الانتقام

الانتقام


كان يسير في شرود وسط الزحام، هذه هي المرة الأولى التي لم يتضجر فيها ولم يكيلَ سيلَ السباب واللعن... كانت عيناه شاخصتان نحو القمة، الكلمة التي ألهبت وجدانه ورسمت خطاه، وبسطت له كل عقبة، وسهلت له كل صعب... فجأة مرَّ شيء في مخيلته، قطَّبَ جبينه، توقف، تصبب عرقاً، انكمشت يده أكثر ثم عاد يبسطها، تأمل ما في يده، تحركت شفتاه: نعم، لقد حانت لحظة الانتقام. نظر مرة أخرى، ثم جالت عيناه المجهدتان في السماء، فبرق الدمع على صفحتيهما، ضم يده إلى صدره يحاول جاهداً الحدَّ من تسارُع نبضات قلبه، فجادت سحائب عينيه وانهمر الدمع مدراراً!

إنها المرة الأُولى التي لم يخجل فيها من دمع عينيه، ربما لم يطق ما يعتمل داخله! ربما لأن الكون اكتظ بالقادمين والذاهبين، ولا أحد يكترث به! أو ربما هناك من يشاطره الدمع بين هذه الجموع! لكن دموعه تختلف! جلس تحت شجيرة على كومة من التراب، وعاد يتفحص ما في يديه، عبس وأدار شريط حياته، وأخذ يتساءل: أليس هو من أحاط حياتي بسديم التيه، وصبغها بالعتمة والظلام؟ هو من قادني في رحلة بلا وطن، فلا أرى إلا ما يراه! ولا أعقل إلا ما يشير! اشتد حَنَقَه فرفع يده وقال: هل تكفي هذه لتروي صحارى روحي، تذيب الجليد من قلبي، وتسدل الستار على... لم يستطع المتابعة. انتابته غصة، فطأطأ رأسه في خزي من صفحاته الماضية.

مالت الشمس للمغيب، فماجت الدنيا حوله بالزحام. الوجوه كالحة لكن يشع منها النور... تهادت لمسامعه عبارات الرضا والقبول، فغاص في الألم أكثر وهمس: لا أحد يشعر بهذا البركان داخلي، باللهيب يحرقني، إنهم لا يذوقون المرارة التي أتجرعها، لم يشهدوا كيف يُقتل المرء في اللحظة ألف مرة! أغمض عيني محدثاً نفسه: السعادة في الوصول للقمة مهما يكن الثمن، مهما بلغت التضحيةهذه كلماتهصَم بها آذناي، آهٍ هل للطريق من عودة فأرتمي في أحضان أمي.أعود صغيراً بين ذراعيها، ألثم جبهة أبي، أعيش لحظات الأخوة، أضُم أبنائي وأقبِّل أعينهم البريئة؟

تساقطت الدمعات مع ذكريات السقوط والانحدار، مسح عينيه بظاهر كفيه يحاول جاهداً أن يجد إجابة لحيرته: لماذا الآن يكبلني التردد؟ أليس هو محرك تعاستي؟ كم يكفي من الطلقات والرشقات لأرديه صريعاً؟ عندها أتخلص من نديم الهوى، وقرين الشر والظلال...

آذنت الشمس بالمغيب، أدرك حينها أن الزمن لا ينتظر فعليه أن يتعلق بخيوطها الذهبية قبل الأفول، لمعت عيناه ببريق جديد، وأخذ نَفَساً عميق ليحرر باقي أنفاسه من كل القيود السابقة، ويخلع عنه ثوب الوهن، فهب واقفاً، وخطى خطواته الواثقة في ما يريد... صعد الجبل الشامخ منذ الأزل نحو القمة.

هتف صوت بداخله: سبع حَصيَّات هي فيصل بين الحق والباطل، بين النور والظلام... من هنا سأقطع كلَّ وشائج وعلائق الهوى والعصيان... من هذه اللحظة لن يكون للشيطان إليَّ سبيل، لن اتخذه وكيلاً، ولن يعود ما دمت حياً خليلاً. حياتي من الآن وصاعداً: }اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِـمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْـمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ{ [الأنفال:42]. وشعاري فيها} :إنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ{ [الأعراف:196]. قدوتي محمد # وصحبتي هم المؤمنون، أخلائي هم الصالحون ودليلي فيها }وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْـمُؤْمِنُونَ{ [التوبة:105]، وغاية أملي رضا رب العالمين.

أعلى