التنين الصيني.. أي طريق سيشقه في المنطقة؟

التنين الصيني.. أي طريق سيشقه في المنطقة؟


ما من شك أن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة الكبرى المركزية في العالم، وهي تتبوأ تلك المكانة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991م وتفككه، ومن وقتها تحولت السياسة الدولية من نسق ثنائي القطب إلى أحادي القطب، هيمنت فيه الولايات المتحدة على معظم القرارات الدولية، وفي ظل الوضع الدولي القائم يرى الخبراء الإستراتيجيون أن هناك العديد من السيناريوهات التي تشير إلى صعود قوى عالمية جديدة تعيد التوازن في السياسة الدولية، بعضهم يرشح روسيا للقيام بهذا الدور، وآخرون يرشحون أوربا ولكن ما من شك أن الصين هي أهم تلك القوى الصاعدة، وهي تمثل الآن ثقلاً اقتصادياً وعسكرياً يؤهلها للعلب دور سياسي متعاظم في العالم مستقبلاً.

بدأت مرحلة التحول الداخلي في الصين عام 1979م بعد رحيل الزعيم الصيني «ماوتس تونج» وتولي الزعيم الإصلاحي «دينج كسيا وبينج» دفة الحكم، صاحبت تلك الفترة صراعات داخلية ظن البعض وقتها أن التنين الصيني يترنح ويوشك على السقوط، وعلى العكس من التوقعات بدأ العملاق الصيني يستعيد قوته وبدأت تظهر تغييرات جدية وفعالة في الاقتصاد الصيني الذي بدأ في الثمانينات يشق طريقه بثبات في الأسواق العالمية. وتم اشتقاق مصطلح دولي جديد يعبر عن التطورات الجديدة في الصين وهو «المعادلة الصينية»، التي تقوم على الحفاظ على هياكل ورموز النظام الشيوعي مع اتباع نظام اقتصادي منفتح على الجميع وخاصة الغرب، ويقبل الجميع التعامل معه وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية.

وإزاء تلك المعادلة تحسنت علاقات الصين مع الولايات المتحدة والغرب بشكل ملحوظ خاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية، وبدأت التجارة الصينية تغزو الأسواق العالمية في الوقت الذي بدأت فيه الاستثمارات الأجنبية تتدفق على الصين من كل أنحاء العالم.

خطة الصين الاقتصادية الطموحة:

ظلت الصين تثبت نفوذها الاقتصادي تدريجياً لسنوات في الكثير من بقاع الأرض مستفيدة من ظروف موضوعية ومن تورط الولايات المتحدة الأمريكية في حروب في كثير من المناطق (أفغانستان والعراق...).

 وفي العام 2013م أطلق الرئيس الصيني خلال زيارته إلى كازخستان مبادرته «البناء المشترك للحزام الاقتصادي لطريق الحرير» المعروفة باسم «حزام واحد وطريق واحد». والتي لم تكن سوى استلهام لجزء من تاريخ الإمبراطورية الصينية القديم، تهدف إلى السيطرة على مسالك التجارة العالمية، من خلال إحياء طرق التجارة القديمة بين قارات العالم القديم الثلاث: آسيا، وأوربا، وإفريقيا.

يقوم المشروع على فكرة الممرات الاقتصادية المفتوحة، وعددها وفقاً للخطة التي بدأتها الصين ستة ممرات، تربط العالم بالدولة الصينية من خلال تشييد شبكات من الطرق وسكك الحديد وأنابيب النفط والغاز والموانئ وخطوط الطاقة الكهربائية والإنترنت.

وبحسب مجلة فورين بوليسي، فإن هدف الصين من المشروع الضخم هو تسهيل التجارة مع 65 بلداً تمثل 60% من سكان العالم.

تعاني الصين اليوم من فائض الإنتاج في الكثير من القطاعات الرئيسة من الصلب إلى الإسمنت، وهي تبحث عن أسواق جديدة للحفاظ على نمو اقتصادها، ولن يكون ذلك إلا بالمزيد من مشاريع الإنشاءات الكبرى. كما تبحث عن ممرات واضحة وثابتة للموارد الطبيعية التي تحتاجها.

وقد بدأت فعلياً في خطوات تنفيذ المبادرة، إذ أعلن جهاز التخطيط الحكومي عن أن الاستثمارات الصينية المرتبطة بمبادرة «الحزام والطريق» قد بلغت 60 مليار دولار منذ 2013م. في حين بلغ حجم التجارة بين الصين والدول الواقعة على طول «الحزام والطريق» حوالي 913 مليار دولار في عام 2016م، أي أكثر من ربع إجمالي قيمة التجارة الصينية.

كما استثمرت الشركات الصينية أكثر من 50 مليار دولار في الدول الواقعة على طول «الحزام والطريق»، وساعدت في بناء 56 منطقة تعاون اقتصادي وتجاري في 20 من تلك الدول، ما أدى إلى تحقيق عائدات ضريبية بلغت 1.1 مليار دولار و180 ألف وظيفة محلية. وقد أعلنت الحكومة عن انضمام أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية فعلياً للمبادرة.

