التطبيع.. سلاح الصهاينة الجديد لاختراق المنطقة

التطبيع.. سلاح الصهاينة الجديد لاختراق المنطقة

 

يلحظ المتابع لسير العلاقات العربية - الصهيونية بصورة ملفتة؛ أن فكرة التطبيع لم تطرح جدياً، بأبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية، إلا في أعقاب الاتفاقيات الفلسطينية - الإسرائيلية، ومع ذلك يمكن رؤية الأسباب التي حالت دون تسرب التطبيع، ومنها: الرفض العربي الواسع على المستويين الرسمي والشعبي، وروح العداء المتأصّلة في ضمير الشعب العربي تجاه إسرائيل؛ نتيجة حروبها واعتداءاتها وما خلّفته من خسائر بشرية ومادية جسيمة، وعدم حل القضية الفلسطينية «جوهر الصراع مع الحركة الصهيونية وإسرائيل»، ودور المثقفين والمفكرين والمبدعين الريادي، إلى جانب وجود مؤسسات ونقابات تمثيلية للقطاعات الشعبية والمهنية لعبت دوراً مهماً في مقاومة التطبيع.

مع العلم أن التطبيع بين العرب والصهاينة قد يكون أخطر نتائج اتفاقيات التسوية بين النظام العربي الرسمي وإسرائيل، حيث إن الهدف النهائي لهذا التطبيع يتركز في محاور رئيسة مهمة، أبرزها: الوصول إلى عقل المواطن العربي ووجدانه، وضرب المناعة النفسية لديه، ودفعه للقبول بالآخر «الإسرائيلي» ضمن شروطه التي يفرضها في عصر قوته، والترويج لفكرة المشاركة مع الآخر «الإسرائيلي» في كل المجالات والقطاعات.. وسينعكس التطبيع حتماً على المناهج المدرسية، الملزَمة بإجراء التحويرات فيها، بما لا يتناقض مع الاتفاقيات المعقودة.

وفي ضوء أن التطبيع يمثّل الدعامة الرئيسة للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة العربية، لأنه أعمق وأكثر استقراراً من أي ترتيبات أمنية؛ كالمناطق المنزوعة السلاح، ووضع قوات دولية... وغيرها من الترتيبات الأمنية؛ فإنه يبقى العامل الحاسم على المدى البعيد؛ لأن الصراع يترسخ في وعي الشعوب وثقافتها وذاكرتها الجمعية ووجدانها، فيصعب هز القناعات وتدمير مقومات الذاكرة الوطنية واختراق الثوابت التاريخية والدينية والحضارية دون إقامة جسور للتواصل والتطبيع.

ومن ثم، فإن الإصرار الإسرائيلي على التطبيع ينبع من إدراكه أن هذا الميدان هو المؤهل والقادر على تلويث الفكر العربي والثقافة الشعبية الوطنية، وضخ المفاهيم والتصورات المشوهة لقيمه ومبادئه و«الشخصية القومية»؛ فالتطبيع في المجال الثقافي، كما تنطوي عليه المخططات الإسرائيلية، يستهدف في التطبيق العملي إعادة كتابة التاريخ الحضاري للمنطقة العربية، من خلال تزييف عديد من الحقائق والبديهيات التاريخية المتعلقة بالطريقة الاستعمارية الاستيطانية التي أقحمت دولة الكيان في الوطن العربي، والتوقف عن تدريس الأدبيات والوثائق والنصوص المعادية لليهود ودولة إسرائيل.

كما يهدف التطبيع إلى أن تصبح الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسس للمشروع «الصهيوني» الموجّه لتدمير الثقافة والهوية الحضارية للمنطقة العربية بأكملها، بل إحداث التفكيك والفوضى داخل كل قطر عربي، عبر إذكاء روح التناحر بين المنتمين للأديان والطوائف والمذاهب والجماعات المختلفة من جهة، ومحاولة تحقيق السيطرة الثقافية والعلمية والتقنية من جهة أخرى، وتدمير المقومات الذاتية للثقافة والحضارة العربية؛ ولهذا فهو في نظر خبراء إسرائيل وباحثيها وقادتها العنصرُ الأهم والأكثر إلحاحاً في فرض الهيمنة «الصهيونية» على العرب، وجعلهم يستسلمون نهائياً، تعبيراً عن الهزيمة الحضارية والانهيار والانتحار الجماعي.

