الشعوب الحاضرة الغائبة

الشعوب الحاضرة الغائبة

الحمد لله رب العالمين، معز من أطاعه ومذل من عصاه، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين حبيبنا ورسول رب العالمين محمد، أما بعد:

يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

وقد ذكر المفسرون أن الشعوب جمع شعب، وهي رؤوس قبائل العرب، مثل: ربيعة، ومضر، وإياد، وهي أعم من القبائل، لذا ذُكرت أولًا، واقتصرت الآية على ذكر الشعوب والقبائل لأن ما بعدها داخل فيها.

وهناك أقوال أخرى، مثل أن الشعوب هم العجم، والقبائل هم العرب، أو أن الشعوب هم من ينتمون إلى المدن والقرى، ورُوي عن سعيد بن جبير أنه قال: الشعوب هم الجمهور، والقبائل هم الأفخاذ.

وترد في القرآن كلمات أخرى تدل على معانٍ قريبة من معنى «الشعوب» مثل: «الأمة»، و«القوم»، و«الناس» في بعض المواضع.

أما في المصطلح الاجتماعي المعاصر، فلا يختلف معنى «الشعوب» كثيرًا؛ فكلمة «الشعب» أصبحت مرتبطة بدرجة أكبر بالتجمعات البشرية داخل الدولة، أو بالتجمعات المتحدة عرقيًّا أو طائفيًّا.

وفي تعريف الدولة، أنها تتكون من ثلاثة أركان: الشعب أو المجتمع، والأرض، والسلطة. ومن البدهي أنه لا معنى لأرض بلا شعب، ولا قيمة لسلطة دون شعب تحكمه، والقصة الشهيرة للشيخ العز بن عبدالسلام تشير إلى معنى قريب، حيث أدى اعتزام الشيخ الرحيل عن القاهرة غضبًا من الحاكم، وخروج الناس وراءه، إلى إصابة السلطان بالهلع من أن تفرغ المدينة من سكانها، فأسرع إليه يسترضيه.

الشعب، الجمهور، القوم، الناس.. إلخ هم إذن محور الدنيا، ومحتواها الأهم، هم من خلقهم الله لعبادته، واستخلفهم في الأرض وسخرها لهم، وهم من أرسل إليهم الرسل، ليعيدوهم إلى طريق الحق كلما انحرفوا.

مع كون ما سبق من الحقائق الواضحات، إلا أن المتأمل في حال أمتنا العربية اليوم، ليشعر بالدهشة والعجب، ولا يملك إلا أن يتساءل في حيرة: أين الشعوب مما يحدث؟!

لم تعد الشعوب هي محور الدنيا، ولا هي مركز السياسة، فجُل ما نراه من صراعات ونزاعات بين مراكز قوى خفية وعلنية بعيدٌ تمامًا عن مصالح الشعوب ومطالبها.

الشعوب حاضرة نعم.. لكنها غائبة عن التأثير، غائبة عن درك مصالحها، غائبة عن نيل حقوقها.

يحدث ذلك بينما لا يكف الجميع عن امتداح الشعوب وتملقها!

في عهد جمال عبدالناصر، كان يمجد الشعب في خطبه، وفي شعاراته، فهو الشعب القائد، والشعب المعلم، لكن في خياراته وقراراته، لا يحضر الشعب، ولا يشارك، مصداقًا لقول القائل: ولا يستأمرون وهم شهود.

لا يختلف القوميون أو اليساريون أو الليبراليون أو حتى الديمقراطيون كثيرًا.

فالشعب يُطلَب وده في مواسم الانتخابات فقط، حيث الجميع يتملق ويطلق الوعود الزائفة، ويتحدث عن الآمال القريبة والمكاسب المباشرة، وبمجرد أن يفوز ويشغل منصبه، تتحول الآمال القريبة إلى بعيدة، وتصبح المكاسب أحلامًا لا ينالها إلا طويل العمر!

