حكام وعلماء عموا العلم وأهله

حكام وعلماء عموا العلم وأهله


حاجة الناس إلى الهدى أشد من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وكذلك العلم لأن العلم هو سبب الهدى؛ فالعلم قائد والعمل تبع له؛ قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ...} [محمد: 19].

قال الإمام أحمد: حاجة الإنسان إلى العلم أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، لأنه يحتاج إلى الطعام والشراب في أوقات، ويحتاج إلى العلم في كل وقت، أو كما قال.

لذا قال تعالى آمراً نفراً من المؤمنين أن يتخلفوا عن السرايا: {وَمَا كَانَ الْـمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. قال القرطبي في تأويلها: «هذه الآية أصل في وجوب طلب العلم لأن المعنى: وما كان المؤمنون لينفروا كافة والنبي صلى الله عليه وسلم  مقيم لا ينفر فيتركوه وحده... {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَة} [التوبة: 122] تبغي بغيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم  ليتحملوا عنه الدين ويتفقهوا، فإذا رجع النافرون إليهم أخبروهم بما سمعوا أو علموا وفي هذا إيجاب التفقه في الكتاب والسنة وأنه على الكفاية دون الأعيان. ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: ٧]، فدخل في هذا من لا يعلم الكتاب والسنة»[1].

طلب العلم في الجملة منه ما هو فرض عين وما هو فرض كفاية، ولكن يتعين في كل مدينة أو قرية على نفر التوسع والتخصص في فروع العلم المختلفة لحاجة الناس إليهم.

فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أمناء الرسل، وأمناء الله على خلقه. قال الغزالي رحمه الله: «إذا كانوا أمناء الله على خلقه فيجب أن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلد، أو محلة، أو مسجد، بتعليم أهلها دينهم، وتمييز ما يضرهم عما ينفعهم، وما يشقيهم عما يسعدهم، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يُسأل بل يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه، فإنهم ورثة الأنبياء، وهم لم يتركوا الناس على جهلهم، بل كانوا ينادونهم في الجوامع، ويدورون على دورهم في الابتداء، يطلبون واحداً بعد واحد فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن من ظهر على وجهه برص - ولا مرآة له - لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره. وهذا فرض عين على العلماء والسلاطين أن يرتبوا في كل محلة من يُعلِّم الناس دينهم. فإن الدنيا دار مرض إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت، ولا على ظهرها إلا سقيم، ومرض القلوب أكثر من الأبدان، والعلماء أطباء والسلاطين قوام ديار المرضى، فكل مريض لا يقبل العلاج بمداراة العالم سُلِّم للسلطان ليكف شره عن الناس كما يُسلِم الطبيب المريض لمن يحبه»[2]. فطلب العلم الشرعي لمن تعين عليهم فرض واجب، والتفرغ له حتم لازم، والمتفرغ له يحتاج لمن يقوم بواجبه ويكفيه همّ معاشه ومعاش من يعول.

قال صلى الله عليه وسلم : «من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا»[3].

فالعناية بالعلماء وطلاب العلم لاسيما الغرباء لا تقل أهمية إن لم تزد على تجهيز الغازي وخلفه في أهله.

المعنيون المهتمون بشأن العلماء وطلاب العلم الفقراء والغرباء لم يخل الله عز وجل منهم عصراً من العصور، غير أنهم قليلون في هذا الزمان ولكن قليلهم لا يقال له قليل.

وكانوا إذا عدوا قليـلاً

 فقد صاروا أقل من القليل

 ونورد في هذه العجالة أسماء عدد من الذين كان لهم اهتمام وعناية خاصة بالعلماء وطلاب العلم لاسيما الغرباء، في عصور الإسلام المختلفة من الحكام الخيّرين والعلماء الحكماء الفالحين عسى أن يكون في ذلك حافزاً ودافعاً ومشجعاً للخالفين من الحكام والعلماء لعلهم يتشبهون بهم فإن لم يكونوا أمثالهم فإن التشبه بالرجال فلاح.

