المثل الأعلى

المثل الأعلى


الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، الذي هو كما وصف نفسه وفوق ما يصفه خلقه ، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ، سبحانه .

والصلاة والسلام على أعلم الناس بربه وأخشاهم وأتقاهم له وعلى آله وأصحابه وذريته ، وبعد : قال - تعالى - : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُو  أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ( الروم : 27 ) .

المثل الأعلى هو : معرفة حقائق أسمائه وصفاته ، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين .

وهو الكمال المطلق ، المتضمن للأمور الوجودية ، والمعاني الثبوتية التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره .

ولما كان - سبحانه - الرب والأعلى ، ووجهه الأعلى ، وكلامه الأعلى ، وسمعه الأعلى ، وسائر صفاته عليا ، كان له المثل الأعلى ، وهو أحق به من كل ما سواه ، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان ؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحدَه ؛فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أي نظير .

وهذا برهان قاطع على استحالة التمثيل والتشبيه من إثبات صفات الكمال ، فتأمَّله فإنه في غاية الظهور والقوة [1] .

فإذا قال المؤمن بالمثل الأعلى : يا الله ! قام بقلبه رب قيوم قائم بنفسه ، مستوٍ على عرشه يكلم ملائكته ، ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خَلْقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم ، يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط ، ويضحك من قنوطهم وقرب عفوه ، ويَجبُر كسيرهم ، ويغني فقيرهم ...

مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كلَّ يوم هو في شأن ، يغفر ذنباً ، ويفرِّج كرباً ، ويفك عانياً ، وينصر مظلوماً ، ويقصم ظالماً ، ويرحم مسكيناً ، ويغيث ملهوفاً .

أكفُّ جميع الخلائق ممتدة إليه بالطلب والسؤال ، ويده مبسوطة لهم بالعطاء والنوال .

يمينه ملأى لا يغيضها نفقةٌ آناء الليل والنهار ، وعطاؤه وخيره مبذول للأبرار والفجار .

ليس عنده ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض مِنْ نورِ وجه ، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .

يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل .

حجابه النور ؛ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره مِنْ خلقه .

وسع كرسيه السموات والأرض ؛ فالسموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والعرش لا يَقدِر قَدْره إلا الله ، وهو - سبحانه - فوق عرشه يعلم ويرى ما عباده عليه .

الأول فليس قبله شيء ، والآخر فليس بعده شيء ، والظاهر فليس قبله شيء،والباطن فليس دونه شيء .

له الكمال كله ، وله الحمد كله ، وله الثناء كله ، وبيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ؛ فتبارك اسمه ، وتباركت أوصافه ، وتباركت أفعاله ، وتباركت ذاته .

وقد أشكلت على كثير من المفسرين حقيقة المثل الأعلى ، واستشكلوا أقوال السلف فيها ؛ فابن عباس وغيره قالوا : المثل الأعلى : شهادة ( أن لا اله إلا الله ) ، وقال قتادة : هو الإخلاص والتوحيد ، وقال بعضهم : المثل الأعلى : الصفة العليا .

قال الواحدي : ( هذا قول صحيح ، والمثل كثيراً ما يرد بمعنى الصفة . وقاله جماعة من المتقدمين ) .

وقال ابن كيسان : ( المثل الأعلى نحو قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ( النور : 35 ) ) .

وقال ابن جرير الطبري : ( هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله إلا هو ) [2] .

وقد جمع بين هذه الأقوال ، وأزال ما فيها من الإشكال راسخ في علم القرآن ، قد طال فيه باعه ، ورحُب بنيله ذراعه ، وباشر قلبه أسرار القرآن ، وحقائقه ، إنه العلاَّمة ابن القيم ، قدَّس الله روحه .

قال : ( المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودَها العلمي ، والخبرَ عنها وذِكرَها .

وعبادةَ الرب - سبحانه - بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه ، فها هنا أربعة أمور :

الأول : ثبوت الصفات العليا لله - سبحانه - في الأمر نفسه ، علمها العباد أو جهلوها ، وهذا قول من فسره بالصفة .

