سورية الثورة.. الحساب السياسي وليس الحلال والحرام فقط

سورية الثورة..

 

بعد أكثر من عامين ونصف العام على اندلاع الثورة السورية، لا بد من وقفة وجرد حساب المصالح والمفاسد، أو الحساب السياسي؛ لأن المسألة لا تقتصر فقط في الفكر الإسلامي على المشروع وغير المشروع أو الحلال والحرام، بل إن هناك الحساب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والدولي والإقليمي والداخلي في سورية؛ لاكتشاف مناطق وطرق كانت غير محسوبة أو محسوبة بطريقة جزئية أو خاطئة بشكل كامل أو شكل غير كامل.

على كل حال، فإننا كنا أمام نظام سوري طائفي أسَّسه حافظ الأسد، الذي قتل من الشعب السوري ما قتل، خاصة في حماه، وقتل من الشعبين اللبناني والفلسطيني ما قتل، وتحالف مع الأمريكان مراراً وتكراراً، ولم يطلق طلقة واحدة تجاه إسرائيل منذ عام 1973، ثم فرض على الشعب السوري ابنه حاكماً وحيداً ومسيطراً، ليدشن تحالفاً من الفاسدين والرأسماليين من الأقارب والأصهار والعسكر من العلويين وغير العلويين، ودعم الشيعة في لبنان بصورة واضحة لا لبس فيها، ما جعل حزب الله اللبناني القوة الرئيسية في لبنان تحت شعار المقاومة وسلاح المقاومة، وغيرها من المسميات.

وكان لا بد والوضع هكذا من أن تندلع الثورة في سورية ضمن الثورات العربية أو ما يسمى الربيع العربي في تونس ومصر واليمن.

كانت الثورة سلمية؛ مظاهرات واعتصامات في كل مكان في سورية، وكان هذا يعني ضمن الربيع العربي أن النظام السوري الأشد استبداداً سيسقط في النهاية، وهذا يعني أن من الضروري استدراج الشعب السوري نحو عسكرة الثورة. صحيح أن النظام قد ارتكب من الفظائع والممارسات في سورية ما يجعل عند الشعب والأهالي الآن من الجرائم ما يبرر أو يحتم ضرورة دفع هذا النظام والشبيحة بالقوة المتاحة كنوع من الدفاع الشرعي المباح عن النفس والعرض والمال، لكن هذا الحلال الواضح كانت له تداعياته غير الملائمة للثورة السورية في التحليل النهائي. صحيح أنه حدثت انشقاقات واسعة داخل الجيش السوري، خاصة من الضباط والجنود السنة الذين رأوا أنه من الحرام قتل أهلهم بأيديهم، وتم تشكيل ما يسمى الجيش السوري الحر الذي أنجز على الأرض إنجازات هائلة كادت تودي بالنظام وتحقق نجاح الثورة. لكن أيدي النظام الشيطانية، أو أخطاء الثوار، دفعت بالمسألة نحو مسار غير مريح للثورة ولجميع الأطراف الدولية والإقليمية، حين بدأت تتوافد على سورية عناصر جهادية وسلفية إسلامية تحت زخم القيام بالواجب لنصرة الشعب السوري الشقيق، وهذا أيضاً لا بأس به شريطة أن يدخل هؤلاء في إطار الجيش السوري الحر، والعمل تحت إمرته، ووفقاً لحاجياته اللوجستية، لكن الذي حدث أنه بدأت تتشكل مجموعات خارج سيطرة الجيش السوري الحر ولا تعمل وفق أجندته العسكرية والسياسية، مثل: جبهة النصرة، ثم "داعش" (دولة العراق والشام الإسلامية)، وكان معنى هذا أن المعركة تحت صياغتها إعلامياً وسياسياً معركة بين النظام السوري والأصولية الإسلامية السنية السلفية، لتحويل الموضوع السوري إلى صراع دموي وليس ثورة، وكذلك وصول إحساس إلى القوات الدولية والإقليمية التي لها مصالح وتوجهات معروفة ومعلنة تجاه الأصولية الإسلامية، وخاصة القاعدة.

