فالفكر النازي عنصريّ بلا شك، ولكن لننظر إلى سلوك هؤلاء العلماء، ومواقفهم، وكيف أنهم انحازوا للعنصرية، على حساب القِيَم الإنسانية. وكيف أن ديننا الإسلامي لا يعرف تميّز عِرْق أو لون على بقية البشر؛ فالناس جميعًا سواسية كأسنان المشط، ما يُميّزهم إلا التقوى
يقودنا مفهوم التَّحيُّز، بزواياه وأبعاده المختلفة، وخاصةً عندما يقترن بآفتي
«الهوى
والتعصُّب»
إلى الوقوع في شِرَاك التَّحيُّز في مَنْحَاه القبيح، لا سيما عندما يتحول
المُفكّر/ المثقف/ المُحاوِر/ العالِم/ الباحِث من حالة العلمية إلى حالة
اللاعلمية؛ فالعلمية تعني: موضوعيةً، أمانةً، ثقةً، نزاهةً، تجرُّدًا، تقديرًا،
سُمُوًّا، عمقًا، استدلالاً، حِجَاجًا..، أما اللاعلمية، فهي شكوك، تعصُّب، انحياز،
جدال، احتقار للآخر، رفض البرهنة، دوجماطيقية.
وهذه تتم بأشكال وطرق مختلفة؛ فهناك علماء وفلاسفة وباحثون تحيّزوا لصالح مَن
يعملون معه، وناصروا الطغاة دون أدنى اهتمام منهم بما يرتكبونه، والمثال الأبرز على
ذلك تجربة
«أدولف
هتلر»
في ألمانيا النازية؛ فكثير من العلماء في تخصُّصات مختلفة أيَّدوا ما ذهب إليه هتلر
في حكمه، والذي استند على فكرتين رئيستين؛ الأولى: تصنيف البشرية وترتيبها على أساس
عِرْقي، والثانية: التمسك بالدولة الوطنية بوصفها الأداة الأوحد لتحقيق الهدف
الأول. فقد صنّف الفكر النازي الشعوب على أساس هرم المجموعات العِرْقية، ووضَع
العِرْق الآري الجرماني في قمة الهرم، وتبعه بالأعراق القريبة منه في النّسب مثل
البريطانيين وشعوب الفايكنغ القاطنة بأوروبا الشمالية، أما الغجر واليهود والروس
فهم في أسفل الهرم، وبلغت بشاعة النازية عندما آمنت بإمكانية تحسين الجنس البشري
بالقضاء على المعوّقين وأصحاب التشوّهات والأجناس الدنيا في التصنيف العرقي الذي
وضعته، فكانت المذابح المعروفة.
الشاهد أن عددًا من العلماء الألمان في الأنثروبولوجيا ساندوا هتلر فيما ذهب إليه
من تميُّز العرق النازي، وهذه جريمة علمية، وليست أكذوبة، وهناك مَن أيَّدوه في
برامجه التسليحية المدمِّرة، مثل غاز السارين السام، وسلاح الطاعون المميت، وكان
منهم مَن اخترع عقاقير الهلوسة لانتزاع الاعترافات من السجناء، ناهيك عن اشتراكهم
في صناعة الأسلحة شديدة الفتك. وللأسف هؤلاء العلماء انتقلوا بعد ذلك إلى الولايات
المتحدة الأمريكية، وغيّروا من قناعاتهم، وواصلوا بحوثهم. وكان منهم من يخرج في
مناظرات علنية يؤيد ادعاءات النازية، ومقولاتها، ويثبتها طبيًّا وعلميًّا
وتاريخيًّا، وأنها تستحق أن تكون فوق البشر جميعًا[1].
فالفكر النازي عنصريّ بلا شك، ولكن لننظر إلى سلوك هؤلاء العلماء، ومواقفهم، وكيف
أنهم انحازوا للعنصرية، على حساب القِيَم الإنسانية. وكيف أن ديننا الإسلامي لا
يعرف تميّز عِرْق أو لون على بقية البشر؛ فالناس جميعًا سواسية كأسنان المشط، ما
يُميّزهم إلا التقوى والعمل الصالح والعلم النافع.