الثاني : وجودها في العلم والتصور ، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف : إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذِكْره ومحبته وإجلاله وتعظيمه ، وهو أيضاً معنى قول من قال من المفسرين : أهل السماء يحبونه ويعظمونه ، وأهل الأرض يجلُّونه ويعظمونه ، وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه ... قال - تعالى - : { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } ( الروم : 26 ) .

الثالث : ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل .

الرابع : محبة الموصوف بها وتوحيدُه والإخلاصُ له والتوكل عليه ، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى ؛ فعبارة السلف تدور حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها ) [3] .

الإيمان بالمثل الأعلى يمنع أن يقوم بالقلب تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوقين : لأنه - كما قلنا - آنفاً يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى اثنان ؛ لأنهما إن تكافآ لم يكن أحدهما أعلى من الآخر ، وإن لم يتكافآ فالموصوف بالمثل الأعلى أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى نظير أو شبيه ، وهذا برهان قاطع على ما قلنا .

قال العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - واصفاً المؤمنين بالمثل الأعلى العارفين به : ( فلم يصعب عليهم بعد ذلك معنى استوائه على عرشه ، وسائرَ ما وصف به نفسه من صفات كماله ؛ إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظير له ولا مثيل ، ولم يخطر بقلوبهم مماثلة شيء من المخلوقين ، وقد أعلمهم الله - سبحانه - على لسان رسوله « أنه يقبض سمواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن » [4] ، « وأنه يضع السموات على إصبع ، والأرض على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، وسائر المخلوقات على إصبع » [5] .

فأي يد للخلق وأي إصبع تشبه هذه اليد وهذه الإصبع حتى يكون إثباتها تشبيهاً وتمثيلاً ؟ فقاتل الله أصحاب التحريف والتبديل على ما حرَّموه من الحقائق الإيمانية ، والمعارف الإلهية ، وما تعرضوا به من زبالة الأذهان ، ونخالة الأفكار [6] .

كيف يجتمع في القلب معرفة من له الكمال كله ، والجمال كله ، والعلم كله والقدرة كلها والكبرياء كلها ، وتشبيهه بالمخلوقين ؟ هذا من أشد المحال . ( فقاتل الله الجهمية والمعطلة ... أين التشبيه ها هنا ؟ وأين التمثيل ؟ لقد اضمحل ها هنا كل موجودٍ سواه ، فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال ويشابهه فيه ).[7]

المعطلة رمتنا بدائها وانسلَّت : المؤمن بالمثل الأعلى ، يستحيل أن يقوم بقلبه تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوقين ، وإنما يقوم هذا التشبيه بقلب حُجِب عن المثل الأعلى ، ولم يعرف حقائق الأسماء والصفات ؛ ففهم من هذه الصفات الإلهية ما فهم من صفات المخلوقين ثم فر إلى إنكار حقائقها وابتغاء تحريفها ، وسمَّاه تأويلاً ؛ فشبه أولاً ، وعطل ثانياً ، وأساء الظن بربه وبكتابه وبنبيِّه وبأتباعه .

فالمعطلة النفاة رموا أهل السنة بدائهم وانسلوا منه لِواذاً ، وقذفوهم بمصابهم وجعلوه ملاذاً لهم ومعاذاً ، يرمون أهل السنة بألقاب السوء : مشبهة ، مجسمة ، ممثلة ، حشوية ... وهم أحق بها وأهلُها .

ومما ينبغي أن يُعرَف أن التشبيه نوعان : تشبيه المخلوق بالخالق ، وتشبيه الخالق بالمخلوق .

- فتشبيه المخلوق بالخالق في العبادة والخضوع والتعظيم ، هو الواقع في الأمم .

والقرآن مليء بالرد على من شبَّه المخلوق بالخالق في صفات الإلهية حتى عبده من دونه ، وسيأتي بيانه لاحقاً ، إن شاء الله .

