نبينا صلى الله عليه وسلم وتذكير الناس في ضوء القرآن الكريم

نبينا صلى الله عليه وسلم وتذكير الناس في ضوء القرآن الكريم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:

فإنَّ التذكيـر من أعظم فرائض الدين، كمــا أنه ديدن الرسل عليهم السلام جميعاً؛ إذ قاموا - عليهم السلام - بواجب التذكيـر كمـا أمرهم الله سبحانه وتعالى؛ لِـمَا في ذلك من صحـوة العقيدة، وكشف ســتار الغفلة. ومن خلال استقراء الآيات تبين أنَّ الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم  هو أكثر رسول وجَّهه الله سبحانه وتعالى إلى وظيفة التذكير في أكثر من موطن، فجاء هذا المقال بعنوان: (النبي محمد صلى الله عليه وسلم  وتذكير الناس في ضوء القرآن الكريم) لِيُسلِّط الضوء على هذه القضية المهمة من خلال آيات القرآن الكريم؛ كي ِيُسهمَ في شحذ هِمَم الدعاة في القيام بوعظ الناس وتذكيرهم، وتأكيداً على أهمية الجانب الوعظي.

تعريف التذكير:

عرَّف ابن فارس التذكير لغـة بأنه: الذِّكْـر خلاف النسيان، ومن ذلك قولُهم: ذكرتُ الشيء خلاف نسيتُه، ثُم حُمل عليه الذِّكْر باللسان، ويقول: اجعلْه منكَ على ذُكْر أي: لا تَنسَه[1].

أمَّا التذكير في اصطلاح الشرع، فيمكن تعريفه بأن تجعل غيرك يستحضر ما تُذكِّره به مما تَظنُّ أنه غافلٌ عنه.

والمقصود بتذكير النبي محمد صلى الله عليه وسلم  في هذا المقال، هو: دراسة الآيات القرآنية التي تضمنتْ بنصِّها مادة (ذَكَر) ضمن الحديث عن وعظ النبي محمد صلى الله عليه وسلم  لقومه؛ سواء ورد ذلك بتوجيه صريح من الله له، أم بخطاب مباشر منه صلى الله عليه وسلم  لقومه.  

نماذج قرآنية في (تذكير) النبي صلى الله عليه وسلم  لقومه:

الرسل عليهم السلام سادات الواعظين، وظهر أنَّ حديث الكتاب العزيز عن تذكيرهم عليهم السلام لأقوامهم بلَغ مساحة كبيرة، والمتأمل في سُوَر الذِّكر الحكيم، يجد أنَّ خاتم رسله محمداً صلى الله عليه وسلم  هو أكثر رسله عليهم السلام الذين قصَّ القرآن الكريم توجيه الله عز وجل لهم لأداء وظيفة التذكير، وهذه الآيات على النحو الآتي:

أولاً: قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْـمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: ٥٥].

ثانياً: قوله سبحانه وتعالى : {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 29].

ثالثاً: قوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى 9 سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى 10 وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى صلى الله عليه وسلم ١١^صلى الله عليه وسلم ) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: ٩ - 12].

رابعاً: قوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ 21 لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ 22 إلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ 23 فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية: 21 - 24].

خامساً: قوله سبحانه وتعالى على لسان محمد صلى الله عليه وسلم  جواباً للكافرين عمَّا افتروه في مسألة البعث: {قُل لِّـمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ 84 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 84 - 85].

سادساً: قوله سبحانه وتعالى : {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 70].

سابعاً: قوله سبحانه وتعالى :{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 54].

الدلالات التربوية المستنبطة من النماذج القرآنية المتضمنة لتذكير النبي صلى الله عليه وسلم  لقومه:

المتأمل في ما سبق من توجيه الله عز وجل لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم  إلى أداء وظيفة التذكير في مواطن كثيرة، يجد أنه يتضمن دروساً بليغة، ومن أبرزها ما يأتي:

