• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
قراءة في ظاهرة التطاول على " النقاب "

قراءة في ظاهرة التطاول على " النقاب "

  لقد رَجَعَتْ من جديد «حرب النِّقاب»، التي يخوضها النِّقاب ضد معارضيه ومخالفيه، الذين اعتادوا إشعال فتيل هذه الحرب كلما سنحتْ لهم الفرصة.
وبدأنا من جديد نسمع عن تطاولاتهم على «النِّقاب»، ووَصْمِه بـ «التخلُّـف»، و «مَنْعِ التواصل بين فئات المجتمع»، وغير ذلك، كما عاد علماء المسلمين من جديد إلى بيان حكم النقاب، والدفاع عن شرعيته.
وكنت قد استمعتُ وقرأتُ في «وسائل الإعلام» عن هذا وذاك، ونظرتُ أقوالَ المخالفين للنقاب، والمدافعين عن وجوبه فضلاً عن استحبابه وشرعيته، ولا أريد هنا أن أعيد شيئاً مما هو مشهورٌ تجري به «وسائل الإعلام» في الناس هذه الأيام.
لكن ثمة تساؤلات: ما سرُّ هذه الظاهرة؟ وما أبعادها؟ وهل النقاب يستحق كل هذه الضَّجة؟ أم أنه مجرَّد واجب شرعي مثله مثل غيره من الواجبات الشرعية؟
إننا إذا تدبَّرنا هذه المسألة، ووضعناها في سياقها الإسلامي؛ بين النصوص والشرائع الإسلامية، مع تطبيق هذه النظرة الكُلِّيَّة الشاملة على الواقع، وقراءة الصورة مِن كلِّ زواياها وأطرافها، فستظهر الصورة واضحة مكتملة الأركان؛ بحيث لا يمكن فهمها في غياب ركنٍ منها؛ بل لا بد من جَمْعِ أركانها جميعاً؛ لتظهر كما هي، لا كما يُرَاد لها أن تكون.
لنَعُدْ إلى الوراء، حيث الدولةُ المسلمة الناشئة في جزيرة العرب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم، يُحِلُّ لهم الطيِّبات ويُحرِّم عليهم الخبائث، ويسوسهم، ويُعلِّمهم الشرع، ويُربِّيهم، ويصنعهم على عينه وتحت سَمْعِه وبصره - صلى الله عليه وسلم -، والناس معه على قلب رجلٍ واحد، تنتشر فيهم خصال النخوة والغيرة والمروءة، ونحوها مِن خصال الخير.
فالرجال أَغْيَر الرجال، وأطهرهم، وأعظمهم، وأعفهُّم، والنساء كذلك أيضاًً؛ حيث تجد الواحدة منهن تعدل أمَّة في إيمانها، وحيائها، ووفائها لزوجها وأولادها، وطهارتها، وسائر أحوالها، وهناك عشرات الكتب التي تحدثت بتفصيل عن هذه الجوانب.
والحقيقة أنَّ الأمثلة التي لا حصر لها، تشهد بطهارة جيل الصحابة - رضي الله عنهم - ونقائه ومع ذلك كلِّه فقد أَمَرَهم اللهُ - عز وجل - جميعاً (رجالاً ونساءً)، فقال - تبارك وتعالى -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: ٠٣ - ١٣]، وأمرَ نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين مِن بعدهنَّ بعدم الخضوع بالقول في حديثهنَّ، فقال - سبحانه -: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفا} [الأحزاب: ٢٣]؛ فجعل - سبحانه - هذه التدابير الاحترازية حاجزاً يحول بين نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساء المؤمنين مِن بعدهنَّ، وبين طمع مَن في قلبه مرض.