أولاً: الحكام:

 من أشهر الحكام الذين كانوا يعتنون ويهتمون بالعلم وطلابه على سبيل المثال لا الحصر، بعد عصر الخلافة الراشدة:

أ- الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز:

كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله مدنياً ومقرباً للعلماء والفقهاء، متباعداً عن الشعراء والسفهاء، وعندما ولي الخلافة وفد الشعراء على بابه فلم يأذن لأحد منهم، ولهذا طلب جرير من عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الثقفي وكان ورعاً فقيهاً أن يشفع له لدى عمر بن عبد العزيز قائلاً:

يا أيها القارئ المرخي عمامتــــه

 هذا زمانك، إني قد مضى زمنــي

أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيـــــــــــــه

 أني لدى الباب كالمصفود في قرن

فأذن له فدخل عليه ومدحه بقصيدة، فقال له: ليس لك في بيت المال حق وأعطاه عشرين ديناراً فضلت من عطائه، فخرج فاجتمعت إليه الشعراء وقالوا: ما وراءك يا أبا حرزة؟ قال: ليلحق الرجل منكم مطيته، فإني خرجت من عند رجل يعطي الفقراء ولا يعطي الشعراء، ثم قال:

وجدتُ رقى الشيطان لا تستفزه

 وقد كان شيطاني من الجن راقياً

هذه نماذج من حرص عمر على نشر العلم الشرعي وعلى اهتمامه بالعلماء وطلاب العلم كما جاء في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي [77،76،60]، روى ابن الجوزي بسنده قال: «بعث عمر بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري: يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقاً. فأما يزيد فقبل، وأما الحارث فأبى أن يقبل، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك. فكتب عمر: إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد».

وقال ابن الجوزي: حدثنا عكرمة بن عمار قال: سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: «أما بعد فآمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت».

وروى ابن الجوزي كذلك بسنده عن ابن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: انظر إلى القوم الذين نصَّبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المساجد عن طلب الدنيا، فاعط كل رجل منهم مئة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حيث يأتيك كتابي هذا. وإن خير الخير أعجله والسلام عليك».

ب- الخليفة العباسي هارون الرشيد رحمه الله: كان من المهتمين بالعلماء وطلاب العلم، لاسيما المتميزين الفطناء من الصغر.

كان يفرق العطايا والصلات لطلبة العلم والعلماء، حتى قال ابن المبارك: «فما رأيت عالماً ولا قارئاً للقرآن، ولا سابقاً للخيرات، ولا حافظاً للحرمات في أيام بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأيام الخلفاء والصحابة أكثر منهم في زمن الرشيد وأيامه، لقد كان الغلام يجمع القرآن وهو ابن ثمان سنين، ولقد كان الغلام يستبحر في الفقه والعلم ويروي الحديث ويجمع الدواوين ويناظر المعلمين وهو ابن إحدى عشرة سنة»[4].

ج- المعز بن باديس: أحد أمراء دولة الصنهاجيين في المغرب الإسلامي: كان رحمه الله لا يسمع بعالم جليل إلا أحضره إلى حضرته وجعله من خاصته، وبالغ في إكرامه وعَوَّل عليه، ومنحه أسمى الرواتب[5].

د- الخليفة الموحدي الثالث المنصور بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن رحمه الله: بلغ اهتمام هذا الخليفة وعنايته بطلاب العلم الفقراء الغرباء أن أنشأ «بيت الطلبة» وأشرف عليه بنفسه، وعندما بلغه حسد بعض حاشيته على موضوع الطلبة النابغين عنده، فزع منهم وخاطبهم قائلاً: «يا معشر الموحدين أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيلته، وهؤلاء الطلبة لا قبيلة لهم إلا أنا، فمهما نابهم من أمر فأنا ملجأهم، إلي فزعهم، وإليّ ينسبون»[6].

