومحكَمات الشريعة ، وقد أدى هذا الاضطراب إلى تضييع الفرص ، وتشتُّت الجهود ، وانتشار الحيرة والقلق في صفوف كثير من أبناء الأمة ، خصوصًا عند النوازل والمسائل الكبيرة !

تجديد الخطاب الدعوي المأمور به شرعًا ، إنما يكون على منهاج النبوة بالوحي المنزَّل ؛ وذلك بفهمه وتعظيمه والاستسلام لأمره ونهيه ، وعدم التقدم بين يديه ، وتنقيته من شوائب الضلالة ومفاسد أهل الأهواء ، ثم بحُسْن توظيف قواعده وكلياته ، وتنزيل أحكامه ومقاصده على واقع الأمة بفهم وبصيرة .

قال الله - تعالى - : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( الأنعام : 153 ) .

فالاستقامة على الهَدْيِ النبوي والتمسك بمحكمات الشريعة من الكتاب والسنة الصحيحة ، هي الطريق الصحيح لبناء خطاب دعوي متماسك يواجه طوفان الشبهات التي يثيرها بعض أدعياء الليبرالية ورءوس التغريب في مجتمعاتنا .

المشكلة الثانية : الأزمة الأخلاقية : اذهب إلى أي بلد شئت ، وتأمَّل حال الدعاة بمختلف أطيافهم الكبيرة والصغيرة ، المنظمة أو غير المنظمة ، فإنك ستجد شرخًا متجذرًا فَرَّق الصفوف ، وأذهب ريح الأمة ؛ فبين آونة وأخرى نسمع عن خلافات حادة بين الرموز الدعوية القيادية - فضلاً عن القواعد والأنصار - ثم تمتد هذه الخلافات والنزاعات إلى وسائل الإعلام التي تجد فيها مادة مثيرة للتسويق والتصعيد ، فيزداد التشنج والانفعال ، وتُشحَن الساحة الدعوية بالقيل والقال ، وتنتهي بعد ذلك إلى تصدُّعات وانشقاقات صاخبة .

ومع شدة المراء والجدل تبدأ بعض كوامن النفوس المريضة بالظهور ؛ فيعلو صوت الأثرة والأنانية ، ويكثر التهارش والتدابر والبغي ، وتُغلق أبواب الحوار والتصالح ، وربما تطلَّع بعضهم إلى الصدارة والرئاسة .

لقد عشنا فترة من الزمن نتألم من الخلاف والصراع الذي قد يحدث بين بعض السلفيين والإخوان ، وندعو إلى الحوار الجاد بعلم وعدل ، ونسعى لرأب الصدع وتقريب الإخوة لبعضهم ، ثم ها نحن نسمع الآن عن تصدعات مؤلمة داخل التيار السلفي نفسه من جهة ، وداخل التيار الإخواني من جهة أخرى ، ليس في بلد واحد فقط ، بل في عدد من البلدان .

ما الذي يجري أيها العقلاء ؟ لقد زهَّد بعضهم بالتربية ، وأُهمِلَت مناهجها الدعوية ، وهُجِرَ كثير من محاضنها الجادة ، ثم استُهلكت طاقات الدعاة في جوانب مفضولة لم تتذوق فيها حلاوة العبادة ، وأنس الصلة بالله ، جلَّ وعلا .فكانت هذه بعض الثمار .

إنها حقًا أزمة أخلاقية تؤكد أن التربية الإيمانية هي الركيزة الأساس التي ينبغي أن تُبنَى عليها الدعوات .

نعم ! إنها التربية التي تهذِّب النفس البشرية ، وتداوي أمراضها ، وتكبح جماحها ، وتسمو بها بعيدًا عن الحظوظ والشهوات ، وهي الضمانة الحقيقية التي تبني الصف وتوحد القلوب ، حتى عند الاختلاف وتباين الاجتهادات .

إنها مهمة عظيمة شُرِّف بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كما قال الله - تعالى - : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .

وفلاح الأمة أفرادًا وجماعات منوط بتزكية النفس وتطهيرها .

قال الله - تعالى - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ( الشمس :9-10 ) .

فهل يدرك الدعاة هذه الغاية العظمى ويجعلونها أصلاً أصيلاً في برامجهم الدعوية ؟

أعلى