وفي سياق هذه التدابير الاحترازية نجد تدبيراً احترازيّاً آخر يتمثل في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورا رَّحِيما} [الأحزاب: ٩٥]؛ لقد نقلت هذه الآية الكريمة المسألة إلى أبعادٍ رحبة فسيحة، يمكن لنا أن نقف على بعضها بتدبُّر كلمات الآية الكريمة، مع باقي الآيات الكريمات:
لقد جاءت الآية الكريمة هنا على غير العادة في توجيه الأمر للمؤمنات؛ فإِنَّ قوله - تعالى -: {لِلْمُؤْمِنَاتِ} يشمل سائر نساء الأمة، لكن في هذه الآية الكريمة قال - تبارك وتعالى -: {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ}، فذكرَهنَّ بالتفصيل، وقدَّم أزواجه وبناته - صلى الله عليه وسلم - ليقتدي بهنَّ في ذلك مَن بعدَهنَّ مِن نساء المؤمنين، وهذا مَلْمَحٌ تربويٌّ آخر؛ فإِنَّ الناس يقتدون بأئمتهم، ويدفعهم الفِعل إلى الاستجابة أكثر مِن دفع القول لهم؛ فالآية الكريمة قد أكَّدَتْ الأمرَ الوارد فيها، وقدَّمت نساءه وبناته - صلى الله عليه وسلم - زيادة في تأكيد هذا الأمر، وحثّاً لغيرهنَّ على الاقتداء بهنَّ؛ لأنه إذا أُمِرَتْ أفضل نساء هذه الأمة (أمهات المؤمنين، وبنات النبي - صلى الله عليه وسلم -) بذلك كان غيرهنَّ أَوْلى بالأمر وآكد، وهذا القَدْرُ وحدَه كان كافياً في تأكيد الأمر لعموم نساء الأمة، ومع ذلك فقد ذكرت الآية {وَنِسَاءِ الْـمُؤْمِنِينَ} صراحة، وفي هذا العطف زيادة تأكيد لأمر نساء المؤمنين بما أُمِرَتْ به أمهات المؤمنين وبنات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أيضاًٍ ردٌّ على مَن قد يزعم تخصيص الأمر بأمهات المؤمنين وبنات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي أمْرِه - تبارك وتعالى - لهنَّ أنْ يُدْنين عليهن من جلابيبهنَّ تأكيدٌ آخر للأمر بالنقاب، وهذا واضحٌ من قوله - تعالى -: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ}، فعمَّهُنَّ جميعاً ولم يستثنِ من ذلك وجهاً أو كفّاً أو غيرهما؛ فدلَّ ذلك على عموم الإدناء لجميع جسد المرأة لقوله: {عَلَيْهِنَّ} بالجمع دون استثناء. ولو أراد الله - عز وجل - الاستثناء، أو أراد عضواً دون عضوٍ لبيَّنه، كما صرَّح بإرادته الجيوب في قوله - تعالى -: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، وإرادته الصوتَ في قوله - تعالى -: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، وأمثال هذه المعاني؛ ولهذا كان قوله - تعالى -: {عَلَيْهِنَّ} في آية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} شاملاً لجميع المرأة من أعلاها إلى أدناها، لا يخرج من هذا العموم شيءٌ بغير بيِّنةٍ من شرعٍ.
وفي تعبيره - تبارك وتعالى - بالإدناء في قوله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} توكيدٌ آخر على الأمر بالنقاب؛ لأنه - عز وجل - قد أمر في آيةٍ أخرى بغضِّ البصر، ولا يمكن الأمر بغضِّ البصر مع إباحة كشف ما يجرُّ إلى النظر ويشيعه ويفشيه؛ وإنما يلائمه أمر النساء بالاحتشام والابتعاد عن اللباس الذي مِن شأنه لفت الانتباه إليهنَّ وعَطْف البصر عليهنَّ.
ومِن جهة أخرى فقد أمر الله - عز وجل - المؤمنات أن يضربن بخمُرِهنَّ على جيوبهن، فقال - تعالى -: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}؛ والمقصود بالجيب: فتحة اللباس مِن عند العُنُق، وبذلك أمر الله - تبارك وتعالى - النساء بتغطية فتحة اللباس مِن فوق (عند العنق) بخمُرِهِنَّ، وأما مِن أسفل الثوب؛ فقد قال الله - عز وجل -: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}، وهذا أيضاًً يستلزم أن لا تلبس المرأة ثوباً قصيراً مِن باب أَوْلَى.