ومن ضمن الممرات المقترحة ضمن المشروع «الممر الاقتصادي بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا» الذي يربط بين الصين وآسيا الوسطى وغرب آسيا وشبه الجزيرة العربية، ويتبع مسار طريق الحرير القديم.

يبدأ الممر من منطقة شينجيانغ الصينية ثم يمر على آسيا الوسطى قبل الوصول إلى الخليج العربي والبحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية، وهو يعبر خمس  بلدان في آسيا الوسطى، و17 بلداً في منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا بما في ذلك إيران والسعودية.

وهو ما يعني أن المنطقة العربية جزء مهم وأصيل من تلك الخطة الاقتصادية الطموحة، وإذا قدر لتلك الخطة أن تدشن في أرض الواقع فهي تحتاج إلى دبلوماسية سياسية تهيئ البيئة المناسبة لإنشاء هذا المشروع.

الاقتصاد في خدمة السياسة

تمتلك الصين أكبر احتياطي للنقد الأجنبي في العالم، وبإطلاقها خطتها «الحزام والطريق» للتعاون الدولي، فهذا يعني أن الصين على استعداد لاستثمار مئات المليارات من الدولارات في السكك الحديدية، والموانئ، ومحطات الطاقة، والبنية التحتية بشكل عام، التي من شأنها أن تساعد بلدان عديدة على الازدهار. وهو ما يساعدها على امتلاك نفوذ سياسي كبير لم تحظَ به دولة من قبل، فالولايات المتحدة على سبيل المثال لم تقم بمثل تلك المبادرات الاقتصادية منذ مشروع مارشال الاقتصادي لإعادة تعمير غرب أوربا بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان أصغر حجماً من المبادرة الصينية الأخيرة.

كذلك تسعى الصين إلى إنشاء قوة عسكرية صينية غير مسبوقة في الخارج، وقد افتتح الرئيس الصيني قاعدة عسكرية في جيبوتي، وهي أول قاعدة عسكرية صينية خارج حدودها. بالإضافة إلى ذلك، شاركت القوات البحرية الصينية في مناورات بحرية مع روسيا في بحر البلطيق، وذلك في يوليو الماضي.

وبحسب ما تعلنه الصين، فإنه ليس لديها نوايا لغزو الدول الأخرى لفرض إرادتها، وأن جهودها لبناء قواعد عسكرية خارجية تهدف إلى دعم عمليات حفظ السلام والبعثات الإنسانية، ومكافحة القرصنة. أما بالنسبة للجزر الاصطناعية التي تضم مدارج طائرات عسكرية، والتي تبنيها الصين في بحر الصين الجنوبي، فهي دفاعية بحتة، بحسب ما تعلنه بكين.

وبرغم أن الاقتصاد الصيني يحل ثانياً خلف الاقتصاد الأمريكي، ولا يزال الجيش الأمريكي أقوى من نظيره الصيني، إلا إن هذا لم يمنع الصين من بدء تمدد نفوذها،  ففي العديد من جولاته حول العالم، قدم الرئيس الصيني «شي جين بينج» نفسه على أنه سفير محبة وسلام سياسي وتعاون اقتصادي، راسماً صورة ذهنية عن الصين على أنها صوت العقل في عالم مليء بالأزمات، وفي منتدى دافوس الاقتصادي الذي عُقِد في يناير من العام الجاري، أكد الرئيس الصيني دعمه للعولمة الاقتصادية والتجارة الحرة، ودعا للالتزام باتفاق باريس للمناخ، وهو ما يعني أن الصين تندمج بشكل متسارع في قضايا السياسة الدولية وهي في الوقت نفسه لا تسبب أياً من المشكلات التي تمثل تهديداً للغرب على نحو ما تقوم به روسيا.

وبرغم ما تحاول الصين بثه من حيادها في الصراعات الدولية والإقليمية خاصة الدائرة في المنطقة العربية، مع التركيز بدلًا من ذلك على التعاون الاقتصادي. إلا إن المواقف الصينية في المنطقة لا ترقى لهذه الصورة المثلى التي تحاول تمريرها، والتقارب الصيني الإيراني لا تخطئه عين متابع والسؤال الآن: هل تستطيع الصين تحقيق ذلك الحياد البناء فعلاً في ظل تقاربها السياسي مع الأخطبوط الإيراني الذي يحاول السيطرة على المنطقة؟

تبقى الأيام القادمة وحدها قادرة على الإجابة عن هذا السؤال، وإذا ما كانت بكين سوف تكون قادرة حقاً على تجنب الوقوع في الفخ الإيراني، هذا أيضاً يتوقف على طريقة الدول العربية في إدارة علاقاتها مع الصين.

 


أعلى