على جانب آخر، نواجه في هذا الصدد نوعيةً من المفكرين، الذين يدَّعُون التجديد،
وينادون بالإصلاح، ويقرأون التراث وفق منهجية مستقبلية كما يَدَّعون، مستخدمين في
ذلك منهجيات العلوم الإنسانية بمرجعياتها الفلسفية الغربية. ولعل مشروع حسن حنفي
الذي صاغه في عشرات الكتب والبحوث يسير وفق ذلك، بجانب مئات الندوات والمناظرات
المرئية والمكتوبة التي خاضها من أجل الانتصار لما نادى به.
والمشكلة أنه ادّعى الحيادية والموضوعية في قراءته للتراث الإسلامي، ولكنه سقط في
أزمة التَّحيُّز لقناعاته المسبقة، بمعنى أنه ولج إلى قراءة التراث، وهو راغب في
الانتصار لمرجعيته الفلسفية الماركسية، وقدّمها في نهايات كتبه وأبحاثه -وما
أكثرها- على أنها خيار لا بد منه. وتأتي هذه المقولات بخطابية مباشرة، ربما لا
تتناسب مع السياق الذي ذُكِرَتْ فيه، فمثلاً في كتابته عن عِلْم أصول الدين المختصّ
بالعقيدة الإسلامية وأبحاثها، كان منهجه تجميعيًّا أقرب إلى الطابع التعريفي بهذا
العِلم وما يتفرع منه، وفي نهاية الفصل، يقول:
«إن
ظروفنا الحالية وحياة المسلمين الآن، جديرة بتوليد فِكر جديد حتى تظهر العقيدة
الإسلامية في مواجهة مشاكل المسلمين الحالية، وبالتالي تتحول العقيدة الإسلامية إلى
تقدّم في مواجهة التخلّف، وإلى تحرّر في مواجهة الاستعمار، وإلى عدالة اجتماعية في
مواجهة التفاوت الطبقي، وإلى توحيد للأمة في مواجهة تفككها. حينئذ يصبح عِلم
التوحيد هو عِلم نهضة المسلمين، وتصبح العقيدة الإسلامية هي الأيديولوجيا الثورية
لجماهير المسلمين»[2].
الكلام في ظاهره ثوريّ تجديديّ، ولكنه محمّل بمفردات الفكر الماركسي ومصطلحاته:
التفاوت الطبقي، العدالة الاجتماعية، الأيديولوجيا الثورية..، فهو ولج إلى قراءة
التراث منتصرًا للماركسية فكرًا وتوجُّهًا ومنهجًا، وتلك حرية فكرية له، ولكنّ
المشكلة في أنه نادى بمبادئ وأفكار موجودة وجوهرية في الشريعة الإسلامية، خاصةً أنه
في نفس الموسوعة المشار إليها[3]،
عرض بشكل مفصل عِلْم أصول الفقه، وعِلم المقاصد الشرعية، وعِلم الفقه، وما فيه من
رؤى اقتصادية، والفلسفة الإسلامية وغيرها، بجانب المصدرَيْن الأساسيَّيْن وهما
القرآن الكريم والسُّنة المطهّرة. ففي كل هذا الكثير من القِيَم والمبادئ والأخلاق
والفكر عن العدالة الاجتماعية، والمساواة بين الناس جميعًا، مسلمين وغير مسلمين،
وعن العدل في أبهى وأسمى تطبيقه، وعن رفض التخلّف، والاهتمام بالعلم، والسعي إلى
التقدم.