فإذا وضعنا هذه النصوص وما يجري مجراها مجتمعة في هيئة الثوب الخاص بالنساء في الشريعة، فسنرى صورته تبدأ بخمارٍ في أعلاه يغطي فتحة الجلباب التي عند العنق، ثم الجلباب أسفل الخمار يغطي سائر جسد المرأة، وينزل لأسفل ليغطي قدميها تماماً. لكن تأتي الآية الكريمة: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} لتعمَّ جميع جسد المرأة، وليشمل ذلك أيضاًً الوجه والكفين، لأن أَمْرهنَّ بالإدناء في الآية الكريمة {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ} قَدْرٌ زائدٌ على الخمار والجلباب؛ فهو يعم جميع بدن المرأة مِن أعلاها إلى أسفلها، بغير استثناء لشيء منها، وهذا تأكيدٌ آخر للأمر بالنقاب.
ولا يتنافي هذا كله مع قوله - تعالى -: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}؛ لأنَّ الراجح في تفسير ما ظهر منها هو الثياب ونحوه مما يظهر ضرورة، خلافاً لمن فسَّر {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين؛ لأن الاستثناء هنا من الزينة وليس من الجسد، فلزِمَ مِن ذلك أن يكون ما ظهر منها هو الثياب أو الخمار والنقاب؛ فهذا كله يظهر ضرورة، وهو من الزينة؛ كما قال الله - تعالى -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: ١٣]، ويؤيِّد هذا نهيه - تعالى - في الآية الأخرى بقوله: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}؛ فنهى - سبحانه - عن الضرب بالرِّجل الذي يؤدِّي لرفع الثوب فيظهر ما يخفين مِن زينتهنَّ؛ فقد أمرَ سبحانه في هذه الآية بستر الزينة، فتوافَقَ ذلك مع الأمر بستر الزينة أيضاًً في قوله - تعالى -: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، وظهر أَنَّ المراد بما يظهر مِن  الزينة شيءٌ آخر لا يمكن ستره عادة، وهو الثياب، وهو أيضاً مِن الزينة بدليل آية سورة الأعراف.
وفي تفسير ما ظهر من الزينة بالوجه والكفِّين نظرٌ؛ لما أسلفتُ من أَنَّ الاستثناء في الآية مِن الزينة لا مِن الجسد؛ ففي قوله - تعالى -: {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}، وقوله - تعالى -: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ}، وأمثال هذه الآيات ما يدل على أَنَّ الخطاب متوجِّهٌ إلى تشريعٍ خاصٍّ بشيءٍ (عضوٍ) من المرأة، بخلاف آية الزينة؛ فالخطاب فيها متوجِّه إلى زينة المرأة لا إلى شيءٍ منها نفسها، وسياق الآيات صريحٌ في ذلك؛ حيثُ تكلَّم عن تشريعات خاصة بأعضاء مِن المرأة ثم انتقل للكلام عن تشريع خاصٍّ بزينتها؛ فقال - تعالى -: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْـمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: ١٣]، وهذا السياق بطوله يفتـح آفـاقـاً جديدة في استجلاء الحقيقـة؛ فقـد جـاء قوله - تعالى - بخصوص الزينة على هذا النحو: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} إلى آخر الآية؛ فذكرت الآية نوعين مِن الزينة:
الأول: لا يُبْدِينه إلا ما ظهر منه.
والثاني لا يُبْدِينه إلَّا للأصناف المحدَّدة في الآية.