حتى في بلاد الغرب، لا تبدو الشعوب في وضعها الطبيعي، برغم الحريات والرفاهية؛ فتحالُف رجال السياسة مع رجال المال ومع وسائل الإعلام يسوق الناس سوقًا بعيدًا عن مصالحهم.

نسمع في أدبيات الغرب مصطلحات مثل: هندسة الجمهور، هندسة الإجماع، الجمهور القطيع، الديمقراطية النخبوية.. إلخ، وكلها مصطلحات تُنحي الشعوب جانبًا لأنها برأيهم غير قادرة على اتخاذ قرار أو ترجيح خيار، فشعوبهم حاضرة نعم، لكنها أيضًا غائبة عن المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرارات.

حتى الحضور الجماهيري يجري تزييفه حاليًا في المحافل الانتخابية في الغرب، حيث ظهرت شركات تعمل في ما يسمى «تأجير الجمهور» فتحشد فئات من الناس مدفوعي الأجر، ليحضروا اللقاءات العامة للسياسيين والمرشحين، فيهتفون ويصيحون ويرفعون الأعلام مؤيدين، للإيحاء بحضور زائف لجمهور غائب!

في خضم هذه المناهج المضطربة في التعامل مع الشعوب، يبرز الإسلام راقيًا إذ يسعى لترقية الشعوب وترسيخ كرامتها وتثبيت مصالحها، كيف لا وقد قال أحد دعاته الأوائل: «جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد».

هذا هو التصحيح الأول لوضع الشعوب.

يتسم الإسلام بقدرة عالية على التواصل مع الشعوب، واجتذابها، لأنه يحدثهم باعتبارهم مركز الدنيا وهدف وجودها، فيقدم لهم تصورًا وهدفًا وغاية من وجودهم، كما يشرح لهم نهجًا ربانيًّا لتحقيق غاية الوجود ومعنى الاستخلاف في الأرض.

لهذا يصبح من البدهي أن يقف في مواجهة الإسلام كل من يريد تغييب الشعوب، ولأن دعاة الإسلام هم بعبارة أخرى: «دعاة إلى إيقاظ الشعوب»، كان العداء لهم متجذرًا وشاملًا.

بعد ثورات الربيع العربي، كان واضحًا أن الأحزاب الإسلامية هي التي تتقن التواصل مع الشعوب، لأنها تتكلم لغتهم وتفهم مصالحهم ومطالبهم، فتَوَافَق الشرق والغرب على عرقلة مسيرتهم وإيقاف تقدمهم، لتظل الشعوب غائبة وإن حضرت، بينما يريد دعاة الإسلام أن يجعلوا الشعوب حاضرة وإن غابت.

موضوع الصراع إذن هو «الشعب»، فهناك أطراف تسعى إلى تغييبه، إلى استغراقه في النوم، فتحول بينه وبين من يسعى لإفاقته، بل يمثلون للشعب منقذيهم على أنهم خصوم، تجب معاداتهم ونبذهم.

وهناك أطراف أخرى، تسعى لإزالة الغبش، ووضع النقاط على حروفها، وهم دعاة الإسلام وحملة الرسالة.

هذا هو موضوع الصراع وحقيقته، يتجلى واضحًا منذ قديم الزمان، كما ذكر الله تعالى في أكثر من موضع، إذ تبدو خلاصة قصص الأنبياء مع أقوامهم، كما جاء في قصة نوح عليه السلام: 

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].

{قَالَ الْـمَلأُ مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} [الأعراف: 60].

إنه صراع إذن بين «دعاة الحق» وبين «الملأ» على عقول «القوم» وقلوبهم.

هذه هي القصة باختصار:

من يحسن التواصل مع الشعوب، من يملك التأثير في اتجاهاتها، من يحسن فهم سماتها وخصائصها؛ هو الطرف الذي سيكسب الصراع، صراع الحق والباطل.

والله غالب على أمره.

:: مجلة البيان العدد  338 شـوال  1436هـ، يوليو - أغسطس  2015م.

أعلى