التذكير جوهر رسالات جميع المرسلين عليهم السلام: المتدبر في آيات القرآن الكريم، يلحظ أنَّ التذكير عادةُ جميع المرسلين عليهم السلام؛ فرسُل الله عليهم السلام قد قاموا بواجب التذكير كما أمَرهم الله سبحانه وتعالى، وإنْ لمْ تُنسَب إليهم الألفاظ صراحة بهذه الكثرة التي وردت في حق خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن مهمة الرسل عليهم السلام تبليغُ الوحي، ولا يكون البلاغ إلا بالذِّكر، فهم يوحُى إليهم بالذكر من الله عز وجل، ووظيفتهم أن يذكِّروا أقوامهم به، ولم يكن واجب التذكير مقصوراً على خاتم الأنبياء محمَّد صلى الله عليه وسلم  وحده، فهذا توجيه الله سبحانه وتعالى لنبيِّه الكليم موسى عليه السلام بتذكير قومه بقوله: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: ٥]، وهذا أمر آخَر من شعيب عليه السلام لقومه بأن يتذكَّـروا: {وَاذْكُرُوا إذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86]، كما ورد التذكير على لسان كلٍّ من النبيَّين الكريمَين هود وصالح عليهما السلام لقومَيهما بالعبارة ذاتها، كما أخبر الله سبحانه وتعالى على لسان هود عليه السلام: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْـخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]، وأخبر سبحانه وتعالى عن صالح عليه السلام قوله لقومه: {وَاذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْـجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]، ويحدِّثنا القرآن الكريم عن عتاب شيخ المرسلين نوح عليه السلام لقومه الذين سـاءهم التذكيـر بآيات الله سبحانه وتعالى: {يَا قَوْمِ إن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس: 71]، كما أَثنى الله سبحانه وتعالى على ثلَّة مباركة من عباده المرسلين عليهم السلام بتذكُّرهم وتذكيرهم الناسَ الدارَ الآخرة، وذلك في مَعرِض حديثه عن أنبيائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فقال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ 45 إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ 46 وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَـمِنَ الْـمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص: 45 - 47]

وقد قام رسُل الله عليهم السلام بالتبليغ العام والخاص خير قيام، فبدؤوا دعوتهم بتذكير كل أحد، فمَن انتفع بالذكرى مِن المذكَّرين داوموا على تذكيره، ومَن عَلموا أنه لا يرجى نفعُه أعرضوا عنه.

وقد أَمَر الله سبحانه وتعالى رسُله الكرام عليهم السلام بتذكير أقوامهم؛ وذلك لأن البشر في حاجة ماسَّة إليه؛ فهُم مجبولون على الغفلة، ولا علاج لتلك الغفلة إلا بالتذكير الدائم.

أهمية التذكير بالقرآن الكريم: يُعدُّ القرآن الكريم أقوى الوسائل على التذكير، فهو مليء بالمواعظ، لذا أرشد الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم  إلى أن يستعين بالقرآن الكريم في تذكيره لقومه، إذ ورد الأمر الرباني للنبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم  بالتذكير بالكتاب العزيز صراحة في موضعين، هما: قوله سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام: 70] ، وقوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].

ولا يرتاب أحَد في حُسن أثر القرآن الكريم في فتح مغاليق القلوب، ومن يطالع السيرة النبوية بتمعن يظهر له صِدق ذلك؛ فكم أسلم من أناس بسبب تدبُّرهم بضع آيات من كتاب الله سبحانه وتعالى! ولذا ينبغي على مَن يخوض غمار الدعوة هذه الأيام أن يستثمر القرآن الكريم في الحياة الدعوية. ومن الأفكار المقترحة في توظيف آيات القرآن الكريم في العمل الدعوي، أن يقرأ الداعية بعض الآيات على المدعوِّ ويفسِّرها له مع إتقان التلاوة وحُسن الانتقاء، ووجدنا بعض الدعاة الناجحين في الآونة الأخيرة مَن استعمل هذه الفكرة فِعلاً، ووُجد لها أثر حسن على فئة الشباب خصوصاً، ومنها استغلال الدعاة موسم رمضان لتقوية علاقة المسلمين بكتاب الله سبحانه وتعالى، ومنها استفتاح الخطباء خُطَبهم ومواعظهم ببعض الآيات المتعلقة بموضوع الخطبة أو الدرس.

استمرارية التذكير: ينبغي على الواعظ أن يذكِّر كل أحد في كل وقت وحال ما دام التذكير نافعاً، وألاَّ يقتصر في وعظه على وقت أو مكان أو حالة معينة، وهذه عادة الرسل جميعاً، كما حكى الله سبحانه وتعالى على لسان نبيِّه نوح عليه السلام قوله: {قَالَ رَبِّ إنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: ٥]، ويلحظ هذا المعنى أيضاً من كون الأمر الإلهي للرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم  بالتذكير قد ورد مطلَقاً في المواضع جميعها.