فدلَّ ذلك على أَنَّ الزينة المعهودة للنساء لا تظهر إلا لمَن حدَّدتْهم الآية، وأَنَّ الثياب الظاهرة هي المقصودة بالزينة الأُولَى في الآية، أو تكون الزينة التي أُجْمِلَت في أَوَّل الآية قد فُسِّـرَتْ في آخرها، وفُسِّرت الأصناف الجائز ظهور الزينة لهم دون غيرهم، وهم الذين ذكرتهم الآية الكريمة؛ فيكـون الــمراد: إلا ما ظهر من الزينة لأصناف بعينهم مِن الناس، وليس لمطلق الناس. ويؤيد ذلك أيضاً أَنَّ المرأة مأمورة بعدم التَّبَرُّج؛ فعُلِمَ بذلك أَنَّ الآية الكريمة: إما أنها قد استثنتْ نوعاً بعينه مِن الزينة وهو اللباس الظاهر ضرورة، أو أَنَّها استثنت ما ظهر مِن الزينة لفئاتٍ بأعيانهم حددتهم الآية دون بقية الناس، وقد يكون الاستثناء هنا يعني عند الضرورة والاضطرار؛ أي: ولا يبدين زينتهنَّ إلَّا ما ظهر منها رغماً واضطراراً وضرورة مِن تمريضٍ ونحوه؛ أو تكون الآية بمعنى «إلَّا ما قد سَلَفَ» في قوله - تعالى -: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: ٣٢]؛ يعني: ما مضى وانتهى، فيكون المراد إلا ما ظهر في الماضي. لكن تفسير {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بمعنى الثياب أو بمعنى ما ظهر لأصنافٍ بأعيانهم، أَوْلَى مِن هذه الاحتمالات الأخيرة؛ والله أعلم.
ولا أريد أن أستطردَ في الكلام على هذه المسائل، فلم أقصد هنا استيعاب النصوص الواردة في مشــروعية النقــاب أو استحبابه أو وجوبه، وإنما المقصود الإشارة إلى أصله الشرعي الإسلامي، وكونه أحد التشريعات التي وردتْ بها  النصوص الشرعية، التي لا يجوز لكائن أنْ ينكر وجودها في الشرع؛ ومَن أراد الاستزادة في أدلة مشروعيته والوقوف على حكمه وآراء العلماء فيه؛ فعليه بالرجوع للمؤلَّفات المشهورة في هذا الباب.
وبعد هذا كله: ما الذي دفع المعارضين للنقاب إلى رميه عن قوسٍ واحدةٍ؟ والانزعاج من انتشاره؟ وسنِّ التشريعات الوضعية الأرضية للحدِّ منه ومحاربته بين آنٍ وآخر؟ ولمَ النقاب تحديداً وليس الوضوء أو الصيام؟
ربما لا يمكن لبعض الناس الجواب عن هذه الأسئلة إذا نظر للمسألة نظرة جزئية ضيقة، تقتصر على النقاب وحدَه، أو على بعض المبررات التي يطرحها المعارضون، لكن يظهر الجواب بوضوح إذا ربطنا بين العداء للنقاب والعداء لعددٍ من الشرائع الإسلامية الأخرى: كالحج والأذان وصلاة الجمعة؛ فقد لاحظنا العداء المستمر والمتجدِّد لهذه الشعائر وأمثالها، والرابط بين هذه التشريعات وأمثالها هو كونها من شعائر الإسلام المميِّزة له عن غيره؛ فهي شعائر تميِّز شخصية الإسلام عن غيره؛ أي أنها: ليست مجرَّد تشريعات إسلامية فقط؛ لكنها إلى جوار ذلك شعائر مُمَيِّزة للشخصية الإسلامية؛ إِذ هي الإعلان الظاهر والواضح عن الهوية الإسلامية والانتماء للإسلام؛ فالأمر في هذه الشعائر يتعدَّى مجرَّد العبادات إلى كونه علامة مُمَيِّزة للهوية الإسلامية، وإعلاناً ظاهراً عن الإسلام، وإذا كان الكتاب يتضح من عنوانه، فإِنَّ هذه الشعائرَ وأمثالَها هي مِن عنوان الإسلام الظاهر، الدالِّ عليه؛ ومِن هنا تأتي أهمية مثل هذه العبادات والتشريعات من الجهتين: الإسلامية، وغير الإسلامية على السواء.
