• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أهمية إدراك الواقع في قيام النهضة

أهمية إدراك الواقع في قيام النهضة

ليس من شك بأن معرفة الذات ، ووعي الهوية ، وتوصيف الواقع شرط أساسي في قيام النهضة ونجاحها ، وهو أمر بدهي ، وإلا فكيف ستكون هناك نهضة عمران دون معرفة تضاريس الواقع وسلبياته وإيجابياته ؟ هذا ما تقوله تجارب الأمم ، وتؤكِّده قيادات الشعوب .

والآن إذا عدنا إلى بداية نهضتنا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، نجد اضطراباً واسعاً في تحديد هويتنا ، وتوصيف واقعنا ، وهو أمر غريب ولافت للنظر ، لكنه حادث وموجود ؛ فنجد أجوبة متعدِّدة على سؤال : من نحن ؟ مع أنه يُفتَرَض أن يكون هناك جواب واحد ، ينطلق من دراسة الواقع وتحليله ، فجاءت الأجوبة كما يلي : نحن أمَّة فرعونية ، نحن أمَّة سورية ، نحن أمَّة عربية ، نحن قطعة من أوروبا ، نحن أمَّة فينيقيَّة ... إلخ .

وكانت معظم الأجوبة - إن لم يكن كلها - لا تنطلق من الواقع بل تنطلق من نظريات ومقولات غربية ؛ ففي حال القول : نحن أمة مصرية أو سورية ، كان ذلك نقلاً عن النظرية الفرنسية التي تُغلِّب العوامل الجغرافية في إنشاء الأمة ، وفي حال القول : نحن أمة عربية ، كان ذلك نقلاً عن النظرية الألمانية التي تُغلِّب عاملي : اللغة والتاريخ في تكوين الأمم ، وكانت بعض الأقوال تُغلِّب العامل الاقتصادي : كما حدث مع النظرية الستالينية الماركسية التي اعتبرت الدولة القومية في القرن التاسع عشر من صُنْع البورجوازية من أجل الوقوف في وجه طبقة البروليتاريا ، وكانت بعض الأقوال تغلِّب المشيئة والإرادة في تكوين الأمم ... إلخ .

ومما يؤكِّد أن هذه الأحكام على هويتنا منقولة عن النظريات الغربية نقلاً حرفياً هو عدم قدرتها على تفسير واقع الوحدة الثقافية والشعورية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا ؛ ففي حال القول بالقومية العربية المستندة إلى النظرية الألمانية التي تُغلِّب عاملي : اللغة والتاريخ ، لم يوضح ساطع الحصري - وهو أبرز الآخذين بها - كيفية توحيد هذين العاملين للمشاعر والعواطف في أمتنا ، ولا كيفية صياغتهما للعادات والتقاليد الواحدة ، ولا كيفية بنائهما للثقافة الواحدة ، بل كانت كل أحاديثه منصبَّةً على دور عاملي : اللغة والتاريخ في إنشاء الأمم الأخرى :كالأمة الألمانية واليونانية والفرنسية ... إلخ .

وقُل الشيء نفسَه عن أنطون سعادة في قوله بالقومية السورية التي تغلِّب العوامل الجغرافية ؛ فهو قد تحدث عن السلالات والمتَّحدات وتطوُّر المجتمعات وتطوُّر الثقافات ودورها في إنشاء الأمم ، ولم يطبِّق ذلك على أمتنا ، ولم يبيِّن ( سعادة ) كذلك كيفية تكوُّن وحدة المشاعر والعواطف والعادات والتقاليد والثقافة والتراث المعنوي في الواقع المحيط به .

وكذلك دعا أحمد لطفي السيد إلى القومية الفرعونية .

لكنه لم يبيِّن لنا كيفية ارتباط واقع الشعب المصري وعاداته وتقاليده ومشاعره وثقافته ولغته بالواقع الفرعوني ، ولا يكفي وجود الأهرامات وبعض الآثار الفرعونية للقول بارتباط الشعب المصري في القرن العشرين بالتراث الفرعوني ؛ لأنه ليس هناك أية دلائل على هذا الارتباط ، وهذا غير كافٍ لربط الشعب المصري بالحضارة الفرعونية .

ثم جاءت حركة القوميين متأخرة في الخمسينيات من القرن الماضي لتزيد من حجم الابتعاد عن الواقع قي مقولتها للقومية ، وقد حدث ذلك عندما أدخلت شعوباً وأمماً سابقة في نطاق القومية العربية : كالفراعنة والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين والبرابرة ... إلخ .

