إن تحقيق التوحيد يُسَلِّم العقائد والقلوب، ويُخلِّصها من شوائب الإلحاد والكفر والشرك والنفاق. وكلها مُدمِّرة للدِّين ومُبطِلة للأعمال.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين؛ محمد بن عبد الله، وعلى
سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فلتحقيق التوحيد فوائد جليلة وثمرات حميدة، منها ما يعود على الدين ذاته،
ومنها ما يعود على الفرد نفسه، ومنها ما يعود على المجتمع بأكمله.
ونتناول في هذه المقالة ما يتعلق بفوائد التوحيد وثمراته على الفرد نفسه، مرجئين
الحديث عن فوائده وثمراته على الدين ذاته والمجتمع بأكمله لحلقة تالية -بإذن الله
تعالى-.
فمن تلك الفوائد والثمرات ما يأتي:
الأولى:
إن تحقيق التوحيد وسلامة القلب سبب عظيم في الفوز بالجنة، قال -تعالى-: {يَوْمَ
لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ
88
إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:
88،
89]؛
أي القلب الصحيح السالم من الدنس والشرك والبدعة، المطمئن إلى السُّنَّة، المُوقِن
بأنه لا إله إلا الله، وأن الله حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث
مَن في القبور، وهذا هو قلب المؤمن؛ لأن قلب المنافق مريض، قال الله -تعالى-:
{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10][1].
وفي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاث مرات:
«يطلع
عليكم الآن رجل من أهل الجنة»،
فيطلع رجل من الأنصار في المرات الثلاث؛ فلما رصد عبد الله بن عمرو حاله عن قُرب
على مدى ثلاث ليالٍ، لم يَرَ منه كبير عمل؛ فلما سأله أجابه:
«ما
هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّا، ولا أحسد أحدًا
على خير أعطاه الله إياه»؛
قال عبد الله:
«فهذه
التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق»[2].
الثانية:
إن تحقيق التوحيد يُسَلِّم العقائد والقلوب، ويُخلِّصها من شوائب الإلحاد والكفر
والشرك والنفاق. وكلها مُدمِّرة للدِّين ومُبطِلة للأعمال.
الثالثة:
تحصيل رضا الله ومحبته وثوابه المترتب على حُسن الاعتقاد والدفاع عن العقيدة، وحصول
الشفاعة يوم القيامة، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قيل: يا رسول الله! من
أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«لقد
ظننتُ يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أولَ منك؛ لما رأيت من حِرصك
على الحديث. أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من
قلبه، أو نفسه»[3].
الرابعة:
حصول بركة العمل؛ فالعمل القليل مع التوحيد أعظم أجرًا ونفعًا من العمل الكثير مع
فساده أو ضعفه، فيضاعف الأجر لصاحب التوحيد الخالص بغير حَصْر ولا عدّ ولا حساب[4].
وقد ذكر الإمام ابن القيم -رحمه الله- أن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما
تتفاضل بتفاضل ما في القلوب؛ فتكون صورة الأعمال واحدة، وبينها من التفاضل كما بين
السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدًا وبين صلاتيهما كما بين السماء
والأرض، والمجاهدان: أحدهما في أعلى عليين باستشهاده في سبيل الله، والآخر ليس له
إلا الحبل الذي جاهد من أجله. وتأمل حديث البطاقة التي تُوضَع في كفّة، ويقابلها
تسعة وتسعون سجلًا، كلّ سجلّ منها مدّ البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا
يُعذّب، ومعلوم أن كل مُوحّد له هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه[5]،
لتفاوت ما بينهم في قوة التوحيد ورسوخه.
واعتَبِرْ بحال الصِّديق -رضي الله عنه-؛ فإنه أفضل الأُمّة بعد نبيها صلى الله
عليه وسلم ، ومعلوم أن فيهم مَن هو أكثر عملًا وحجًّا وصومًا وصلاةً وقراءةً منه.
وهذا موضوع المثل المشهور:
من لي بمثل سيرك المدلل
تمشي رويدًا وتجي في الأول[6]
وقال بكر بن عبد الله المزني -ويُرْوَى من قول أبي بكر بن عياش-:
«ما
سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيءٍ وقرَ في قلبه»[7].