حققت جبهة النصرة ثم داعش إنجازات عسكرية على الأرض، ما جعلهما طرفين رئيسيين في الصراع، وهذا أضاف دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ثم دولاً إقليمية من إمكانية قيام نظام تابع للقاعدة في سورية، وهو أمر لا يريدونه لهؤلاء بالمرة، فبدأ الدعم الإقليمي والدولي غير المحدود للثورة السورية يدخل في حسابات أكثر تعقيداً.

لنقل مثلاً إنه تم قيام تكتل سني أصولي سلفي في سورية، لن يكون قاعدة للإرهاب المزعوم أو غير المزعوم في العالم، من يضمن أن هذه القاعدة لن تكون جاذبة مغناطيسية لكل من يريد الجهاد ضد إسرائيل مثلاً؟ وهذا شيء جميل وأخلاقي ورائع، لكن في الحساب السياسي للثورة السورية سيئ جداً؛ لأن إسرائيل لن تقف متفرجة، إنها ستدعم النظام السوري أو تسمح لحزب الله بدعمه مثلاً. من يضمن أن هذه القاعدة لن تكون جاذبة لكل من يريد الجهاد ضد أمريكا؟ وهذا يجعل أمريكا تفكر ألف مرة قبل السماح بهذا. من يضمن أن تكون سلوكيات هؤلاء منضبطة بقتال الكفار من الأمريكيين والإسرائيليين وعدم الصراع مع المسلمين الآخرين الذين لا يرون رؤيتهم، سواء كانوا يكفرونهم أو يفسقونهم أو يتهمونهم بالعمالة لأمريكا وإسرائيل أو يرون القتال في دول عربية وإسلامية أخرى واجباً شرعياً، ألا يؤدي ذلك إلى اختلاط الأمور وتغيير الحسابات الإقليمية بشأن الثورة السورية؟!

لنأخذ مثلاً ما حدث في العراق، حيث قام المجاهدون عموماً، ومن ضمنهم من انتمى للقاعدة، بدور كبير في مواجهة الاحتلال الأمريكي للعراق، بل حققت انتصاراً رائعاً في عام 2005 وسيطرت عملياً على المنطقة الغربية السنية في العراق، لكنها تصرفت سلوكياً وسياسياً مع أهل المنطقة السنية بطريقة لا تتناسب مع عادات هؤلاء الناس، حتى لو كانت شرعية من وجهة نظر هؤلاء، أدت إلى ظهور الصحوات التي ما كانت تتجمّع لولا الطفولة السياسية والسلوكية لهؤلاء المجاهدين، ما حجّم إلى حد كبير هذا الانتصار، ووصل الأمر إلى قيام نظام طائفي في العراق للشيعة وللمالكي تجذّر فيه مركز القيادة.

لنترك المسألة العراقية ونعود لنكتشف أن هؤلاء أنفسهم مارسوا نفس الشيء في سورية، فنفر منهم قطاع كبير من أهل سورية، وهذا أفاد النظام السوري جداً، بل وصل الأمر إلى حد إقامة مناطق فاصلة بهم تم تحريرها من الجيش السوري الرسمي أو حتى على حساب الجيش السوري الحر، بل أحياناً بالقتال والصدام معه.

بل ظهرت مشروعات مثل قيام دولة العراق والشام الإسلامية، أي المناطق السنية في العراق مع المناطق السنية في سورية؛ وهذا يؤدي تلقائياً إلى قيام دولة علوية، ودولة كردية، ودولة درزية، في المنطقة، بل دولة شيعية.

