استمدادعلم التفسير.. المقدمة الثانية من التحرير والتنوير أنموذجاً

استمدادعلم التفسير..


المقدمة الثانية من التحرير والتنوير أنموذجاً

مقدمة:

قد يتبادر إلى الذهن بمجرد سماع «الاستمداد» أن التفسير مفتقر أشد الافتقار إلى غيره، وهذا وهمٌ واضح، وغلط فادح؛ لا يقول به عالم مسفر ولا طالب مستبصر. وإنما الغرض حصول المراد من كلام رب العباد، كما قصد الرحمن وأراد، ليحصل به القصد وتتم الفائدة، ولتسكن إليه الأنفس وتطمئن به الأفئدة؛ ولأن النفس، شأنها كسائر المخلوقات، كلما ارتوت وزكت إيماناً وهدياً، ولَانَ صدرُ صاحبِها ولو كان صنديداً قوياً، وزاد المرء بذلك خشوعاً واطمئناناً ولو كان أكثر فسقاً وعصياً.. إذا تبين لك ذلك؛ زال الوقر الجالب للفقر، وعلمت أن التفسير هو رأس العلوم وأجّلها، وإن أبى الأعداء والخصوم.

ولعل الشيخ الطاهر بن عاشور أجمل ما أطنبنا فيه حين قال «فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال، وهو أصل لما استمد منه» التحرير والتنوير، المقدمة الثانية، ص27، دار سحنون، تونس.. دون طبعة ولا تاريخ.

وبعد، فهذه قراءة وتأمّلات في المقدمة الثانية من «المقدمات العشر» التي دبج بها ابن عاشور تفسيره الموسوم بالتحرير والتنوير؛ أضعها بين القراء والمهتمين من باب نشر العلم، وتعميماً للفائدة.

فما المقصود بالاستمداد؟ وما العلوم التي يستمد منها علم التفسير؟ وما موقع علمي الفقه والكلام من علوم الاستمداد؟ وما سر تحفظ ابن عاشور في عدّهما من الاستمداد خلافاً للسيوطي وغيره؟

أولاً: في مفهوم الاستمداد وشرطه

1. مفهوم الاستمداد: المدد: العون والغوث، والسين والتاء فيه للطلب. واصطلاحاً: يقصد به كل المعلومات السابق وجودها عن وجوده عند مدونيها والتي يحتاج إليها المفسر لبيان مراد الله تعالى.

2. في شرط المدد/ الاستمداد: أن يكون خادماً للمعنى ومحتاجاً إليه؛ أما ما كان على سبيل الإفاضة والبيان والتوسع والاستطراد، كما فعل الرازي في مفاتيح الغيب، فلا يعد مدداً.

 ثانياً: علوم الاستمداد التي يحتاج إليها المفسر العربي

1. علوم اللغة: وتشمل معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم؛ سواء حصلت بالسجية والسليقة أو بالتلقي والتعلم. وأهم هذه العلوم الخادمة لعلم التفسير: علم النحو، علم الصرف، وعلم البلاغة.

 2. علما البيان والمعاني/ علم دلائل الإعجاز:

 «ولعلمي البيان والمعاني مزيد اختصاص بعلم التفسير؛ لأنهما وسيلة لإظهار خصائص البلاغة القرآنية.. وإظهار وجه الإعجاز». وقد نص الزمخشري في ديباجة كشافه على أهمية هذين العلمين بقوله «علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإحالة النظر فيه كل ذي علم، فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن برز على أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القِرِّيَّة أحفظ، والواعظ وإن كان من حسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه؛ لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علما البيان والمعاني». وقال عند قوله {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] «وكم من آية من آيات التنزيل وحديث من حديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف، بالتأويلات الغثة، والوجوه الرثة، لأن من تأولها ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلاً من دبير».