وهذا مما يُعرَف به، أن أبا بكر -رضي الله عنه- لن يكون أحد مثله؛ فإن اليقين
والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد[8]،
ولنا في قصة الإسراء عبرة؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم يَصِف ما وقع له،
والمشركون يهزؤون به، فطارت فكرة شيطانية في رؤوسهم أن يقمعوا أبا بكر -رضي الله
عنه-؛ ليدمروا يَقينه بالرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه المُطلَق له، فذهبوا إلى
أبي بكر؛ فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك! يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت
المقدس، وصلى فيه ورجع إلى مكة! فقال لهم أبو بكر:
«إنكم
تكذبون عليه».
فقالوا: بلى ها هو ذاك في المسجد يُحدِّث به الناس، فقال أبو بكر:
«والله
لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟! فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من
السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه! فهذا أبعد مما تعجبون منه».
ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا
نبي الله! أحدَّثْتَ هؤلاء القوم أنك جئتَ بيت المقدس هذه الليلة؟ قال: نعم. قال:
يا نبي الله فصِفْه لي؛ فإني قد جئته، فرُفِعَ بيت المقدس لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ، حتى نظر إليه، فجعل يصفه لأبي بكر، ويقول أبو بكر: صدقتَ، أشهدُ أنك رسول
الله، كلما وصف له منه شيئًا قال: صدقتَ، أشهد أنك رسول الله، حتى إذا انتهى قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: وأنت يا أبا بكر: الصِّدِّيق؛ فيومئذ
سمَّاه الصِّدِّيق»[9].
فيا له من يقين لا يتزعزع ولا يتضعضع!
قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم
أقبل على الناس فقال:
«بينا
رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها؛ فقالت: إنا لم نُخلق لهذا! إنما خُلقنا للحرث»؛
فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم! فقال:
«فإني
أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر!».
وما هما ثم
«وبينما
رجل في غنمه إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة، فطلب حتى كأنه استنقذها منه، فقال له
الذئب: هذا استنقذتها مني! فمن لها يوم السبع؟! يوم لا راعي لها غيري!»
فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم! قال:
«فإني
أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر».
وما هما ثَمَّ[10].
فانظر كيف جزم النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-!
«وما
هما ثَمَّ»؛
أي أنهما لم يكونا حاضرَيْنِ.
ويروي أبو الدرداء -رضي الله عنه- في قصة اختصام أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«إن
الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله؛ فهل أنتم
تاركو لي صاحبي».
مرتين، فما أُوذِيَ بعدها[11].
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى في حيث أبي هريرة -رضي الله
عنه- لما سُئِلَ: أيُّ العمل أفضل؟ قال:
«إيمان
بالله ورسوله»،
قيل: ثم ماذا؟ قال:
«الجهاد
في سبيل الله»،
قيل: ثم ماذا؟ قال:
«حج
مبرور»[12].
فالجهاد فيه بذل النفس وغاية المشقة، والإيمان عِلْم القلب وعَمله وتصديقه، وهو
أفضل الأعمال، مع أن مشقة الجهاد فوق مشقة الإيمان بأضعاف مضاعفة.
فالنية الصالحة هي تجارة العلماء، فبها يبارك الله في العمل، وتتحول العادات إلى
عبادات، والعبادة الواحدة إلى عبادات متعددة؛ فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:
«...
وفي بُضْع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟
قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟! فكذلك إذا وضعها في الحلال كان
له أجر»[13].
ونيتك الصالحة تقودك للحق أكثر من قيادة عملك له، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنفال: 70].
ولو لم يكن من شؤم ضعف العقيدة إلا بطلان العمل الصالح بالشرك الأصغر (الرياء)
لكفى؛ فعن محمود بن لبيد -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن
أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»،
قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال:
«الرياء،
يقول الله -عز وجل- لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم
تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً»[14].
وتواطأ قول عبد الله وأبي الدرداء -رضي الله عنهما-:
«اقتصادٌ
في سُنَّة خيرٌ من اجتهاد في بدعة»[15].
الخامسة:
الترقي بمعتقدها من حضيض الجهل وربقة التقليد إلى ذروة العلم والإيمان واليقين
والاستدلال؛ فالجهلة المشركون لا يحتجُّون على جهلهم وشركهم بأكثر من تقليد الآباء،
كما ذكر الله ذلك في عدد من آيات القرآن، قال -تعالى-: {وَكَذَلِكَ مَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا
إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ} [الزخرف:
32]،
وقد مدح الله أهل الإيمان واليقين والعلم في قوله -تعالى-: {يَرْفَعِ اللَّهُ
الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:
11]، فيخرج المسلم من كونه من مُسلمة الدار الذين وجدوا آباءهم على دين فهم على
آثارهم مقتدون، والذين يردِّدون ما يسمعونه من الآباء دون وعي ولا عِلْم ولا
اقتناع، لتَحرفهم أدنى شُبهة، وتجرفهم أدنى شهوة، ويستنسخوا أخطاء الآباء، ليكون
المسلم بتعلُّم التوحيد واعتقاده من مُسلمة الاختيار، الذين اعتنقوا ما يعلمونه
ويدركونه، فآمنوا عن علم واقتناع وتسليم ويقين.
