الحسبة بين مطرقة الصبر وسندان المجتمع

الحسبة بين مطرقة الصبر وسندان المجتمع


لقد وعد الله – سبحانه - عباده المؤمنين بجزيل الشكر، وواسع الرحمة، وذلك في الدنيا قبل الآخرة، وقد يجد عباد الله المخلصون ذلك فيما يجري حولهم ممَّا قد يظنه كثير من الناس ابتلاءات تلو ابتلاءات، وإن كان ذلك في الظاهر حقيقة إلا أن من وراء الستار ما تطيب به نفس المؤمن؛ فإنه ليعلم يقيناً أن ما يلقاه في الدنيا شيء يسير عمَّا ينتظره عند ربه، وكما روى أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)[1]، وهذا يعني أن الدنيا مهما عظم نعيمها وطابت أيامها، وزهت مساكنها فإنها للمؤمن بمنزلة السجن؛ لأن المؤمن يتطلع إلى نعيم أفضل وأكمل وأعلى، وأما بالنسبة إلى الكافر فإنها جنته؛ لأنه ينعم فيها وينسى الآخرة.

وإن كان الله – القدير – سيجازي المؤمنين يوم القيامة بالعطاء الجزيل، فإن المؤمنين بقدر أعمالهم، وما قاموا به في الدنيا من أعمال صالحات، وما أصابهم من أذى؛ وغيره ممَّا يتقرب به العبد من ربه – تعالى – لهو سبب لرفعة درجات العباد في جنات عدن، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وإنَّ من أعظم تلك الأعمال اقتران العمل الصالح بما يلاقيه المسلم جراء ذلك العمل، وهذا يظهر بجلاء حين يتعامل المحتسب مع أفراد مجتمعه مع اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم.

إن الأعمال الصالحة متفاوتة في الأجر؛ وذلك يرجع لعدة معايير من أعلاها الصبر فكما قَالَ: اِبْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم “اَلْمُؤْمِنُ اَلَّذِي يُخَالِطُ اَلنَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنْ اَلَّذِي لَا يُخَالِطُ اَلنَّاسَ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ“ أَخْرَجَهُ اِبْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ؛ فإن مخالطة الناس لا بدَّ أن يكون فيها بعض من الشقاء والعناء، ولا بدَّ أن يكون فيها بعض من النكد والضيق، ولكن على المؤمن عموماً والمحتسب على وجه الخصوص أن يصبر على مخالطة الناس وعلى ما يصدر منهم من أذى، وأن يحتسب الأجر في ذلك، وأن ينظر دائماً إلى الناس بعين الرأفة والرحمة، فإن الناس محتاجون إلى المحتسب؛ فهم أشد حاجة للمحتسبين من الأكل والشرب، فبالمحتسبين يحفظ الله – تعالى – الأمة من المؤثرات الخارجية، والعوامل الداخلية، وقد كثُرت كل من تلك المؤثرات وهذه العوامل في مجتمعات المسلمين، وستبقى تزداد كلما ابتعدنا عن عصر النبوة.

ولقد قال سعيد بن جبير – رحمه الله -: الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الإنسان وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين، وإنما اختلفوا في وجوب الرضا (أ.هـ)، وهذان القولان هما أقرب لحال المحتسب في زمننا من غيرهما؛ فإن ما يلاقيه المحتسب في المجتمع من صدٍّ ونكران لجميل ما يصنعه من أجل مجتمعه لهو أمر مرير، وقد لا يشعر بتلك المرارة إلا من ذاقها، فلو أن إنساناً قدَّم معروفاً لآخر ثم إن المُقدَّم له المعروف لم ينكر المعروف، ولكنه لم يشعر أصالة أن آخر قدَّم له معروفاً فهذا أمر صعب، وتزيد الصعوبة عندما يُشعر الآخر أنه يريد إبعاده عمَّا يريده ويرجوه، دون النظر إلى الضرر الواقع عليه، فلا نملك إلا أن نقول للمحتسب اصبر فإن أجرك على الله، واعلم أيها المحتسب أن ما تلقاه من بعض أفراد المجتمع لهو خير، وليس شراً وذلك مصداق قول ربنا – سبحانه وتعالى -: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