كل هذا يمكن أن يُؤخَذ منه الكثير من التنظير الأيديولوجي المعاصر، الذي يُمكّن
المجتمعات الإسلامية من النهضة، مرتكزة على التراث الإسلامي العظيم، ودون وجود
مخاصمة مع التاريخ والحضارة والهوية الإسلامية. فهناك دول عربية ومسلمة، تمسّكت
بالحداثة بمفهومها الغربي، الذي يعني القطيعة مع التراث ومع الدين، ووصل بها الحد
إلى منع الكتابة بالأحرف العربية، ومنع الحجاب، ومنع أي شعارات إسلامية أو دينية،
بل وتحقير التاريخ الإسلامي وحضارته، فكانت النتيجة أنها دخلت في خصومة مع تراثها
وهويتها؛ لأن المسألة ليست قرارًا سلطويًّا حكوميًّا، يتم اتخاذه من أعلى، وإنما لا
بد من القيام بعملية تحديث ونهضة دون قطيعة مع التراث والهوية. فهويتنا الإسلامية
العربية فيها مبادئ وقِيَم غاية في السُّموّ، مثل الشورى، الحرية، العدالة،
المساواة، والتواضع، بجانب مقاصد الشريعة الإسلامية العظمى فيما يسمى بـ»الكليات
الخمس»،
وكلها لا تتعارض مع التطوُّر، بل على العكس تساهم في هذا التطور؛ لأن الإسلام يحضّ
على العلم والعمل والابتكار والهمة والنشاط ومساعدة الفقراء، وغير ذلك.
فلا ممانعة أبدًا من تجديد التراث، ولا نقده، ولا تمييز ما نحتاج إليه منه مما
لا نحتاجه، فالتراث كُتِب في حِقَب تاريخية ممتدة لما يقارب من أربعة عشر قرنًا،
وهي كتابات تتناسب مع حِقَبها التاريخية، ومن الممكن غربلتها وإعادة قراءتها. وهو
ما ينادي به حسن حنفي في كتبه ومناظراته، ولكنَّ المشكلة في تحيُّزه المسبَق
للنموذج الغربي عامة، وللفكر الماركسي خاصة، وهو ما ينطبق عليه وعلى غيره من
المفكرين العرب في العصر الحديث، الذين يضعون النظام الغربي مسطرة تُقاس عليها
الأمم في تقدُّمها، وأنه يجب فَصْل الدين عن الحياة حسب النظام العلماني الغربي.
فمثلاً يرى حنفي أن التراث عقيدة واهتمام بالله والرسول والصحابة والشعائر
الدينية، أما التجديد فهو الثورة، التي تهتم بالإنسان. وهو ما يقدم فقرة مبتسرة عن
التراث؛ لأن التراث شامل لفكر وفقه وأصول فقه وشريعة ومقاصد وفنون، فلا يمكن اختزال
كل هذا في عقيدة أو فقه فقط، أيضًا فإن الإسلام نفسه دين إنساني، والإنسان المسلم
ساهَم في تطوُّر المجتمعات ونشأة الحضارة الإسلامية تطورًا عظيمًا، بل لا حضارة
إسلامية دون الإسلام وتفاعل المسلمين معه، وإبداعهم في هدي عقيدته وشريعته وفكره.
إلا أن حسن حنفي -كما يرصد بعض الباحثين- ينطلق من تحيُّز مسبق، فيسقط في
الانتقائية وليس في الانتخاب الثقافي؛ فينتقي من التراث ما يتفق مع فِكره، ومع
البدائل الغربية التي ينتصر لها، مما يقضي على تاريخية التراث، بفصل أجزائه عن الكل
الذي نشأ فيه، كما تغلب عليه النزعة البراغماتية بالقفز على تاريخية المعارف
والمفاهيم والتضحية بالدقة العلمية، بجانب القفز في الدلالات من القديم إلى الحديث
دون تأسيس ولا تبرير علمي، فهو يجعل التراث أزمة الإنسان، وأزمة التحديث، وأزمة
الحريات، وهو ما يتناقض مع ما ينادي به من كون التراث مخزنًا نفسيًّا مُهمًّا لدى
الجماهير.
[1] انظر للمزيد: حروب العقل: تاريخ سيطرة الحكومات والإعلام والجمعيات السرية على
العقل ومراقبته، ماري د. جونز، لاري فكسمان، ترجمة: نور الدائم بابكر أحمد،
العبيكان للنشر، الرياض، ط1، 1437هـ، 2017م، ص69 – 71.
[2] علم أصول الدين، د. حسن حنفي، ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية، دار
الفارس للنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1995م، ج2، ص47.
[3] كتب د. حسن حنفي في الموسوعة السابقة، ج2، أبواب: أصول الدين، ص7، علم أصول
الفقه ص51، العقل والنقل ص101، وكلها علوم تتصل بلُبّ الشريعة ومبادئها وتطبيقاتها
الحياتية وتجلياتها الفكرية.