السادسة:
تكفيره للذنوب ومحوه للخطايا، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«إن
الله -عز وجل- يستخلص رجلاً من أُمّتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه
تسعة وتسعين سجلاً، كلّ سجلّ مدّ البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك
كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا
رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظُلْم اليوم عليك، فتخرج له بطاقة فيها:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما
هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تُظْلَم، قال: فتُوضَع السجلات في كفة،
قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقلُ معَ اسمِ اللَّهِ شيءٌ»[16].
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«تُفتح
أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيُغفر لكلّ عبد لا يُشرك بالله شيئًا، إلا
رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أَنْظِروا هذيْن حتى يصطلحا، أَنظِروا
هذين حتى يصطلحا»[17].
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«...
ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا لقيته بمثلها مغفرة»[18].
السابعة: حصول الأمن والطمأنينة والراحة النفسية للمُوحّد في الدنيا والآخرة؛ فالله
-جل وعلا- يدفع عن الموحدين أهلِ الإيمان شرورَ الدنيا والآخرة، ويَمُنّ عليهم
بالحياة الطيبة؛ قال -تعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:
79]،
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: لما نزلت: {الَّذِينَ آَمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:
28]،
شقَّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا: يا رسول الله! فأينا لا
يظلم نفسه؟ قال:
«إنه
ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:
41]؛
إنما هو الشرك»[19].
فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الظلم الذي هو الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه
بما دون الشرك كان له الأمن التامّ والاهتداء التامّ، ومَن لم يَسلم مِن ظلم نفسه
كان له مُطلَق الأمن والاهتداء، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة، ولكن يحصل له من
نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظُلْمه لنفسه، إلا أنّ عاقبته إلى
الجنة، فمن أتَى بالتوحيد تامًّا فله الأمن التام، والاهتداء التامّ، ودخل الجنة
بلا عذاب، ومن أتَى به ناقصًا بالذنوب التي لم يَتُب منها: فإن كانت صغائر كُفِّرت
باجتناب الكبائر كما في آيتي النساء والنجم، وإن كانت كبائر فهو في حكم المشيئة؛ إن
شاء الله غفر له، وإن شاء عذَّبه، ثُمّ مآله إلى الجنة.
وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«من
شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد
الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله
الجنة على ما كان من العمل»[20][21].
فهذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيَّدة بـ: قالها خالصًا
من قلبه. مستيقنًا بها قلبه. غير شاكٍّ فيها. بصدق ويقين.
فإن حقيقة التوحيد: انجذاب الروح إلى الله جملةً، فمن شهد أن لا إله إلا الله
خالصًا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله -تعالى- بأن يتوب
من الذنوب توبة نصوحًا؛ فإذا مات على تلك الحال نال ذلك.
وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة
وهذا اليقين لا تترك له ذنبًا إلا يُمحَى، كما يُمحى الليل بالنهار، فإذا قالها على
وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر؛ فهذا غير مُصِرّ على ذنب أصلًا فيغفر
له ويحرم على النار، وعلى ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث عتبان بن مالك -رضي الله
عنه-، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«فإن
الله قد حرَّم على النار من قال لا إله إلاَّ الله يبتغي بذلك وجه الله»[22]،
وفي حديث معاذ -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«وحقّ
العباد على الله أن لا يُعذّب مَن لا يشرك به شيئًا».
فقلت: يا رسول الله أفلا أبشّر به الناس؟! قال:
«لا
تبشرهم؛ فيتكلوا»[23].
وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأتِ بعدها بما يناقض
ذلك؛ فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث
البطاقة؛ فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف مَن
رجحت سيئاته على حسناته، ومات مُصِرًّا على ذلك فإنه يستوجب النار، وإن قال
«لا
إله إلا الله»،
وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على
حسنة توحيده فإنه في حال قولها كان مخلصًا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد
والإخلاص فأضعفته وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن فإن
حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مُصِرًّا على سيئة؛ فإن مات على ذلك
دخل الجنة[24].
والشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت
له النار، ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل
الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر
ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، حتى يُطَهّر بها، ثم مآله إلى
الجنة، فالشرك يُؤاخَذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرًا أصغر، والأصغر القليل
في جانب الإخلاص الكثير لا يُؤاخَذ به[25].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله -تعالى-:
«فالإحسان
له جزاء معجّل ولا بدّ، والإساءة لها جزاء معجّل ولا بدّ، ولو لم يكن إلا ما
يُجازَى به المحسن من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه -عز
وجل- وطاعته وذِكْره ونعيم روحه بمحبته. وذِكْره وفرحه بربه -سبحانه وتعالى- أعظم
مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه. وما يُجازَى به المسيء من ضيق
الصدر وقسوة القلب وتشتُّته وظُلمته وحزازاته وغمّه وهمّه وحزنه وخوفه. وهذا أمر لا
يكاد مَن له أدنى حسّ وحياة يرتاب فيه. بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات
عاجلة، ونار دنيوية، وجهنم حاضرة. والإقبال على الله -تعالى- والإنابة إليه والرضاء
به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته، ثواب عاجل،
وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه ألبتة.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدَّس الله روحه- يقول: إن في الدنيا جنة، مَن لم
يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري! إن رحت فهي معي لا
تفارقني؛ إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.
وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه
النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير.. ونحو هذا.
وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذِكرك وشكرك وحسن عبادتك، ما شاء
الله. وقال لي مرة: المحبوس مَن حُبِسَ قلبه عن ربه -تعالى-، والمأسور من أَسره
هواه.
ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه، وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ
بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذَابُ} [الحديد: 13]، وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع كل
ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدّها، ومع ما كان فيه من
الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم
قلبًا، وأَسَرِّهم نفسًا، تلوح نَضْرة النعيم على وجهه.
وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن
نراه ونسمع كلامه؛ فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان
من أشهد عباده جنّته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من رَوحها
ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه
بالسيوف.
وقال آخر: مساكين أهل الدنيا! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها. قيل: وما أطيب ما
فيها؟ قال: محبة الله -تعالى- ومعرفته وذِكْره، أو نحو هذا...
فبمحبة الله -تعالى- ومعرفته، ودوام ذِكْره والسكون إليه والطمانينة إليه وإفراده
بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة؛ بحيث يكون هو وَحْده المستولي على هموم
العبد وعزماته وإرادته: هو جنة الدنيا، والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرَّة عين
المحبين، وحياة العارفين. وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله -عز
وجل- فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على
الدنيا حسرات»[26].
واعتبر وقت الجوائح والكوارث والأوبئة بحال مَن لا يؤمن بالقضاء والقدر ولا بقدرة
الله -تعالى- ولا برحمته -سبحانه-، كيف يعيش في همّ وغمّ وجحيم وتوجُّس.
(يتبع)
[1] يُنظر: تفسير ابن كثير 6/149، و7/23، 24.
[2] والحديث بتمامه في مسند الإمام أحمد (12697)، وصححه ابن كثير في التفسير
(8/70).
[3] أخرجه البخاري (99).
[4] يُنظر: القول السديد شرح كتاب التوحيد: 61.
[5] يُنظر: مدارج السالكين: 1/331، 332.
[6] يُنظر: مفتاح دار السعادة: 1/82.
[7] أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وأشار العراقي في تخريج إحياء علوم
الدين إلى أنه ليس مرفوعًا، يُنظر: كشف الخفاء للعجلوني (2228).
[8] يُنظر: منهاج السنة النبوية: 6/223.
[9] يُنظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2/244، 245.
[10] أخرجه البخاري (3284).
[11] أخرجه البخاري (3461).
[12] أخرجه البخاري (26).
[13] أخرجه مسلم (1006).
[14] أخرجه الإمام أحمد (23630)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1555).
[15] السنة للمروزي: 1/30، الأثر 89، و1/32، الأثر 100.
[16] أخرجه الترمذي (٢٦٣٩)، وأحمد (٦٩٩٤)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي:
(٢٦٣٩).
[17] أخرجه مسلم (2565).
[18] أخرجه مسلم (2687).
[19] أخرجه البخاري (3181) و(3246) و(6538)، ومسلم (124).
[20] أخرجه مسلم (28).
[21] يُنظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 7/81، 82.
[22] أخرجه البخاري (5086)، ومسلم (263).
[23] أخرجه البخاري (2701)، ومسلم (49).
[24] يُنظر: تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد: 87-89.
[25] يُنظر: تيسير العزيز الحميد بشرح كتاب التوحيد: ص97، 98.
[26] الوابل الصيب: ص69-71.