ثورة سورية والبحث عن ممثل سياسي

ثورة سورية والبحث عن ممثل سياسي


طوال ما يقرب من عامين عانت الثورة السورية غياباً شبه كامل في الجانب السياسي من حراكها، وغياب من يمثلها تمثيلاً حقيقياً ويعبّر عن جماهيرها ويتبنّى تطلعاتهم، وإنَّ مما لا شك فيه أن وجود جناح سياسي للثورة يعبّر عنها ويناور باسمها ويسعى إلى تحقيق مصالحها؛ أمرٌ في غاية الأهمية، لا سيما مع طول عمر الثورة بما لم يُسبق له مثيل في الدول التي شهدت ثورات الربيع العربي.

وقد كانت الفرصة كبيرة ومواتية للائتلاف الوطني برئاسة الشيخ معاذ الخطيب ليمثل هذا الجناح، بعد فشل كل الكيانات التي تشكَّلت سابقاً في تحقيق هذا الهدف، فبرغم بَدء نشاط المعارضين السياسيين في وقت مبكر من عمر الثورة عبر عقد اللقاءات والاجتماعات داخل سورية وخارجها؛ إلا أن النخب السياسية ذات المرجعيات الفكرية المختلفة لم تكن مؤهَّلة للعب هذا الدور لأسباب كثيرة؛ فالقوى المنظمة والمتجمعة في أحزاب أو جماعات كانت محظورة طوال حكم البعث منذ منتصف الستينيات الميلادية - إلا مجموعة من الأحزاب الصورية المنضوية مع حزب البعث الحاكم في جبهة واحدة هي الجبهة الوطنية التقدمية -؛ لذا كان عمل الأحزاب المعارضة ونشاطها يتم في السر، وفي إطار نخبوي ضيق، بحيث لا يزيد عدد أعضاء كل حزب مهما كبر على المئات، وأما جماعة «الإخوان المسلمين» فقد كانت الضربة التي تلقتها في الثمانينيات خلال المواجهة مع نظام الأسد الأب قوية لدرجة أخرجتها بشكل شبه كامل من الساحة السياسية الداخلية، فكثير من القادة خرجوا من البلاد، وبعضهم قُتل أو اعتُقل ثم مات في السجن، وبعضهم في عداد المفقودين، وخلال ما يقرب من ثلاثين عاماً من الجمود وعدم القدرة على الحركة في الداخل، فقدت الجماعة كوادرها وقواعدها إما بالقتل أو الاعتقال أو الموت أو النكوص والتراجع، فاقتصر نشاط الجماعة على العمل خارج البلاد بشكل لم يكن له كبير أثر لا على الواقع السياسي السوري ولا على شعبية الجماعة التي وصلت إلى أدنى مستوياتها بسبب ما تقدم، وبسبب الضخ الإعلامي الكبير من الإعلام الرسمي والمناهج التعليمية التي تربى عليها مَن كان طفلاً وصار اليوم قريباً من الأربعين من عمره، وقد كان لهذا أثره السلبي على قدرة الجماعة على العمل في الداخل بعد الثورة، سواء من حيث المشاركة في الحراك السلمي في البداية، أو من حيث وجود جناح عسكري كبير بعد بداية العمل المسلح.

ومع اندلاع الثورة وانتشارها وتجاوزها مرحلة الانتفاضة المحدودة، وجد السياسيون المعارضون من كل الاتجاهات - سواء كانوا منظمين أو مستقلين -؛ وجدوا أنفسهم أمام تحدٍّ لم يعدوا له العدة، وليست عندهم مساحات واسعة ليتحركوا من خلالها في الداخل، فالجماهير التي خرجت ليست منظمة ولا تتّبع فكراً أو تنظيماً محدداً ليتم التأثير عليها أو توجيهها، بل إنها في انقطاع شبه تام عن الجماعات والأحزاب. وهذه الجماهير لم تخرج تلبية لدعوة بعض الشباب السوري الناشط على شبكة الإنترنت من مختلف التيارات والتوجهات الفكرية والسياسية، إسلامية وغير إسلامية، الذي أراد أن يستلهم تجربة تونس ومصر؛ لأن دعوة هذا الشعب للتظاهر عبر الشبكة لم تلقَ إلا تجاوباً محدوداً جداً، ولم يتحرك الناس إلا بسبب حادثة أطفال درعا الشهيرة.

جزء من معارضة الداخل، وهو ما يسمى «هيئة التنسيق»، لم يكن مؤهَّلاً للعب هذا الدور، بل لم يسعَ له أصلاً؛ لأنه كان يلعب السياسة بالقواعد القديمة التي تجعل المحرك للحدث هو النخب السياسية، بينما تكون الجماهير تبعاً، فلم تستوعب الهيئة التغيرات الكبيرة التي حصلت مع هبوب رياح الربيع العربي، فأرادت أن تلعب اللعبة مع النظام عبر المفاوضات والحوار والتغيير التدرجي بهدف الإصلاح، وكان هذا مناسباً جداً للنظام ولداعميه في روسيا وإيران، لكنه عزل الهيئة عن الجماهير بشكل كامل.