هـ- أبو العباس أحمد بن طولون (ت270هـ): قال عنه ابن خلكان: «صاحب الديار المصرية والشامية والثغور. كان أحمد عادلاً، جواداً، متواضعاً، حسن السيرة، صادق الفراسة، يباشر الأمور بنفسه، ويعمر البلاد، ويتفقد أحوال رعاياه، ويحب أهل العلم، وكانت له مائدة يحضرها كل يوم الخاص والعام، وكان له ألف دينار في كل شهر للصدقة»[7].

ثانياً: العلماء:

 من أشهر العلماء من الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم الذين كانت لهم عناية واهتمام خاص بالعلماء وطلاب العلم الفقراء والغرباء على سبيل المثال لا الحصر:

أ- جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: من الأجواد المشاهير جعفر الطيار قال عنه أبو هريرة رضي الله عنه: «ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله أفضل من جعفر بن أبي طالب». قال الذهبي: يعني في الجود والكرم[8]. وقال أبو هريرة كذلك: كنا نُسمي جعفراً أبا المساكين. كان يذهب بنا [أهل الصُّفة] إلى بيته، فإذا لم يجد لنا شيئاً، أخرج لنا عكة [إناء] أثرها عسل، فنشقها ونلعقها»[9].

ب- سعد بن عبادة رضي الله عنه: من الأجواد كذلك وكان بيتهم بيت جود، كان يلقب بالكامل لأنه كان يكتب في الجاهلية ويحسن العوم والرمي. كان سعد كما قال الذهبي وعدة آباء له قبله: ينادى على أُطِمهم: من أحب الشحم واللحم، فليأت أُطم دليم بن حارثة.

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم  المدينة كان سعد يبعث إليه كل يوم جفنة من ثريد اللحم، أو ثريد بلبن أو غيره، فكانت جفنة سعد تدور مع رسول الله في بيوته حيث دار[10].

وعن ابن سيرين قال: كان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين من أهل الصفة يعشيهم.

وقال عروة بن الزبير: كان سعد بن عبادة يقول: «اللهم هب لي حمداً ومجداً، اللهم لا يصلحني القليل [من المال] ولا أصلح له»[11].

ج- الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله: من الأئمة الأجواد الذين كان لهم اهتمام وعناية بالعلماء وبطلاب العلم النجباء الفقراء خاصة وبالمساكين عامة.

لقد ترجم النووي لأبي حنيفة في كتابه «تهذيب الأسماء واللغات» (ج2/216-223) جاء فيه: «قال أبو نعيم: كان أبو حنيفة حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، حسن المجلس، كثير الكرم، حسن المواساة لإخوانه».

وعن وكيع قال: كان أبو حنيفة إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها، وكان إذا كسا ثوباً جديداً كسا بقدر ثمنه الشيوخ والعلماء، وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه ضعف ما يأكل فجعله على الخبز ثم يعطيه الفقير».

وعن قيس بن الربيع قال: كان أبو حنيفة ورعاً فقيهاً، يبعث البضائع إلى بغداد فيشتري بها الأمتعة، ويجلب إلى الكوفة، ويجمع الأرباح من سنة إلى سنة فيشتري بها حوائج المشايخ المحدِّثِين وأثوابهم وكسوتهم، وما يحتاجون إليه، ثم يعطيهم باقي الدنانير من الأرباح ويقول: أنفقوها في حوائجكم، ولا تحمدوا إلا الله تعالى، فإنه والله مما يجريه الله لكم على يدي، فما في رزق الله حول لغيره».

وقال حفص بن حمزة القريشي: كان أبو حنيفة ربما مر به الرجل فيجلس إليه لغير قصد، ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كان به حاجة وصله، وإن مرض عاده، حتى يجبره على مواصلته، وكان أكرم الناس مجالسة.

لقد اعتنى أبو حنيفة بالقاضي أبي يوسف ورعاه وكان فقيراً حتى وصل إلى ما وصل إليه.

د- فقيه مصر الليث بن سعد رحمه الله: من العلماء الأجواد الأسخياء الذين كانوا ينفقون على العلماء وطلاب العلم إنفاق من لا يخشى الفقر، وكان من الأثرياء الأغنياء ومع ذلك لم تجب عليه زكاة[12].

