• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
القرن الثاني للوعد الحرام!

ظهرت هذه الحركة مع بداية الثمانينيات من القرن التاسع عشر بهدف دعم الاستيطان في فلسطين عن طريق تشجيع الهجرة اليهودية وتقديم المساعدات المالية للمهاجرين، وكانت الحصيلة إقامة المستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين


في 31 أغسطس عام 1918م كتب رئيس الولايات المتحدة (ويلسون) الذي تربى على المفاهيم البروتستانتية إلى الحاخام (ستيفن واجز) مؤكداً له موافقته على (وعد بلفور - Balfour Declaration) تأسيساً على إرث سماوي مزعوم. لم تعد المسألة تعهداً بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين فقط؛ ولكن أصبحت - طبقاً لخطاب ويلسون - تتعلق بـ (الحدود الخاصة بالأراضي التي وعد بها الرب إبراهيم، والمسيح سيعود إلى الأرض في مملكة بمعناها الحرفي واللاهوتي).

وبعد أكثر من ستين عاماً، وبالتحديد في مارس 1979م تحدث (صديقي كارتر) مثلما كان يصفه أنور السادات، في الكنيست قائلاً: «إن إقامة دولة إسرائيل هي تحقيق للنبوءة التوراتية».

والكيان الصهيوني يحتفل سنوياً بذكرى وعد بلفور، الذي أسماه العرب آنذاك بـ (الوعد المشؤوم) واستقبلوه بالمظاهرات والاحتجاجات. ومن الغريب أن بعض الحاخامات المتشددين رفضوا ذلك الوعد باعتباره تدخلاً دنيوياً في إرادة الرب التي ستقرر (ساعة عودة اليهود إلى إرض إسرائيل).

(ساباتاي زيفي) وحلم تجميع اليهود في فلسطين تحت الجبة والعمامة:

في عام 1626م ولد مؤسس طائفة يهود الدونمة (ساباتاي موردخاي زيفي) من أصول إسبانية بمدينة أزمير في عام 1648م؛ أي قبل إعلان الدولة الصهيونية بثلاثمائة عام. بدأ ساباتاي يروج بأنه (المسيح المنتظر). وسخر منه بعض رفاقه اليهود لترويج فكرته بأن (حساب الجمل لبعض كلمات وردت في التوراة تقول بأن المسيح المخلص سيظهر عام 1648 لكي يقود اليهود ويحكم العالم من فلسطين ويجعل القدس مركزاً وعاصمة للدولة اليهودية).

وقام بدراسة وتفسير بعض نصوص التوراة وأتى إلى مصر حيث استضافه اليهودي (رافائيل جوزيف) رئيس الصيارفة في القاهرة وهو الذي دعمه ماليّاً، ثم زار فلسطين والتقى ببعض اليهود، ثم عاد إلى أزمير عام 1666 بعد أن حقق شهرة في بلاد المشرق، وجاءته وفود من رودس وأدرنة وصوفيا واليونان وألمانيا وقلدته هذه الوفود تاج (ملك الملوك). وعكف على تقسيم العالم إلى 38 جزءاً وعيَّن لكل جزء ملكاً، وكان يوقع بلقب (الابن الوحيد ليهواه) و (ملك الملوك).

ولتحقيق أهدافه دون تضييق من السلطات العثمانية أعلن وأتباعه اعتناق الإسلام (ظاهرياً) فقط؛ بل إنه طلب أن تسمح له السلطات بدعوة اليهود إلى الإسلام وانتهزها فرصة لمواصلة دعوته وأنه (تحت الجبة والعمامة) يمكنه تجميع اليهود في فلسطين وامتلاكهم مرة أخرى الهيكل المقدس.

حركة (أحباء صهيون):

ظهرت هذه الحركة مع بداية الثمانينيات من القرن التاسع عشر بهدف دعم الاستيطان في فلسطين عن طريق تشجيع الهجرة اليهودية وتقديم المساعدات المالية للمهاجرين، وكانت الحصيلة إقامة المستعمرات الصهيونية الأولى في فلسطين: بتاح تكفا، ريشون لتسيون، رو شبينا، زخرون يعقوب والجديرة... إلى أن ظهر (تيودور هرتزل) رائد الصهيونية الذي تميزت حركته عن غيرها بتوجهها المحدد في أن الخلاص القومي اليهودي لا يمكن أن يتحقق عبر عملية متقطعة لإقامة المستعمرات؛ وإنما عبر عمل سياسي كامل تحميه ضغوط دولية، حتى نجح في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا في 29 أغسطس 1897م ونجحت المنظمة الصهيونية عام 1901م في تأسيس (الصندوق القومي اليهودي - الكيرميت كايميت) بهدف (تملُّك الأراضي في فلسطين لتكون ملكاً للشعب اليهودي لا يمكن التفريط فيه). وفي نهاية العام نفسه 1901م نجحت المنظمة في إنشاء البنك الصهيوني (صندوق الائتمان اليهودي للاستيطان) الذي تفرعت عنه بنوك أخرى هدفها جميعاً تمويل النشاطات والمشروعات اليهودية في فلسطين.