مع الأخذ في الاعتبار أن السير في هذا الاتجاه سيدعم تدخّل حزب الله بـ 30 ألف مقاتل لصالح بشار، وكذا تدخّل الحرس الثوري الإيراني، وتدخّل شيعة العراق عن طريق جيش أبو الفضل العباس، أو جيش المهدي. صحيح أن هذا التدخل كان أمراً واقعاً في البداية، لكنه لم يكن يمتلك غطاء سياسياً إلا بعد ممارسات الطفولة السياسية التي مارسها بعض المجاهدين، لنأخذ مثلاً موقف أكراد سورية، الذين انضموا إلى الثورة في البداية، ثم ما لبثوا إلا أن تنكروا للثورة وقاتلوا جيش النصرة ثم داعش ثم الجيش الوطني الحر؛ لأن المشروع الذي تبشّر به داعش خطر عليهم، وهكذا فنحن أمام تحرك كردي عراقي، وكردي من تركيا "حزب العمال الكردستاني التركي"، وهو حزب مسلح ومدرب وله كوادر في العراق وتركيا، وهذا التحرك نجح في رفع سقف مطالب أكراد سورية والعراق وتركيا إلى التفكير في دولة كردية في مناطق الأكراد التي التحمت ببعضها الآن في الدول الثلاث، وهذا يخيف المؤسسة التركية في الحكومة والمعارضة على حد سواء، ويجعل حكومة رجب طيب أردوغان في موقف ضعيف أمام الشعب التركي خوفاً على تمزّق تركيا، حتى لو كانت حكومة أردوغان متعاطفة جداً مع الشعب السوري.

بعد أكثر من عامين ونصف العام على الثورة السورية، وبعد أن سقط من 150 – 250 ألف شهيد، و400 ألف من الجرحى، وهناك 500 ألف ملاحقون أمنياً، ونحو 60 ألف معوق سوري بإعاقة كاملة، و7 ملايين مهجر في الداخل والخارج، وتدمير نحو 60% من المنازل السورية، وحصار أكثر من نصف سكان سورية تحت وطأة الجوع، ونحو 300 ألف معتقل، و100 ألف مفقود لا يعلم أحد عنهم شيئاً، والأرقام في هذا الصدد لا تُعدّ ولا تُحصى، بل هناك جيل أو أكثر قد تم تعويقه بصورة ما.. بعد كل هذا الخراب السياسي من المفروض أن تكون هناك محاولة للحساب السياسي وليس الحلال والحرام والمشروع وغير المشروع فقط، وأنا هنا لا أطرح حلاً بعينه، فمن الضروري أن نحاسب القتلة وننصر الثورة، لكن الإبداع السياسي الإسلامي يقتضي البحث عن طريق يحقق هذا، مع الأخذ في الاعتبار كل العوامل السابق الحديث عنها إقليمياً ودولياً وداخلياً، وليس تجاهلها والتعالي عليها بدعوى أن الحق حق وكفى الله المسلمين شر البحث والتحليل والإبداع واختراق هذا الحاجز المرئي من الحسابات السياسية المعقّدة.

أضف إلى كل هذا الرغبة الروسية في تأمين تواجد لها في المنطقة وتصاعد رغبتها في التواجد الإقليمي والدولي مرة أخرى على حساب الولايات المتحدة الأمريكية أو باقتسام الكعكة معها، إضافة إلى أن أمريكا مأزومة اقتصادياً وتسعى أيضاً إلى التفاهم مع إيران على حساب دول المنطقة، طبعاً ويمكن لإيران أن تتفاهم في الموضوع النووي مثلاً في مقابل استمرار النظام السوري بصورة أو بأخرى.

وهكذا، فإن من الخطأ والخطيئة، بل من الحرام شرعاً، عدم إدراك كل هذه العوامل والحسابات، ومن الضروري هنا أن أقول قولاً قاسياً للإسلاميين عموماً وللمجاهدين المخترقين وغير المخترقين بأجهزة استخبارات؛ إن المراهقة السياسية وضيق الأفق مرض أطفال، وهذا مثال أحد الزعماء الماركسيين – وهم كفار طبعاً – وهو فلاديمير لينين - زعيم الثورة البلشيفية في روسيا سنة 1917 –، أن الشيوعية اليسارية مرض أطفال، وكان يسكن إلى التطرف وعدم الحساب السياسي والتمسّك بقواعد جامدة يمكن أن تكون ضرراً فادحاً لقضيته وقضية الفكرة التي كان يؤمن بها.. والله تعالى أعلم.

:: مجلة البيان العدد  318 صفر 1435هـ، ديسمبر  2013م.

::  "البيان" تنشر ملف شامل ومواكب لأحداث الثورة السورية

 

أعلى