فالعراك الواقع هنا ليس بين عبادات أو تشريعات لها طابع الخفاء أو نحوه؛ وإنما العراك بين دينَيْن وهويَّتَين، يُعْلن كلٌّ منهما عن نفسه بوسائل خاصة به، فيُعْلن الإسلام عن هويَّته بشعائره الـمُمَيِّزة لشخصيته، التي تتجاوز حدَّ الاستجابة والإذعان في خاصَّةِ الشخص كالصيام ونحوه من العبادات الخاصة، بخلاف العبادات العامة أو الظاهرة التي تتسم بالعموم والظهور؛ بحيث يراها المسلم وغير المسلم، ومنها النقاب الظاهر الواضح، الذي يراه الناس بأكملهم عندما تخرج المسلمة من بيتها لقضاء بعض حوائجها فتمرُّ على الناس، تخبرهم في صمتٍ، وتدعوهم في سكونٍ، وتُعلن بغير كلام وعبارات عن هويتها الإسلامية، وانتمائها الأصيل للشعائر الإسلامية؛ حينئذٍ يُخْرِج المخالفُ أضغانَه، مستخدِماً في ذلك ما قَدَرَ عليه من ترغيبٍ وترهيبٍ للمرأة المسلمة من جهة، ولمن يتعاطف مع قضيتها من جهة أخرى، والمخالِفُ في عدائه للنِّقاب خاصة أو لشعائر الإسلام عامة قد يتزيَّن ليصل إلى مراميه بأقصر الطرق وأقلِّها ثمناً؛ فتراه يختفي خلف «اللافتات» التي فرَّغها من محتواها؛ كالحرية الشخصية وحقوق الإنسان، ونحو ذلك مما يتذرَّع به لتنفيذ أغراضه، لكنه حين يتزيَّن بهذه «اللافتات» يضع لها من الضوابط والقيود ما يجعلها قاصرة عليه، فلا يسمح لأحدٍ غيره باستخدام تلك اللافتات لنصرة حقٍّ أو إبطال باطلٍ؛ إلَّا فيما يُمَكِّنه هو مِن أداء دوره والوصول لأهدافه؛ فالحرية الشخصية مقصورة على أصحاب «اللافتات» المزيفة، وحقوق الإنسان عندهم وحدهم؛ ولذا تراهم ينعون كلبـاً أو قطــةً ماتـت عنــدهم، بينمـا لا يكترث هؤلاء لعشرات الأرواح المسلمة البريئة التي تزهق.
وينسى هؤلاء جميع خلافاتهم ويتَّحدون في وجه امرأة منتقبةٍ هنا أو هناك، نظراً لما يثيره نقابها في نفوسهم مِن زلازل عميقة لاتصال الأمر بالهوية؛ ولذا يتحدثون عن الهوية بجوار حديثهم عن النقاب ومحاربتهم له، ويجمعون بين الأمرين في كثيرٍ من أحاديثهم بعبارة أو بأخرى.
وقد كان الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - مُلْهَماً عندما قال: «ومن العادات المحرَّمة: تقليد الأجانب في الملابس والأزياء حتى انتشر ذلك في النساء والأطفال؛ فإذا وقع بصرك على امرأة أو  ابنة مثلاً رأيتها إفرنجية في كل شيء وهي زوجة أو ابنة مَن يَعُدُّ نفسه من جماعة المسلمين، وهذا ضلالٌ يفضي بالأمة إلى تلاشي قوميتها وعاداتها وشعارها حتى تندمج في غيرها...»[1] إلى آخر كلامه الذي يدلُّ على العلاقة الوثيقة بين قضية الثياب والمظهر، وبين قضية الدين والهوية الإسلامية لهذه الأمة.