وقال السكاكي في مفتاحه: «إن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى وتقدس من كلامه مفتقر إلى هذين العلمين كل الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيها راجل»، ثم قال: «لا أعلم في باب التفسير بعد علم الأصول أقرأ على المرء لمراد الله من كلامه، من علمي البيان والمعاني، ولا أعون على تأويل تعاطي تأويل متشابهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، ولكم آية من آيات القرآن تراها قد ضيمت حقها واستلبت ماؤها ورونقها إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة».

 وفائدة ذلك كله أنه يورث ملكة علمية وذوقاً سليماً للمفسر، شريطة اعتماده على ما صح عن العرب وكان مقطوعاً ببلوغه وانتقائه من الكلام المشهود له بالبلاغة عند العرب.

3- استعمال العرب: يقصد بها مختلف:

الأساليب – الإملاءات – الخطب – الأشعار – الأمثال – العادات - المحادثات

نماذج من الكلام المشهود له بالبلاغة عند العرب

المعلقات السبع

الحماسة

نهج البلاغة

أدب المقامات

رسائل بديع الزمان

فائدة علم البلاغة:

- انكشاف المعنى وفهم المراد.

- حصول اطمئنان النفس.

- حسن الترجيح في حالة تزاحم المعاني.

 أمثلة وظيفية للبلاغة في فهم المراد القرآني:

1. ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر:

كما في قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: ١١].. هل العطف في الآية للبيان أو عطف خاص على عام؟ وهذا الإشكال يرفع بالرجوع إلى استعمال العرب، كقول زهير:

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آلُ حصن أم نساء

 2. تحديد معنى الباء في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: ٦].

فالباء يحتمل أن تكون: للتبعيض – للآلة – للتأكيد.

 والمترجح أنها للتأكيد؛ لأن دخول الباء على المفعول يفيد التأكيد في استعمال العرب، وهي طريقة مسلوكة عندهم كما قال النابغة:

لك الخير إن وارت بك الأرض واحداً

وأصبح جد الناس يظلع عاثراً

وقول الأعشى:

فكلنا مغرم يهوى بصاحبه

قاص ودان ومحبول ومحتبل

3. توقف عمر في كلمة قرآنية مع شيخ هذيل الذي حسم الأمر:

قال عمر وهو على المنبر ما تقولون في قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [النحل: 47]، فقال شيخ من هذيل هي لغتنا: التخوف: التنقص. فقال له عمر هل تعرف العرب ذلك في كلامها؟ قال نعم، وأنشد قول الشاعر:

تخف الرحلُ منها تامكا[1] قَرِدا[2]

كما تخوف عودُ النبعة السفَنُ[3]

فقال عمر: عليكم بديوانكم لا تضلوا، هو شعر العرب فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم.

وعن ابن عباس قال: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن رجعنا إلى ديوانهم فالتمسنا معرفة ذلك منه، حتى إنه كان كثيراً ما ينشد الشعر إذا سئل عن بعض حروف القرآن. ومن ذلك ما ذكره القرطبي حين سئل ابن عباس عن «السنة» في آية الكرسي فقال: النعاس وأنشد قول زهير:

لا سنة في طوال الليل تأخذه

ولا ينام ولا في أمره فَنَدُ

ونفسه ما فعله عكرمة حين سئل عن معنى الزنيم فقال: ولد الزنى وأنشد:

زنيم ليس يعرف من أبوه

بغي الأم ذو حسب لئيم

وقد كره هذا الإمام أحمد فقال: «ما يعجبني»، لكن هذه الكراهة مبررة إذا كان الغرض من الشعر إثبات صحة ألفاظ القرآن كما وقع لابن الراوندي مع ابن الأعرابي حين سأله: أتقول العرب لباس التقوى؟ فقال ابن الأعرابي: لا بأس لا بأس إذا نجى الله الناس فلا أنجى ذلك الرأس، هبك يا ابن الراوندي تنكر نبوة محمد، أفتنكر أن يكون فصيحاً عربياً؟

4. ما أثر عن بعض السلف في فهم معنى بعض الآيات:

معنى الآثار:

ـ ما نقل عن النبي في بيان المراد القرآني، مثاله ما وقع لعدي بن حاتم في معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود، وهذا قليل «عن عائشة: ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معددات علمه إياهن جبريل».