الجزء الآخر من معارضة الداخل - لا سيما المستقلين - كان له نوع من المشاركة في الحراك السلمي في بدايات الثورة عبر إلقاء الكلمات في مناسبات العزاء فيمن سقط برصاص النظام، وكان من أشهر هؤلاء الشيخ معاذ الخطيب، وميشيل كيلو، وفايز سارة، وعارف دليلة... وغيرهم، وقد دخل هؤلاء في حوارات مع ممثلين عن النظام واعتقل عدد منهم أكثر من مرة ثم خرجوا جميعاً من سورية.

أما معارضة الخارج فقد شكل «الإخوان المسلمين» الجزء الأهم فيها؛ نظراً لكونهم الفصيل الوحيد المنظم، وبعد كثير من اللقاءات والمؤتمرات بين قوى المعارضة الخارجية المختلفة، تم التوصل إلى صيغة المجلس الوطني، لكن مرور الزمن أثبت أنه لم يغيّر كثيراً وفشل في تحقيق المرجو منه.

بناءً على ما سبق، فقد كان الائتلاف الجديد برئاسة الخطيب مرشحاً أكثر من غيره لحمل هذا العبء، ويمكن إرجاع ذلك لأمور:

أولها: أن الائتلاف مثل الجامع الأكبر للقوى السياسية المعارضة، فبالإضافة للمجلس الوطني السابق ضمّ مجموعةً من التكتلات وعدداً من المستقلين.

ثانيها: أنه لم يلقَ اعتراضاً من المجموعات التي لم تمثل فيه.

ثالثها: أن الداخل الثائر بشقه السلمي قد رحب بتشكيله وإن جعله ترحيباً حذراً ومشروطاً.

رابعها: أن الكتائب الرئيسة في الداخل لم تعترض عليه أو تطعن فيه رغم ما لديها من مخاوف وشكوك.

خامسها: دخول شخصيات وطنية تحظى بشيء كبير من القبول في الداخل.

سادسها: اختيار الشيخ معاذ الخطيب رئيساً للائتلاف، والذي كان اختياره للرئاسة مبعث تفاؤل كبير لدى كثيرين.

سابعها: الاعتراف الدولي السريع والواسع بالائتلاف كممثل شرعي للشعب السوري.

التفاؤل الذي رافق الإعلان عن الائتلاف بدأ يتبدّد في الأسابيع التالية، حيث بدا وكأنه يسير على طريق سلفه «المجلس الوطني»، وبدأت تتسرب معلومات عن تذمر رئيس الائتلاف مما يجري داخله من قبل بعض الأطراف التي تسعى للمحاصصة ومحاولة تحصيل مكاسب خاصة تتعلق بمرحلة ما بعد سقوط النظام.. وأيضاً، فقد صرح هو شخصياً بأن المجتمع الدولي يدعم الشعب السوري بالألفاظ لا غير، وأنه لا يوجد تصوّر لدى هذا المجتمع عن أي حل، ومن ثم دعا الشعب السوري «لقلع شوكه بيده»؛ لأن أحداً لن يساعده، وصاحب ذلك أنباء ترددت عن عزمه تقديم استقالته التي كان قد ألمح إليها.

عند هذه النقطة بالذات كانت الفرصة مواتية جداً للشيخ معاذ الخطيب كي يخطو إلى موقع متقدم في الثورة، وكان يمكن أن يصبح ضميرها الحي المتكلم باسمها المعبر عن همومها، وكان يمكن أن يسعى - بفضل شخصيته التوافقية والصريحة - ليكون واجهة مقبولة لقوى الثورة الفاعلة على الأرض، عبر التواصل المستمر والمعمق مع الجماعات المقاتلة ومع القوى الثورية المدنية الداعمة للكتائب؛ لكن الخطيب فاجأ الجميع، فبدل إعلان استقالته أعلن مبادرته الفردية للتفاوض مع النظام بشرط الإفراج عن 160 ألف معتقل وتجديد جوازات سفر السوريين في الخارج، وقد كانت هذه المبادرة سبباً في كثير من الجدل والخلاف داخل وخارج الائتلاف، وعدها البعض نكوصاً عن قواعد عمل الائتلاف المتفق عليها، وتراجعاً عن ثوابت الثورة التي منها عدم التفاوض مع النظام.

