• - الموافق2024/04/23م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
«فثمَّ الجنة»

«فثمَّ الجنة»


 

هي:

كانت تعيش معه أسعد لحظات حياتها، رُزقت منه بولد كالقمر، واتفقا على تسميته «صهيب»، ملأ حياتهما بهجة وروعة على روعتها..

إلى أن جاءت يد المنون واختطفته من بين أهله وأحبابه، تاركاً وراءه زوجته التي لم تتجاوز العشرين من عمرها وربيعَ حياته «صهيب»..

عاشت مع «صهيب» تواسي نفسها بفقدان أبيه كلما نظرت إليه، تخاف عليه من نَفَسِها، تراقبه وهو يقطع حبال الصمت المطبقة على المنزل تارة بضحكاته وتارة ببكائه..

ذاقت المرَّ من أجله، تعلمت الكثير من المهن كي تجلب له كل ما يريد، عاش مدللاً بين أحضانها، لا تنام إلا بجانبه، تسهر معه الليالي الطوال تعلم وتربي وتحكي له حكايا النبي العظيم..

كان يفهم ما تريده وما يُفرحها وما يُغضبها من نظرة عينيها..

عجباً!!

كانت الكلمة المرسومة على أعين من يراها هي وابنها، مدللاً ومؤدباً، مطيعاً لها في جميع أحواله، لأنها – مع صغر سنها لكن مصائب الحياة علمتها خبرات شخص ناهز الثمانين – علمت كيف توازن بين أمور حاسمة الكثيرُ الكثيرُ لم يعرف كيفية الموازنة بينها..

علمته أخلاق النبي الكريم، علمته كيفية التعامل مع الجميع: صغيراً وكبيراً، فقيراً وغنياً، حاكماً ومحكوماً..

كبر وكبر معه أملها فيه.. كبر وكبرت معه فرحتها فيه.. تراقبه بعينيها وكأنه ما زال صغيراً، وكأنه ما زال «صهيب» ذاك الذي ينام في حضنها وعلى صوت حكاياها..

حكت له ذات مرة عن رفقة السوء وكيف يضرون المرء وما تؤول إليه صحبتهم، فنظر إليها بعينين ملؤها الحزن قائلاً: أمي.. أنا «صهيب» الكبير، لست «صهيباً» الذي تعوّدت عليه، «صهيب» الذي تحكي له الحكايا والنصائح وتوجهين له الأوامر، أريد أن أشعر باستقلاليتي.. أمي أرجوك.. أرجوك.. نظرت إليه بعينيها وهي تفكر ماذا دهى ولدها وما الذي أدى به إلى قول مثل هذا الكلام وما الذي.......؟

قطع حبل أفكارها بقوله: عذراً أمي.. عذراً.. هي كلمات خرجت مني... آآآآآ.. عذراً.. كنت متضايقاً قليلاً. نظر إلى ساعته ثم قال: ها قد حان موعدي مع الرفاق كما وعدتني.. هل تريدين مني شيئاً؟؟.. نظرت إليه ملياً وهي ما زالت مستنكرة تصرفاته.. لا.. شكراً.. انتبه لنفسك.. لا تنسَ أنني أنتظرك..

قبّل يدها ومال إلى أذنها هامساً: اعذريني.. أكررها مرة أخرى.. سأظل لك طائعاً مطيعاً كما عهدت مني وعهد مني الجميع..

هو:

كم أحب أمي.. كم أحب أمي.. لكن!.. هي السبب.. لم تعرف أنني كبرت.. لقد أصبحت في منتصف العقد الثاني من عمري.. يبدو أنها ما زالت تحسبني «صهيباً» ذلك الطفل الصغير، كما قلت، آآه ماذا أفعل؟!! لكن ما هذا الذي تقوله يا «صهيب»، استغفر الله، أهذا جزاء المعروف، ألم تر أنها تحبني وتخاف عليّ عندما قالت لي وأنا ذاهب: انتبه لنفسك، إني أنتظرك؟؟!!!!..

كانت هذه الكلمات يردّدها عقله الباطن طيلة سيره للذهاب إلى مكان تجمع الرفاق.. وعندما وصل.. رحب بالرفاق.. تجاذبوا أطراف الحديث، ارتشف رشفة من فنجان القهوة الذي أمامه، وإذا به يسمع قول صاحبه: دورك اليوم يا «صهيب».. هيا.. لا تخف.. مغامرة بسيطة وتنتهي.. هيا.. قم.. لا داعي للخوف.. وافق صاحبه الآخر قوله قائلاً: يبدو أنه ما زال يظن نفسه «صهيباً» الصغير.. هاهاها.. دعه إلى أن يكبر..

تحركت الرجولة في نفس «صهيب» وزأرت زئير الغضب، فنهض قائلاً: هاته هيا.. وسأريكم أني أرجل منكم..

تناول المفتاح من يد صاحبه وذهب خارجاً ووراءه باقي الرفاق كي يشهدوا تلك المغامرة الشيقة التي سيصنعها «صهيب»..

جلس على مقعد السائق ومعه باقي الرفاق في المركبة.. أعطى من كان بجانبه النقود والمناديل وكل ما كان في جيبه، استغرب صاحبه فعله فأزال تعجبه بقوله: كي أستريح في جلوسي.. وهو في الحقيقة خائف وجل لا يعرف كيف يتصرف.. يحدث تصرفات عجيبة لا تعني شيئاً.. تذكر أمه وما كانت تقول له، تذكر كلماتها الأخيرة عند باب المنزل.. تنهد وبدأ مغامرته..