ومما يؤكد هذا أَنَّ المسألة فــي عيــون المعارضــين للنقــاب لا تقف عند منعه أو تشويه صورته، وإنما تتجاوز ذلك إلى الإلحاح الواضح على نشر كل ألوان التبرُّج وتوابعه من انفلاتٍ أخلاقيٍّ، فيصبح الناس وقد صارت المتبرِّجة نجمة مشهورة، في حين يجري التنفير من الطبيبة، والباحثة، والأستاذة الفاضلة لمجرد كونها ممن يرتدينَ النقاب؛ فالمسألة هنا تتجاوز حدَّ الخلاف الفقهي في حكم النقاب، لتصبح دعوات منظَّمةً، متكررةً، إلى الانفلات، ثم يحاربون النقاب لضمان نجاح سعيهم إلى الانفلات دون عوائق، وهذا يُفسِّر الإصرار العجيب على تشويه صور بعض المشهورات ممن ارتدين النقاب ودافعن عنه ودَعَوْن إليه؛ بخلاف عشرات المنتقبات غير المشهورات، اللاتي لا يُؤَثِّرْن في توجُّه الناس أو لفت انتباههم إلى النقاب والفضيلة؛ وهذا التمييز في التصرُّف تجاه المشهورة وغير المشهورة يؤكِّد أيضاً صلة النقاب بقضية التميُّز والهوية، وأن المسألة ليست خلافاً مع عبادة خفية، أو سلوكٍ شخصيٍّ؛ وإنما خلافهم مع المظهر الإسلامي المُمَيِّز للهوية الإسلامية، مهما تنوَّعَتْ أغراضهم ودوافعهم.
وهذا يُعطي قضية النقاب بُعْداً آخر ينبغي أن لا يغيب عن أذهان المعالجين لقضيته؛ لأن الذي سيبدأ بالتنازل اليوم عن واجب أو مستحَبٍّ؛ سيتنازل غداً عن معلومٍ مِن الدين بالضرورة؛ لأن معارضة النقاب إنما هي مظهرٌ ومقدِّمة لمعارضة الهوية الإسلامية كلها، ولن تقف المسألة عند النقاب؛ لأنها ليست خلافاً مع النقاب؛ وإنما هي خلاف مع الإسلام بكل شعائره وأشكاله، وقد كان خلافهم قبل فترة قصيرةٍ مع اللحية أيضاً ثم هدأ هذا الخلاف كثيراً بعدما انتشرت اللحية في الأمم الأخرى بشكلٍ أو بآخر، وصار شكلها مألوفاً غير مختصٍّ بالمسلمين في نظر هؤلاء المعارضين، وبقي الخلاف مع النقاب المختصِّ بالمسلمين مستمرّاً، كما ثار الخلاف أيضاً مع  الحجارة والجدران، عندما تشير هذه الحجارة إلى شيءٍ من شعائر الإسلام؛ فالخلاف ليس مع الطوب والجدران وإنما هو خلافٌ مع ما تشير إليه هذه الحجارة من المساجد في طول أوروبا وعرضها، أو مع المآذن كما حصل مؤخَّراً في سويسرا التي أجرت الاستفتاء على حظر المآذن، والحجارة هي الحجارة، تُبْنى بها الملاهي فلا تثور لهم ثائرة، فإذا بُنِيَتْ بها المآذن والمساجد ثارت الدنيا؛ لما تشير إليه حينئذٍ من الهوية الإسلامية.
فالخلاف - كما هو واضح - مع الهوية الإسلامية لا مع النقاب أو المآذن أو غيرها من شعائر الإسلام وخصوصيَّاته، ويتأكَّد هذا أكثر وأكثر عندما يصل اعتراضهم إلى لعبة أطفال يجري تصنيعها مرتديةً الحجابَ؛ لما في ذلك من إشارة إلى شعيرة إسلامية حتى وإنْ جاء ذلك عَرَضاً دون قصدٍ من الصانع! فما وجه الخلاف مع لعبة أطفال؟ وهل تملك لعبة الأطفال قوة يخشى منها هذا أو ذاك؟ لكن لـمَّا كانت المسألة تشير إلى شيء من شعائر الإسلام، ثارت الثائرة على لعبة الأطفال أيضاً، بل نشرت وسائل الإعلام أنَّ بعض الدول سنَّت التشريعات الصارمة في وجه هذه اللعبة.
وهذه الوقائع جميعها لا يسع أحدا التعامي عنها وهو يتناول ظاهرة التطاول على النقاب التي تدور رحاها هذه الأيام.
وفَّق الله الجميع إلى ما فيه صالح الإسلام والمسلمين.


[1] الإبداع: (ص/413):
 

أعلى