فالأصل هو المخالطة، والمجالسة، والاجتماع، هذا هو الأصل، اجتماع أهل الإسلام واختلاطهم وتلاقيهم في المجالس والمجامع والمساجد والطرقات، هذا هو الأصل يبذلون السلام، ويحسنون الكلام، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدلون على الخير، ويتناصحون ويزيلون الأذى عن الطريق، وينفعون ويأمرون ويصلحون بين الاثنين؛ ولهذا قال ابن الوزير الصنعاني - رحمه الله-: “العزلة عبادة الضعفاء وصيد الشياطين” لأن الأصل عدمها، فالضعيف الذي يعتزل ويكون صيداً للشياطين ما لم يحصن بعلم ويكون اعتزاله لسبب.

ولما كان الاحتساب يُعنى بنشر الخير بين أفراد المجتمع وحفظهم من الفتن والمتقلبات، كان ذلك أقرب لفعل الرسل والأنبياء - عليهم السلام - وقد ضربوا - صلوات الله عليهم - أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة واحتساب الأجر على الله، ولاقوا في سبيل الدعوة إلى الله – تعالى - ما لا يوصف، من الأذى القولي والفعلي والطرد والإهانة والقتل، ومع ذلك فما زال الأنبياء على دعوتهم والصبر عليها، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في سبيل الاحتساب ونشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل. يقــول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي (يُشْبِه) نبيًّا من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - ضربه قومه فأدموه (أصابوه وجرحوه)، وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)[2].

وعلى صعيد آخر: فإن على المحتسب الذي يخالط الناس أن يتمتع بصفات تجعله يتقرب إلى الناس، وألا يصدر منه ما يُنفر أفراد المجتمع منه؛ فعليه البُعد عن الفظاظة والغلظة والقسوة والغضب وصدق الله – عز وجل – حيث يقول: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] ومقابلة السيئة بالحسنة من أبدع الأخلاق وأحبها إلى الله – تعالى - قال – أيضاً -: {وَلَـمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَـمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43]، وقال – أيضاً -: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] وقال - تعالى -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، إن تلك الصفات هي الأدوات النورانية التي يجب أن يستخدمها المحتسب في تعامله مع أفراد المجتمع.

ويجب على المحتسب الحرص على نفسه من الاختلاط المحظور؛ فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: “أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، وذكر أن العبد لا بدَّ له من انفراد بنفسه: في دعائه، وذكره، وصلاة النافلة، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وممَّا يختصُّ به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فينبغي للداعية أن يراعي هذه الضوابط، ويعمل بالأصلح المشروع أ.هـ[3]، وممَّا سبق يظهر جلياً أن الإسلام دين الخلطة وليس دين العزلة؛ فالأصل في الإسلام الخلطة بالناس، مع الصبر على ما يلاقيه المحتسب في ذلك من أذى الناس، ويتجلى ذلك في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فمنذ أن نزلت عليه الرسالة وهو يخالط الناس ويصبر على آذاهم ويحتسب ذلك عند المولى سبحانه.

إن المحتسب ليستشعر واجبه تجاه مجتمعه، ويسعى ويُقدم قصارى جهده ليحفظ أفراد مجتمعه، ويحافظ على الضرورات الخمس التي بدونها يصبح المجتمع المسلم مثل باقي المجتمعات التي لا يأمن أفرادها على دينهم، وأنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، أو حتى عقولهم، إن المجتمع الذي يفقد تلك الضرورات الخمس لهو أقرب إلى حياة البهائم منه إلى حياة البشر، وكلما ابتعد أو اقترب المجتمع من الحفاظ على تلك الضرورات كان بعده أو قربه من إنسانيته الحقيقية التي أرادها خالقه؛ لذا كان لزاماً على المحتسب أن يخالط الناس ليعينهم على ذلك، وفي الوقت ذاته ألا يضيع حقوق نفسه، بانجراره وراء أهواء آحاد المجتمع، وإن كثرت تلك الفئة، وعلى المحتسب أن يضع نُصب عينيه قوله - تعالى -: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].

:: مجلة البيان العدد 300 شعبان 1433هـ، يوليو 2012م.


[1] صحيح مسلم (2956).

[2]  متفق عليه.

[3]  انظر : مجموع فتاوى ابن تيمية (10/425- 426).

أعلى