- أما تشبيه الخالق بالمخلوق فلم يأتِ إنكاره في القرآن ( وإن كان باطلاً ) ، وإنما المتكلمون يذكرونه في كتبهم ويجعلونه مذهباً لبعض الناس ، ومقالةً لطائفة المشبهة ، وهي فرقة مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان .

وقد حقق ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله - في كتابيه : الصواعق وإغاثة اللهفان .

قال - رحمه الله تعالى - في تشبيه الخالق بالمخلوق : ( هذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس ، وهذه كتب المقالات بين أظهرنا ، لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة ، وإنما المعطلة يسمون كل من أثبت صفات الكمال لله - تعالى - مشبهاً وممثلاً ) [8] .

وقال : ( المقصود أن هؤلاء المعطلة الملحدين في أسماء الرب - تعالى – هم المشبهون في الحقيقة لا من أثبت حقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه ؛ ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه الفرقة التي انتصب لها هؤلاء ؛ فإنها فرقة مقدرة في الأذهان لا وجود لها في الأعيان ) ، وقال : ( لا نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهباً تذهب إليه ، حتى ولا المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم ، كالهشامية والسالمية وغيرهم ممن قال : إن الله جسم ، لم يقولوا : إنه مماثل للأجسام ) [9] .

قلت : كتب المقالات تذكر المشبهة ، وهي تعني بها المجسمة : كالكرامية والهشامية والسالمية وغيرهم ممن قال : إن الله جسم لا كالأجسام ، فهم مجسمة وليسوا مشبهة ، لكن أرباب المقالات يجعلون التشبيه لازمَ قولهم .

أما المتكلمون فهم - غالباً - لا يقصدون بالمشبهة والمجسمة إلا أهل السنة الذين يثبتون لله - سبحانه - ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله - صلى الله عليه  وسلم - من غير تشبيه ولا تمثيل .

وهذا التحقيق والتدقيق لم أجده عند غير العلاَّمة ابن القيم ، رحمه الله تعالى .

المعطلة هم المشَبهة حقاً وصدقاً : والمعطلة نفاة الصفات هم المشبهة حقاً وصدقاً وذلك من أربعة أوجه :

أولاً : زعمهم أن آيات وأحاديث الصفات ظاهرها يوهم التشبيه : لذلك يجب أن تؤول وتُصرَف عن ظاهرها ؛ لئلا يقع التشبيه ، وهذا قول المعطلة جميعاً : جهمية ومعتزلةً وأشعرية وما تريدية ... وغيرهم .

فأنت ترى القوم يزعمون ويقررون أنه يلزم من إثبات الصفات لرب الأرض والسموات تشبيهُه بالمخلوقات ... ! أليسوا هم المشبهة حقاً والحشوية صدقاً ؟ أم المشبهة هم أهل الإثبات الذين نطقوا بما نطق به القرآن ، وقرروا ما قررته السُّنة ؟ لو كان إثبات الصفات لرب الأرض والسموات ، كما جاءت في الأحاديث والآيات تشبيهاً وتمثيلاً لَمَا كان على أهل الإثبات لوم ولا عتاب ؛ لأنهم متمسكون بالسُّنة والكتاب .

قال - تعالى - : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ } ( الأعراف : 170 ) ، وقال : { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( الزخرف : 43 ) .

فالذي يثبت لربه - سبحانه - ما أثبته لنفسه في كتابه وفي سُنة نبيه – صلى الله عليه وسلم - وينفي عنه ما نفاه عن نفسه هو المتمسك بالكتاب والمتبع للوحي وهو على صراط مستقيم .

فأهل الإثبات لم يقم في قلوبهم قط هذا التشبيه ، ولم يقع في عقولهم – قطعاً - هذا التمثيل ؛ فكيف ترمونهم بالتشبيه والتمثيل والتجسيم وهم برآء منكم ، ومن زعمكم ومن ظنكم بربكم ؟ وأي ظنٍ أسوأ من ظنكم بربكم أنه وصف نفسه في كتابه بصفات تشبه صفات المخلوقين ؟ وأي ظنٍ أقبح من ظنكم برسوله - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يبيِّن صفات رب العالمين ؟ فذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الضالين والمتحيرين والمتهوِّكين .