وفجأة حدث ما لم يكن بالحسبان، انحرفت المركبة جانباً محدثة إصابات عمت الجميع..

نقل «صهيب» ورفاقه إلى المستشفى.. حادث عجيب أصابهم ولأول مرة منذ أن بدؤوا مغامراتهم، ويبدو أنه كان من خوف «صهيب» البالغ الذي أصابه عند ركوبه..

تلقت «أم صهيب» الخبر وكان مسمعه على أذنها كالصاعقة، قيل: «إن ولدها أصيب إصابة بالغة ستتسبب في حرمانه من البصر مدى الحياة».. خفق قلبها، ودار رأسها، وزاغ بصرها، وماجت الأرض تحت قدميها، اصطدم جسدها بالسرير الذي كان بجانبها، أجهشت ببكاء ونحيب مستمرين حتى غلبتها سنة من نوم أفاقت منها سريعاً على اتصال أتاها على الهاتف.. وقفت أمام الهاتف لتلتقط أنفاسها اللاهثة وتنتظم ضربات قلبها المضطربة، خوفاً أن تعكس نبرات صوتها ما يدل على خوفها أو قلقها.. لكن نبضات قلبها ازدادت وسار في جسدها إحساس شعرت به لحظة فراق زوجها فزلزل كيانها وجمّد أطرافها، لكن سرعان ما استرجعت لسانها بالدعاء والتوسل إلى الله.. التقطت سماعة الهاتف بيد مرتعشة..

- السلام عليكم

- وعليكم السلام.. أنا «عمر» الطبيب المتابع لحالة «صهيب».

- هل أصاب «صهيباً» مكروه.. أصحيح ما سمعت؟!

- الحمد لله على كل حال.. بسيطة بإذن الله.. نرجو حضورك فوراً فالـ....................

سقطت سماعة الهاتف من يدها وارتعشت شفتاها متمتمة: حسبي الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون.. إنا لله وإنا إليه راجعون..

ذهبت إلى المستشفى ولسانها يلهج بالدعاء.. لا تستطيع رجلاها حملها.. دخلت إلى القسم الذي يقيم فيه ابنها.. هرولت إلى الطبيب المختص بمتابعة ولدها.. نظر إليها بعينين ملؤهما الفرح.. استنكرت فرحته.. قالت والكلمات تتقطع عند خروجها: ما بك! أين «صهيب»، لماذا أنت فرح، أين ابني؟!

ذهبت من خوفها ولوعتها على ابنها تسير في الطرقات تنظر في الغرف علّها تجد ابنها.. وما زال لسانها يدعو ويدعو.. وفجأة لمحت طيف رجل جالس على كراسي الزوار هيئته مثل هيئة ولدها.. نظرت وتفحصت في الملامح فإذا هو «صهيب»..

ماذا؟! إن عينيه سليمتان.. ما الذي أراه؟ فركت عينيها بشدة.. اقتربت منه.. حدثت نفسها: يبدو أنك قد كبرت في السن يا «أم صهيب».. تلفتت حولها فرأت الطبيب ينظر إليها وبنفس فرحته، بل أشد.. خارت قواها وبدأت بالبكاء.. طمأنها الطبيب وقال لها: نعم.. هذا «صهيب».. هذا هو ابنك..

انتبه «صهيب» الذي كان مطرقاً رأسه ينظر إلى الأرض، إلى الحوار الذي جرى بين الطبيب وأمه.. نظر فإذا أمه قادمة وهي مسرعة إليه تحضنه وتستنشق رائحته.. ضمته وضمته ودمعاته تسقط على يديها حتى بللتها.. نظرت إليه عاتبة فقال لها: يكفي يا أمي معاتبة ضميري.. سامحيني.. أرجوك.. كانت تخاطبه خطاب العين والعقل.. قالت له: ما الذي حصل؟ أخبرني.. أجابها وقد فهم السؤال الذي انطلق من عينيها: لم يحدث شيء، كل ما في الأمر أني أعطيت صاحبي محفظة نقودي وبطاقتي وكل ما مكان في جيبي وبدأت المغامرة وبعدها.. آه.. نعم.. وبعدها حصل ما حصل، ووصلت إلى هنا، أدخلوني أنا ورفاقي الطوارئ للاطمئنان علينا، والحمد لله كلنا بخير، وجميع أصحابي خرجوا إلا أنا بسبب إجراءات بسيطة، أما صاحبي ذاك الذي كان يحمل أشيائي فكان يُحتمل أنه فقد النظر واعتقدوه أنه أنا لما قرؤوا اسمي على بطاقتي التي كان يحملها في جيبه، لكن ولله الحمد كان تشخيص الحالة خاطئاً، وقد خرج هو أيضاً قبل قليل بعد أن اطمأننت عليه.. فقط هذا هو كل ما حصل..

كانت تصغي إليه وهي محدقة في وجهه، وعندما انتهى.. أمسكت بيديه مغادرة المستشفى وسط استغراب من الطبيب، والأكثر منه ابنها، ولم تستفسر منه أكثر عما حصل رغم أن الكثير والكثير لم تفهمه منه ولم يخبرها به هو..

خرجت ولسان حالها يقول:

نعم.. الحمد لله على كل حال.. نعم.. على كل حال.. الحمد لله.. الحمد لله.

:: مجلة البيان العدد 304 ذو الحجة 1433هـ، أكتوبر-نوفمبر 2012م.

أعلى