فهل ما زال الائتلاف يصلح أن يكون ممثلاً سياسياً لقوى الثورة؟

الجواب عن هذا السؤال يحتاج بداية إلى تحليل مواقف أنصار الثورة من المبادرة ومن صاحبها:

أما الطرف الأول فهم غالبية السوريين في الداخل، سواء في المناطق المحررة أو غيرها، وهؤلاء هم من دفع الجزء الأكبر من تكلفة الثورة، من دمائهم وأرواحهم وأموالهم وممتلكاتهم وتعطل أعمالهم، إلى غير ذلك من التضحيات، لكنهم لم يشاركوا في العمل الثوري بشقيه السلمي والعسكري؛ فهؤلاء بلا شك يريدون زوال النظام لكنهم معنيون بدرجة كبيرة بمسألة إنهاء معاناتهم، وإلى هؤلاء بالدرجة الأولى كان يتوجه معاذ الخطيب بخطابه للسوريين مُسَوِّقاً مبادرته، فهؤلاء شعروا بالارتياح للمبادرة وطالبوا بإعطائها الفرصة، ولا شك أن معاذ الخطيب ونهجه هذا قريب منهم ويلقى قبولاً عاماً وارتياحاً.

الطرف الثاني: وهم الناشطون وقادة الحراك السلمي الداخلي والناشطون في الخارج، وقد انقسم هذا الفريق كما انقسم المعارضون السياسيون.

الطرف الثالث: ويمثله المجاهدون في مختلف الألوية والكتائب المقاتلة على أرض سورية، وقد رفض هؤلاء جميعاً المبادرة، وإن اختلفت المواقف من معاذ الخطيب ما بين طاعن فيه يعده «كرزاي أو شيخ شريف أحمد» سورية، وما بين متوقف عن هدم الرجل.

ولئن كان الخطيب قد راعى إلى درجة كبيرة الوضع الإنساني الصعب لعامة الشعب السوري ممثلاً في الطرف الأول واعتمد على ما توقّعه من تأييد هذه الكتلة الكبيرة لمبادرته؛ إلا أنه أخطأ خطأ كبيراً بتجاهل القوى المؤثرة حقيقة في المشهد، فلئن كان الشعب قد ثار وبات لا يرضى ببقاء النظام، إلا أن القوى الفاعلة هي بالدرجة الأساس كتائب وألوية المجاهدين، فعدم استشارتها وعدم مراعاة مخاوفها من الائتلاف بسبب الظروف التي أحاطت بتشكيله، وبسبب اختيار الخطيب رئيساً خشية أن يكون جسراً لتمرير مشروع ما اعتماداً على مرجعيته الإسلامية؛ لم يكن تصرفاً صائباً، لا سيما أن الخطيب لم يستشر حتى رفاقه في الائتلاف مما يعزز الشكوك والمخاوف.

لقد أعطت المبادرة مزيداً من الثقل الدولي للخطيب عبر ترحيب مختلف العواصم، لكن أخطاءه كانت تزيد مع كل خطوة يخطوها وتباعد بينه وبين القوى الفاعلة على الأرض، فبعد أن كان يرفض الحوار مع روسيا حتى تتوقف عن المشاركة في سفك الدم السوري وتعتذر عن ذلك، وبعد أن كان يأخذ موقفاً قوياً من إيران؛ إذا به يقابل مسؤولين من البلدين ويسعى بكل قوته لإيجاد حل سياسي بأي شكل كان، الأمر الذي جعله يشترط شروطاً أقل بكثير مما كان مطلوباً من النظام في مبادرة الجامعة العربية ومبادرة كوفي عنان على سبيل المثال.

إننا لا يمكن أن نشكك في نزاهة ووطنية الشيخ معاذ، فمواقفه من النظام قبل الثورة بسنين واضحة معروفة، وقد دفع ثمنها بإيقافه عن الخطابة في المسجد الأموي أولاً، ثم بالمنع من الخطابة مطلقاً، ثم بالاعتقال أكثر من مرة، فضلاً عن استدعائه للتحقيق من قبل الأجهزة الأمنية مرات عديدة، وقد تابع نهجه هذا بعد الثورة، وقد كان الرجل في كل ذلك يتحرك في حدود الممكن والمتاح.

لكننا في الوقت نفسه لا نملك إلا أن ندعو الشيخ الخطيب لمراجعة خطواته، فالانفصال عن المجاهدين والعمل بمعزل عنهم وعدم مراعاة مخاوفهم؛ لا يمكن أن يأتي بخير أو بحل قابل للتطبيق، فالمجاهدون قد عقدوا العزم على المضي في طريقهم لا يمنعهم من ذلك كيد الكائدين ولا تآمر المتآمرين، وأي حل يتم إقراره أو محاولة فرضه عليهم دون موافقتهم لن يكون له نصيب من النجاح.

الوقت لم يفت بعد، وأمام الشيخ معاذ فرصة تاريخية لم تتح لأحد غيره طوال عامين، ليكون واجهة الثورة السياسية، والمنافح عن مطالبها المشروعة في المحافل الدولية، لكن الأمر يتطلب منه أن يغير اتجاه بوصلته، وأن يجعل سنده بعد الله سبحانه وتعالى هو المجاهدون على أرض الشام المباركة، ولا بد للشيخ الخطيب أن يعلم أنه لا يمكن أن يحصل المرء في السياسة على أبعد مما تصل إليه مدافعه.

فهل يفعلها الشيخ معاذ؟!

 

::  "البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية

:: مجلة البيان العدد 309 جمادى الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.

 

أعلى