ـ ما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل.

أمثلته:

بيان عائشة لما وهمه عروة بن الزبير من إباحة السعي بين الصفا والمروة انطلاقاً من قوله تعالى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].

فقالت عائشة: كلا، لو كما تقول لكانت «فلا جناح عليه أن يطوف بهما»؛ إنما نزلت هذه الآية في الأنصار.

نلاحظ أنها بينت:

أولاً: استعمال العرب.

ثانياً: مثار الشبهة الذي ظاهره رفع الشبهة.

ومثله تفسير المغضوب عليهم باليهود، والضالين بالنصارى.

وكذا تفسير «ذرني ومن خلقت وحيداً» بالوليد بن المغيرة؛ وكون المراد من قوله تعالى: أفرأيت الذي كفر بآياتنا.. بالعاصي بن وائل السهمي؛ وبيان المرأتين اللتين تظاهرتا على الرسول: حفصة وعائشة؛ قال ابن عباس: مكثت سنين أريد أن أسال عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على الرسول ما يمنعني إلا مهابته، ثم سألته فقال: حفصة وعائشة.

5. إجماع الأمة على تفسير معنى، مثل إجماعهم على: أن المراد بـ «الكلالة» الأخت للأم. وإجماعهم على أن المراد بالصلاة في سورة الجمعة صلاة الجمعة.

6. أخبار العرب:

يستعان بها على فهم القصص القرآني المذكور إجمالاً للاعتبار، كما في قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [النحل: 92]، وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: ٤].

7. أسباب النزول:

فائدة معرفة أسباب كثيرة، منها:

- دفع التوهم والتأويل غير المقصود، ومثاله ما في قصة عمر مع قدامة حين شرب الخمر وأراد عمر أن يقيم عليه الحد، فتأول قوله تعالى: «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا..»، فرد عليه ابن عباس تأويله هذا قائلاً: إن هذه الآيات أنزلت عذراً للماضين وحجة على الباقين؛ فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرّم عليهم الخمر، وحجة الباقين لأن الله يقول: «إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان»، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر. قال عمر: صدقت.

8. أصول الفقه:

رجح فيه ما ذهب إليه الغزالي لوجهين:

- لأن فيه مسائل كثيرة من استعمالات العرب وأهملها أهل اللغة، مثل مفهوم المخالفة وفحوى الخطاب.

- لكونه يضبط قواعد الاستنباط التي تساعد المفسر على استنباط المعاني الشرعية من الآي.

9. علم الكلام وعلم الفقه:

لقد تحفظ الشيخ الطاهر بن عاشور في عدّهما من العلوم الخادمة للتفسير، خلافاً لعبد الحكيم والألوسي في عدّ علم الكلام من جملة ما يتوقف عليه علم التفسير؛ والسيوطي في عد علم الفقه كذلك؛ منتقداً إياهم بما يلي:

- إن علم الكلام لا يحتاج فيه لإثبات كلام الله، لأن كلام الله ثابت عند السلف قبل.

 - لا أثر له في التفسير.

- إن علم الكلام وعلم الفقه متأخران عن علم التفسير.

- إن علم الفقه فرع عن علم التفسير.

- لا يحتاج لهما إلا المفسر المتبحر؛ والمفسر المتوسع يحتاج لكل العلوم على مذهب البيضاوي القائل «لا يليق لتعاطيه، والتصدي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها».

نخلص مما سبق إلى أن علم التفسير هو رأس العلوم الإسلامية، وأن استمداده من علوم شتى غايته بلوغ الكمال في الفهم السديد من مراد الرب المجيد، تفادياً للعجز البشري في الفهم السقيم المؤدي لفصل الحبل عن الوريد.

:: مجلة البيان العدد 309 جمادى الأولى 1434هـ، مارس - إبريل 2013م.


[1] التامك: السنام.

[2] قَرِد: بفتح وكسر الراء، كثيرالقراد.

[3] السَّفَن: المبرد.

أعلى