وهذا الوهم منهم نشأ من زعمهم أن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام ؛ والأجسام حادثة .

قالوا : والذي دلنا على حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث ولم تسبقها ، وما لا يخلو من الحودث ولم يسبقها فهو حادث ؛ واستدلوا على عدم خلوها من الحوادث بطرق :

- منهم من قال : لا تخلو من الحوادث الأربعة ، وهي : الاجتماع والافتراق والحركة والسكون .

- ومنهم من قال : لا تخلو من الحركة والسكون فقط وهي طريقة الرازي .

- ومنهم من قال : لا تخلو من الأعراض ؛ والأعراض حادثة وهي لا تبقى زمانين ، وهي طريقة الآمدي وزعم أن أكثر الأشعرية على هذه الطريقة .

قالوا : وبهذا الأصل أثبتنا حدوث العالم ونفيَ كون الصانع جسماً وإمكان المعاد ؛ فلو بطل الدليل الدال على حدوث الجسم ؛ لبطل الدليل الدال على ثبوت الصانع وصِدْق الرسول ، فصار العلم بثبوت الصانع وصِدْق الرسول ، وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفاً على نفي الصفات ؛ لأن الصفات دليل الأجسام ؛ فهذا أصل ما بنى عليه القوم دينهم وإيمانهم [10] .

ومن الناس من يظن هذا الأصل من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا به ومن لم يعرف ربه بهذا الطريق لم يكن مؤمناً به ولا بما جاء به رسوله ، وهذا مذهب الجهمية والمعتزلة وأكثر الأشعرية وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل الحديث والصوفية .

وقد صرح الإمام أبو الحسن الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بأن : الإيمان ليس موقوفاً على هذه الطريق ولا هي من لوازمه ، وليست طريقَ الرسل ويحرُم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل [11] .

وقال أهل الكتاب والسُّنة : بل هي طريق في نفسها باطلة ومتناقضة أعظم تناقض ، وتُعارِض الكتاب العزيز أتم معارضة ، ومستلزمة لنفي الصانع وصفاته وأفعاله ومستلزمة لنفي المبدأ والمعاد ؛ فأول لوازم هذه الطريقة نفي الصفات والأفعال ، وأنه لا يفعل شيئاً ألبتة ، ونفي العلو والكلام ، ونفي الرؤية ، ومن لوازمها أيضاً القول بخلق القرآن ، وقد ألزمهم ابن سينا بهذه الطريق ( القول بنفي المعاد ) إلزاماً لا محيص لهم عنه ؛ فقال : ( إذا كانت نصوص الصفات استعارات ومجازات ، فالأَوْلى أن تكون نصوص المعاد كذلك ) [12] .

وهذا حق ؛ فلا جرم أن نصوص الصفات أبين وأظهر دلالة من نصوص المعاد ، فإذا كانت آيات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه وتكلُّمه وتكليمه على سبيل الاستعارة والمجاز ، فما الذي يمنع من أن تكون آيات المعاد كذلك ؟ فبهذا الأصل سلَّط الله على المعطلة أعداءهم ، واستطالت عليهم الفلاسفة والدهرية ؛ فلا للإسلام نصروا ولا لعدوه كسروا .

والله الموعد : { وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ( الشعراء : 227 ) .

ثانياً : اعتقادهم أن الأجسام متماثلة ومتشابهة : فهم لا ينفون أي صفة عن الخالق - سبحانه - إلا لظنهم أنها تستلزم تشبيهه بالمخلوق ؛ لأن المخلوق متصف بها في زعمهم ؛ فهي من صفات المخلوقين فمتى وصفنا الخالق بهذه الصفات لزم تشبيهه بالمخلوقين ؛ لأن الأجسام متماثلة في نظرهم ؛ لذلك فهم لا ينفون عن الخالق صفاته إلا بعد اعتقادهم هذا التشبيه والتمثيل ؛ فيلزمهم أن الله - سبحانه - قد شبَّه نفسه بالمخلوقين عندما أطلق على نفسه هذه الصفات ، ونبيُّه - صلى الله عليه وسلم - كذلك قد شبهه بالمخلوقين ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .

فانظر إلى ضلالهم ، وسوء فهمهم ؛ كيف قادهم إلى أن يفتروا على الله كذباً ، ويحرفوا الكلم عن مواضعه .

ألا يعلم أولئك أن ذاته - سبحانه - لا تشبه الذوات ؟ فكما أن ذاته لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه الصفات ، هذا هو المعقول عند أصحاب العقول أما اعتقاد أن الأجسام متماثلة فهو أصل باطل عند جميع العقلاء قديماً وحديثاً ، لكن هؤلاء لما عارضوا الوحي بعقولهم ،أفسد الله عليهم عقولهم فجعلهم يقولون ما يُضحِك العقلاء .

والأدلة العقلية والسمعية الدالة على بطلان هذه النظرية كثيرة جداً أكثر من أن تحصى فأيَُّ نسبةٍ ليد المخلوق الضعيف العاجز إلى يدٍ تطوي السموات السبع ويدٍ تقبض الأرض ؟ وأيُّ نسبةٍ لإصبع المخلوق إلى إصبع توضع عليها الجبال كلها وإصبع توضع عليها الشجر جميعاً ؟

بل أي نسبةٍ لرِجْل البعوضة إلى رِجْل الفيل ؟ فهل يصح في العقول أن يقال : إن البعوضة تشبه الفيل ؟ وأي نسبة لجناح العصفور إلى جناح جبريل ؟ فهل يقال : إن العصفور يشبه جبريل ؟ ثم من قال لك : إن الجناح لا بد أن يكون من ريش ؟ وهل سَمْع الجني مثل سمعك وبصره مثل بصرك وإرادته مثل إرادتك ؟ وهل قول النملة مثل قولك وإرادتها مثل إرادتك وكلام الهدهد مثل كلامك ؟ وهل سجود الشمس والقمر والجبال والشجر مثل سجودك ؟ المقصود أنهم لَمَّا ظنوا تماثل الأجسام وقام هذا التشبيه الذهني في عقولهم السخيفة ظنوا أنه لا تقوم به الصفات والأفعال ، فنفوا عنه صفاته العليا ؛ لئلا تستلزم التشبيه ؛ ففروا من هذا التشبيه المزعوم ووقعوا في لوازم قبيحة شنيعة تليق بهم لا محيص لهم عنها ؛ علماً أن هذه الألفاظ لا يجوز إطلاقها على الرب - سبحانه - نفياً ولا إثباتاً ، مثل لفظ الجسم والمركب وغيرها ؛ لعدم ورودها في الكتاب ولا في السُّنة ؛ فلا نَصِفه - سبحانه - إلا بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ?

ثالثاً : تشبيههم الباري- جل وعلا - بالناقصين : بتعطيله عن صفات الكمال ونعوت الجلال ؛ ومن لم يكن من الكاملين كان من الناقصين ، ومن لم يكن له المثل الأعلى كان له مثل السوء ، وهذا ليس إلزاماً لهم بتعطيلهم فحسب ؛ بل قد صرح به أكابرهم .

قال فخر دينهم : ( لم يقم دليل عقلي على تنزيه الرب عن النقائص والعيوب ، وإنما علمنا ذلك بالإجماع ) [13] .

وهو في كتبه يقدح في دلالة الإجماع وبيَّن أنها ظنية لا قطعية ؛ فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الرب من النقائص والعيوب ، بل غاية ما عندهم في ذلك الظن ، وفخر دينهم هذا يوافق الفلاسفة في مسألة الإرادة ويرجِّح أن الرب - سبحانه - فاعل بالذات ، ليس فاعلاً بمشيئته واختياره [14] .

فالحق أنه ما افتخر بالدين ولا افتخر به الدين .

ومما يدل على أن المعطلة قد شبهوه بالناقصين : أنهم سموه ماكراً وخادعاً وكائداً وجوزوا إطلاق هذه الأسماء عليه .