ويمكن الإشارة إلى عديد من الشواهد التي تؤكد سريان التطبيع لبعض النخب السياسية والثقافية، ومن ذلك أن هذا التطبيع الثقافي بين العرب والإسرائيليين يستهدف مفردات قاموس خطابهم السياسي والثقافي، بدليل أننا بتنا نتحدث عن إعادة الانتشار بدلاً من الانسحاب أو جلاء الاحتلال، ووقف الاستيطان بدلاً من إزالته، ولم نعد نستخدم كلمة العدو الصهيوني، وتردد ألسنتنا دون وعي المسميات الإسرائيلية لكثير من الأماكن العربية، ومن يدري أي صفات بدل «العدو» سنطلقها على إسرائيل في وقت لاحق.

كما يلاحظ على خطابنا أنه يتسم بنبرة استعطافية توحي وكأن الطرف الإسرائيلي هو الثابت وصاحب الحق، وأننا نحن الطارئون. كما يختصر خطابنا حقوقنا في حدود الضفة والقطاع كحد أقصى، متجاهلاً تماماً حقنا التاريخي في فلسطين كاملة. إلى جانب أن التطبيع يستهدف إعادة صياغة مفاهيمنا ومناهج تفكيرنا بما ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، أي إعادة النظر في كثير من قضايا تاريخنا العربي، وإعادة قراءة، وربما كتابة، تاريخنا الماضي والمعاصر، فنعيد النظر في موقفنا من الحركة الصهيونية، والطبيعة الاستعمارية العدوانية لإسرائيل، ودور الغرب الاستعماري فيما وصل إليه حال أمتنا من التخلف والتجزئة ونهب الثروات.

بل أكثر من ذلك، فإن التطبيع يهدف لمسح الذاكرة التاريخية للأمة، وقطع صلتها بماضيها، من خلال الدعوة للابتعاد عن كل ما يثير الأحقاد، ويسعِّر موجة العداء، أو يثير أسبابه؛ بدعوتنا للتركيز على متغيّرات الحاضر، والانطلاق منها إلى المستقبل، في الوقت الذي يتمسك فيه العدو بنبش الماضي علَّه يجد فيه بعض ما يؤكد حقه؛ كاحتفالات إسرائيل بثلاثة آلاف عام على إنشاء القدس، وإحياء التراث اليهودي في القدس والخليل، حتى لو أدى الأمر إلى هدم الأماكن الإسلامية المقدسة.

بكلمات أخرى: فإن التطبيع يستهدف الإبداع العربي في كل أجناسه، خاصة أن الصراع العربي ضد الصهيونية وأهدافها وأخطارها على الوطن العربي، وكذلك مقاومة الأطماع الغربية في وطننا وثرواته؛ تمثل في عناوين رئيسة: في إبداعنا الأدبي والفني من شعر، ورواية، وغيرها.. فأي اتجاه ستسلكه هذه الإبداعات في ظل التطبيع، وفي ظل المتغيّرات السياسية والاقتصادية، وتغير المفاهيم والأفكار؟

كل ذلك اعتبر مؤشرات حقيقية على إمكانية تسلل التطبيع إلى المستويات الثقافية والإبداعية العربية، خاصة مع تكرار تبادل الزيارات بين مسؤولين إسرائيليين وعرب، ولقاءات ومعانقات في أكثر من مؤتمر دولي وإقليمي، وفتح متبادل لمكاتب تمثيل اقتصادية وثقافية وإعلامية بشكل علني أحياناً وسري حيناً آخر، وحضور وفود شبابية وطلابية وأكاديمية لملتقيات تشارك فيها إسرائيل باسم السلام والتعايش... إلخ.

إلى جانب فتح غالبية الفضائيات العربية أبوابها مشرعة أمام المسؤولين الصهاينة من سياسيين وعسكريين ليقولوا ما يريدون، واندماج قسري للاقتصاديات العربية في العولمة الاقتصادية بما تمليه من فتح للحدود ووقف للمقاطعة الاقتصادية على أسس سياسية.

أخيراً، فإن التطبيع مع عدو يحتل الأرض يتناقض مع المصالح الاستراتيجية للأمة، ومع قيمها الوطنية والإسلامية، وهو موقف يعد تواصلاً مع الموقف المبدئي المساند للقضية الفلسطينية.

ومن ثم، فإن الجبهة الثقافية تحديداً هي أكثر جبهات مقاومة التطبيع فاعلية وتأثيراً؛ بسبب الوعي الاجتماعي والسياسي لدى النخبة المثقفة، إضافة لعدم وجود مصالح اقتصادية، وهي إحدى المغريات الأولى لإقامة علاقات تطبيعية مع إسرائيل، وذلك نتج عنه صعوبة في اختراق الجبهة الثقافية رغم أهميتها بالنسبة لإسرائيل التي تركز فاعلياتها الهادفة للتطبيع على تلك الفئة؛ لأنها تدرك أنها «عقل الأمة».

:: مجلة البيان العدد  325 رمضان 1435هـ، يوليو  2014م.

أعلى