مهمة الداعية هي التذكير: لا ريب أنَّ مهمة الداعية هي التذكير والبلاغ فحسب، أمَّا هداية التوفيق فلا يملِكها ملَك مُقرَّب ولا نبيٌّ مرسَل، لذلك طمْأنَ الله سبحانه وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم  أنَّه لمْ يكلِّفْه إلا بوظيفة التذكير والبيان، ويلحظ هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ 21 لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِر} [الغاشية: 21، 22]، ومِن ثَمَّ فالواجب على كل مصلح أن يُشمِّر عن ساعد الجدِّ في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى حسب طاقته؛ إبراءً للذمَّة، وسعياً في هداية الناس.

الانتفاع بالذكرى خاص بأصناف محددة من الناس: إنَّ الذين ينتفعون بالمواعظِ هم مَن كان لديهم استعداد للهداية، وقد سجل الله سبحانه وتعالى هذا الأمر في أكثر من موضع، كما في قوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]، وقوله سبحانه وتعالى: {فَذَكِّرْ إن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى 9 سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى 10 وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى 11 الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: ٩ - ١٢]، وفي بيان الآيات الآنفة أنَّ الاتِّعاظَ مِن ثمارِ خشية الله سبحانه وتعالى؛ إيماءً إلى أنَّ المنتفعين بآيات الله عز وجل أصناف محددة من الناس؛ فبعض الناس لا يتذكر أبداً مهما عظُمت الذكرى وتكررت.

تنوُّع صور التوجيه الرباني لمحمد صلى الله عليه وسلم  في تذكير قومه: حيث تعددت صور توجيه الله عز وجل لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم  إلى أداء وظيفة التذكير على صورتين:

الأولى: أسلوب الاستفهام الإنكاري: وردت دعوة الرسل إلى التذكير بأسلوب الإنكار في خطابهم لأقوامهم بهذا التساؤل: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الصافات: 155]، ويُلمَح من هذا الأسلوب استنكار الغفلة الصارفة عن الاستجابة للحق، كما يتضمن لُطف الخطاب، وذلك من خلال الوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، وورد هذا الأسلوب على لسان رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم  في موضع واحد، ألا وهو سياق إثبات البعث، قال سبحانه وتعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85].

والثانية: الأمر الصريح: حيث ورد أمْر الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم  بتذكير قومه في ستة مواضع، وفي صيغة الأمر بالتذكير ها هنا دلالة واضحة على وجوبه، فالتذكير والإنذار والتبشير من مهمات بعثة الرسل عليهم السلام، كما أشار  سبحانه وتعالى إلى صفتهم بقوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إلَّا اللَّه} [الأحزاب: 39].

  فالمتـأمل في كثرة التوجيهات الربانية للرسل عليهم السلام عامة ولخاتمهم صلى الله عليه وسلم  خاصة للقيام بالتذكير، يدرك خطأ مَن يقلل مِن أهمية الوعظ والتذكير ركيزةً تربويةً مؤثرة، فإنَّ للتذكير في القرآن الكريم أهمية بالغة، ومما يشير إلى ذلك مما سبق أنَّ الله سبحانه وتعالى جعَله شِعاراً لرسُله وأنبيائه عليهم السلام، كما أنَّ فيه تنفيذاً لأمر الله سبحانه وتعالى، حيث أمر الله سبحانه وتعالى عباده ورسله به أمراً صريحاً، إضافة إلى أنه حق واجب على كل مسلم تجاه إخوانه المسلمين، وصدق من قال:

 إنْ صَحَّ أنَّ الوعظ أصبح فَضْلة

 فالموت أرحم للنفوس وأنفع 

 فلولا رياح الوعظ ما خاض زورق

     ولا عبرتْ بالمبحِرين البواخر

وبعد: فهذا ما يسَّر الله عز وجل الوصول إليه في هذا المقال، وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الناصحين، وصلوات الله وسلامُه على أشرف خلْقه وتاج رسُله محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله ربّ العالمين.


 


[1] انظر: ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، (ذكر)، (2/ 358).

 

 

أعلى