قال عنه الشافعي: هو في مصاف مالك ولكن ضيعه تلاميذه. وقال أبو داود: قال قتيبة: كان الليث يستغل عشرين ألف دينار - من الذهب - في كل سنة، وما وجبت عليه زكاة قط.

وإليك طرفاً من إنفاقه على إخوانه من العلماء:

قال حرملة: كان الليث بن سعد يصل مالكاً بمئة دينار في السنة، فكتب إليه مالك عليَّ دين، فبعث له بخمسمئة دينار. فسمعت ابن وهب يقول: كتب مالك إلى الليث: إني أريد أن أُدْخِل بنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي شيئاً من عصفر، فبعث إليه بثلاثين حملاً عصفراً، فباع منه بخمسمئة دينار وبقي عنده فضلة.

روى الذهبي بسنده إلى شعيب بن الليث يقول: خرجت حاجاً مع أبي، فقدم المدينة، فبعث إليه مالك بن أنس بطبق رطب، فجعل على الطبق ألف دينار ورده إليه.

وقال قتيبة: لما احترقت كتب ابن لهيعة، بعث إليه الليث من الغد بألف دينار.

وقدم منصور بن عمار على الليث فوصله بألف دينار.

وقال سعيد الآدم: «مررت بالليث بن سعيد فتنحنح لي، فرجعت إليه فقال: يا سعيد خذ هذا القنداق [صحيفة الحساب] فاكتب لي فيه من يلزم المسجد ممن لا بضاعة له ولا غَلَة. فقلت: جزاك الله خيراً يا أبا الحارث. وأخذت منه القنداق، ثم صرت إلى المنزل، فلما صليت أوقدت السراج، وكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قلت: فلان بن فلان، ثم بدرتني نفسي فقلت: فلان بن فلان، قال: فبينما أنا على ذلك إذ أتاني آتٍ فقال: ها الله يا سعيد، تأتي إلى قوم عاملوا الله سراً، فتكشفهم لآدمي؟! مات الليث ومات شعيب أليس مرجعهم إلى الله الذي عاملوه؟ فقمت فلم أكتب شيئاً، فلما أصبحت، أتيت الليث، فتهلل وجهه، فناولته القنداق فنشره فما رأى فيه غير بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: ما الخبر؟ فأخبرته بصدق عما كان، فصاح صيحة، فاجتمع إليه الناس من الحِلق، فسألوه: فقال: ليس إلا خير، ثم أقبل عليّ فقال يا سعيد: تبينتها وحرمتها، صدقت. مات الليث أليس مرجعهم إلى الله؟».

هـ- الإمام الشافعي وتلميذه أبو يعقوب البويطي رحمهما الله: يدل على ذلك ما كتبه البويطي من سجن الواثق - لأنه سُجن في فتنة خلق القرآن ومات في السجن - إلى الربيع المرادي تلميذ الشافعي: إنه ليأتي عليَّ أوقات لا أحس بالحديد أنه ببدني حتى تمسه يدي - لأنه حمل من القاهرة إلى بغداد وفي عنقه حديد وزن أربعين رطلاً - فإذا قرأتَ كتابي هذا فأحسن خُلقك مع أهل حلقتك، واستوصي بالغرباء خيراً فكثير ما كنت أسمع الشافعي يتمثل بهذا البيت:

أهين لهم نفسي لأكرمهم بهــــــا

 ولن تكرم النفس التي لا تهينها

انظر إلى حرص هذا الإمام على العناية بطلاب العلم وهو في هذه حال من الابتلاء يوصي بهم خيراً.

و- عبد الله بن المبارك رحمه الله: من العلماء الأجواد الذين كان لهم اهتمام وحرص على رعاية العلماء وطلاب العلم، العالم البطل والمجاهد المغوار[13].

 جاء في تاريخ بغداد (جـ10/158): أن عبد الله بن المبارك قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت. وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.

قال حبان بن موسى: عوتب ابن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده. فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث، فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم، احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم[14].