وعلَّلت ذلك بأنها المرحلة غير الواضحة من القومية .

وللإجابة عن السؤال الذي أوردناه قبل قليل وهو : من نحن ؟فنجد أن الجواب عن هذا السؤال سهل ويسير ، وهو : نحن أمَّة إسلامية ، ربَّاها القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة ، وعندما نقول ذلك ، ننطلق من واقع الشعب والمجتمع والناس ، ولا ننطلق من خيال أو أوهام أو من حكم مسبق على الواقع ، أو من نظريات نودُّ تعميمها ؛ فالنظر إلى أخلاق الناس المحيطين بنا ، وعاداتهم وتقاليدهم ، وأساليب تفكيرهم ، ومشاعرهم ، وعواطفهم ، وتطلُّعاتهم ، وأهدافهم يقودنا إلى وجود وحدة في كل هذه الأمور مرجعها القرآن الكريم والسنَّة المشرفة .

ويمكن أن نرى الارتباط واضحاً بين الوحدة في كل المجالات السابقة وبين مصادر الوحي الإسلامي ؛ فتوحيد الله صاغ وحدة أفكار المسلمين ، وعبادةُ الله صاغت وحدة نفسياتهم ، وأحكامُ الحلال والحرام صاغت وحدة قيمهم ، والخوفُ من النار ورجاء الجنة صاغ وحدة مشاعرهم ، واستهدافُ العمران في الدنيا صاغ وحدة تطلعاتهم ، والاقتداءُ بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله صاغ وحدة عاداتهم وتقاليدهم ... إلخ .

إن الخطأ في فهم الواقع ومعرفة الذات هو الذي يجعل النهضة غير ممكنة ، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالحكم الذي شاع منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول العربية ، وهو القول بأن الشعوب الموجودة من المحيط إلى الخليج شكَّلت الأمَّة العربية ، والمقصود أمَّة عربية بالمعنى القومي ، أي أنها أمَّة شكَّل عنصرا : اللغة والتاريخ ثقافتَها وعاداتِها وتقاليدها وأخلاقها وقيمها ومشاعرها ونفسيَّتها ...

لذلك عندما جاءت الدولة القومية واستهدفت بناء نهضة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والحضارية والتربوية والفنية ، لم تلتفت إلى دور الدين في بناء هذا الواقع ، بل نظرت إلى الدين على أنه معوِّق للتقدُّم والبناء كما كان دوره في الغرب ؛ لذلك لا بدَّ من العمل على استئصال وجوده من حياة الناس ، وفي أحسن الأحوال لا بدَّ من تهميش دوره ؛ لذلك لم تتحقَّق النهضة ، بل كان هناك سقوط في مختلف المجالات ؛ وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك ، هو عدم الانطلاق من الواقع وعدم تمحيص الهوية وعناصر قيامها .

إن الممارسات التي قامت بها قيادات الفكر القومي العربي في مواجهة الدين خلال القرن العشرين في مصر و سورية و العراق و الجزائر و ليبيا و السودان وغيرها ، ومحاولة استئصاله من كيان الأمَّة ، وبخاصَّة عندما ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية المادية ، كانت من أصعب السنوات في حياة الأمَّة ، وسبَّبت ضعفاً في الأمَّة خلال قرن كان أشدَّ من كل الضعف الذي عرفته خلال القرون السابقة جميعها ، ويدل على ذلك نكبة عام 1948م ثم نكسة عام 1967م ، لكن الأمة استطاعت - بفضل الله ثم بفضل الحيوية الكامنة في جسمها - أن تتجاوز محاولات الاستئصال تلك ، وتتغلَّب عليها ؛ فكانت الصحوة الإسلامية التي استلمت قيادة الأمة ، وأعادت للدين وضعه الطبيعي ومكانته المطلوبة .

ويلحظ المتابع لأوضاع المنطقة في المدة الأخيرة أن هناك توجُّهاً إلى حلِّ مشاكل المنطقة بتطبيق الديمقراطية ، ويلحظ كذلك أن المتوجهين إلى تطبيق الديمقراطية ربما يقعون في الخطأ الذي وقع فيه السابقون ؛ وهو عدم الانطلاق من الواقع ، وهو ما سيؤدي بنا إلى سقوط آخر ، وخسارة جديدة نحن في غنى عنها ؛ لذلك يجب أن يكون أول درس نستفيده من التجارب السابقة هو أن نعي واقعنا ، ونحترم العوامل التي تشكِّله ؛ فهذا هو الأساس الأول للنهضة .

 

أعلى