قال البقوري مستدركاً على شيخه القرافي في الفروق لَمَّا ذكر أنه يُقتصَر بهذه الأسماء على محلها للمقابلة : ( ورأيت صاحب الشعب الشيخ أبا محمد عبد الجليل القصري الأوسي - رحمه الله - ذكر في الأسماء ماكراً وخادعاً . وظاهر كلامه أنها تطلق لا ما قاله شهاب الدين ( أي : القرافي ) ، ثم ينقل البقوري عن الرازي في تفسيره ما يدل على جواز إطلاقها [15] .

وإن تعجب فعجبٌ حال هؤلاء المعطلة أتوا إلى صفات الكمال ونعوت الجلال فنفوها عنه - سبحانه - وأتوا إلى النقائص والعيوب ، فأطلقوها عليه .

والعجيب جداً أن القرافي قبل المسألة السابقة بقليل يقرِّر في فروقه أن القرآن العظيم لا يجوز الحلف به ؛ لأنه مخلوق وإنما يجوز الحلف بالكلام النفساني القديم الذي لم يسمعه جبريل ولا موسى - عليهما السلام - ولم يرد عليه البقوري ولم يستدرك على عادته : { فَمَالِ هَؤُلاَءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } ( النساء : 78 ) .

رابعاً : تشبيههم المخلوق بالخالق وإعطاؤه من حقوق الألوهية وخصائص الربوبية ، ويصرفون له أنواعاً من القربات والنذور والدعوات ، ويطلبون منه قضاء الحاجات وتفريج الكربات ، وهذا هو التشبيه الذي نهاهم عنه رب الأرض والسموات ، وحذرهم منه .

والقرآن مليء بالتحذير من الغلو في المخلوق ، وتشبيهه بالخالق في العبادة والخضوع والتعظيم .

وربما يقول بعضهم : أين العدل والإنصاف ؟ كيف تنسب إلينا ما لم نفعله وما لم نعتقده ؟ أقول : بلى وربي إنه لحق ، وليس هذا بكذب ولا بهتان ؛ فكثير من المعطلة هم أكثر الناس نقضاً لتوحيد العبادة وتوحيد الإلهية ، وهم أشد الناس تعلُّقاً بأصحاب القبور ، وهم الذين اختلقوا الحديث المشهور : « إذا ضاقت عليكم الأمور ؛فعليكم بأصحاب القبور » [16] .

قال العلاَّمة ابن القيم - رحمه الله - : ( تبين أن المشبِّهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق ، في العبادة والتعظيم والخضوع والحلف به ، والنذر له ، والسجود له ، والعكوف عند قبره ، وحلق الرأس له ، والاستغاثة به ، والتشريك بينه وبين الله بقولهم : ليس لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ، وما شاء الله وشئت ، وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء هم المشبهة حقاً لا أهل التوحيد المثبتون لله ما أثبت لنفسه ، والنافون عنه ما نفاه عن نفسه ... الذين لا يجعلون له نداًً من خلقه ولا عدلاً ولا كفؤاً ولا سميّاً ، وليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ) [17] .



(1) ابن القيم ، مختصر الصواعق المرسلة ، ص 165 .

(2) تفسير ابن جرير الطبري .

(3) ابن القيم ، مختصر الصواعق المرسلة ، ص166 .

(4) رواه البخاري و مسلم ، من حديث ابن عمر .

(5) رواه البخاري ، من حديث ابن عباس .

(6) مختصر الصواعق المرسلة ، ص 77 .

(7) ابن القيم ، تهذيب مدارج السالكين .

(8) ابن القيم مختصر الصواعق المرسلة ، ص361 .

(9) المصدر السابق ، ص361 .

(10) المصدر السابق ، ص 193 .

(11) المصدر السابق ، ص193 .

(12) المصدر السابق ، ص182 .

(13) المصدر السابق ، ص202 .

(14) ابن تيمية ، التفسير الكبير ، الجزء الأول ، ص167 .

(15) البقوري ، ترتيب فروق القرافي ، ص291 .

(16) العجلوني ، كشف الخفا ومزيل الإلباس ، ص 117 .

(17) إغاثة اللهفان ، ص 577 .

 

أعلى