قال المسيب بن وضاح: أرسل ابن المبارك إلى أبي بكر بن عياش أربعة آلاف درهم، فقال: سد بها فتنة القوم عنك.

قال الحسن بن حماد: دخل أبو أسامة على ابن المبارك، فوجد في وجهه عبد الله أثرَ الضر، فلما خرج بعث إليه أربعة آلاف درهم.

أيها الموسرون الأخيار اعلموا أن العناية بالعلماء الشرعيين وبطلاب العلم الشرعي الفقراء والغرباء خاصة، وبالفقراء عامة أفضل من نوافل الحج والعمرة ومن المبالغة في زخرفة المساجد وتزيينها.

عليكم أن تتأسوا بعبد الله المبارك الذي ترك الحج في موسم من المواسم من أجل فتاة وجدها تمسك ببطة ميتة فأعطاها كل ما عنده وما كان أعده للحج ولم يحج في ذلك العام.

قيل لبشر الحافي رحمه الله: إن فلاناً الغني كثير الصوم والصلاة، فقال: مسكين، ترك حاله ودخل في حال غيره، إنما حال هذا إطعام الجياع، والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل من تجويعه نفسه مع جمعه للدنيا ومنعه للفقراء[15].

وَرُويَ أن رجلاً جاء يودع بشر بن الحارث (الحافي) وقال: قد عزمت على الحج أفتأمرني بشيء؟ فقال له بشر: كم أعددت للنفقة؟ قال: ألفي درهم، فقال: أي شيء تبتغي بحجك، نزهة، أو اشتياق إلى البيت، أو ابتغاء مرضاة الله عز وجل؟ قال: ابتغاء مرضاة الله عز وجل. قال: فإن أصبتَ رضا الله وأنتَ في منزلك، وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله عز وجل، أتفعل ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب فأعطها عشرة أنفس: مدين يقضي بها دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يحيي عياله، ومربي يتيم يفرحه.

وإن قوي قلبك على أن تعطيها لواحد فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب امرئ مسلم، تغيث لهفان وتكشف ضر محتاج، وتعين رجل ضعيف اليقين أفضل من مئة حجة بعد حجة الإسلام.

قم فأخرجها كما أمرتك، وإلاّ فقل لنا ما في قلبك؟ فقال يا أبا نصر: سفري أقوى في قلبي. فتبسم بشر، وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارة والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطراً يشرع إليه فظاهرت أعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين[16].

فاختر لنفسك أيها الحبيب من العمل ما يتعدى نفعه، ويضاعف لك ثوابه وأجره، واعلم أن السخاء أن تجود من القليل، ورحم الله المقنع الكندي حين قال:

ليس العطاء من الفضول سماحة

 حتى تجود وما لديك قلـــــــــــيل

اللهم يسرنا لليسرى وانفعنا بالذكرى، والحمد لله القائل: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ 11 وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ 12 فَكُّ رَقَبَةٍ 13 أَوْ إطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ 14 يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ 15 أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ 16 ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْـمَرْحَمَةِ 17 أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـمَيْمَنَةِ} [البلد: 11 - 18]، وصلى الله على الرسول الكريم، والنبي العظيم، وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 


 


[1] الجامع لأحكام القرآن ج8/293.

[2] فيض القدير للمناوي ج4/382.

[3] سنن أبي داود رقم (2509)، وقال محققه صحيح.

[4] نقلاً من علو الهمة للمقدم ص396-397.

[5] نقلاً من علو الهمة للمقدم ص397.

[6] المصدر السابق.

[7] وفيات الأعيان لابن خلكان ج1/184.

[8] رواه أحمد ج2/413 وسنده جيد، والترمذي رقم 3768 وقال: حسن صحيح.

[9] البخاري رقم 3708.

[10] السير ج1/271.

[11] المصدر السابق ص276.

[12] السير ج1/136/163.

[13] انظر السير ج8/386 والصفحات التي تليها.

[14] المصدر السابق ج1خ/160.

[15] الوعظ المطلوب من قوت القلوب للعلامة القاسمي ص99.

[16] المصدر السابق ص98-99.

أعلى