ونجحت جهود هرتزل في أخذ اعتراف زعماء أمريكا وأوروبا بالمنظمة الصهيونية، والأهم هو (جعل المشكلة اليهودية مسألة عالمية).

الحدُّ من تأثير  مصر.. الخطوة الرئيسية:

تعهدت دول أوروبا للباب العالي بالتصدي لطموحات محمد علي باشا في مؤتمر لندن عام 1840م ونجحت بالفعل في إخراجه من بلاد الشام والعمل على الحد من تأثير مصر وحصره داخل حدودها. ولم يسقط من ذاكرة روسيا القيصرية تدمير أسطولها وهزيمة جيشها أمام الجيش المصري في حرب القرم عام 1853م، وقد لا يعرف الكثيرون أن «سازانوف» وزير خارجية روسيا القيصرية الذي كان الضلع الثالث في اتفاقية «سايكس - بيكو» قبل انسحاب روسيا من هذه الاتفاقية المشبوهة عقب قيام الثورة البلشفية، كان مقتنعاً تماماً بوجهة نظر «جلادستون» رئيس الوزراء البريطاني بأن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين «ضرورة للحد من تأثير  مصر وحصره داخل حدودها».

وقبل (وعد بلفور) بـ 75 عاماً بدأ الدعم البريطاني لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وضرورة فصل سوريا وفلسطين عن مصر بشكل صريح في خطابات الكـولونيل (تشارلز هـ. تشرشل) الضابط البريطاني المقيم في دمشق ورئيس المكتب السياسي 1841 - 1843م؛ ففي إحدى رسائل رئيس مجموعة النواب اليهود البريطانيين إلى (موشيه مونتفيوري) عبَّر عن (رغبته الشديدة في أن يرى مواطنيه اليهود يتحركون لإعادة وجودهم باعتبارهم شعباً مستقلاً في فلسطين). كما طلب من مونتيفيوري أن يحث أثرياء اليهود (على تبني هذه الحركة وأن ينسقوا في ما بينهم، وضرورة التحرك بين الدوائر السياسية الأوروبية... وأن هذا المشروع سيعود عليهم باستثمارات وأرباح هائلة). مخاطباً العقلية اليهودية.

احتلال مصر... وبدء الهجرات اليهودية إلى فلسطين:

ظلت بريطانيا هي (الراعي الرسمي) لفكرة تهجير اليهود إلى فلسطين خاصة مع تدفق المهاجرين اليهود من أوروبا الشرقية إلى إنجلترا وصدور قانون لتحديد الهجرة إليها. كان آرثر بلفور وجورج لويد أكثر المتحمسين والمتفهمين للمسألة اليهودية و (أن الحل الوحيد يكمن في إيجاد وطن لليهود يستوعب هؤلاء المهاجرين).

وتجدر الإشارة إلى أن الهجرة اليهودية الأولى 1882 - 1903م بدأت في العام نفسه الذي احتلت فيه بريطانيا مصر. وتمت على دفعات وصلت إلى 25 ألف يهودي بتنظيم وتمويل من جمعية (أحباء صهيون) وحركة (بيلو) بعد أن أسس المليونير اليهودي البريطاني البارون (إدموند دي روتشيلد) ومعه مجموعة من رجال المال والأعمال (صندوق تطوير الاستيطان في فلسطين) وتأسس له فروع في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وتولى روتشيلد الإشراف والإنفاق على المستوطنات اليهودية في فلسطين، كما كان عضواً بمجلس إدارة (الجمعية اليهودية للاستيطان) التي أسسها في لندن الينكير اليهودي البارون (موريس دي هيرش).

وكانت الهجرة الثانية 1904 - 1918م بإشراف المنظمة الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية، ونشط كلاهما في إخراج العرب من أرضهم وتمليكها لليهود القادمين أكثرهم من روسيا ورومانيا واليمن، وتصاعدت الهجرة اليهودية بالتزامن مع وعد بلفور حتى وصل عددهم إلى 85 ألفاً.

أما الهجرة الثالثة فكانت خلال عامي 1919 - 1923م عقب إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، وقامت سلطات الانتداب بتخفيف القيود التي كانت مفـروضة على هجرة اليهود في عصر الحكم العثماني؛ بل روجت الحكومة البريطانية لفكرة (تسهيل حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين لغايات دينية).

(الوعد... والمكتوب):

روج زعماء الصهيونية لفكرة بقاء فلسطين تحت التاج البريطاني بهدف الدفاع عن قناة السويس، وأن إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين سيحقق أهداف بريطانيا في المنطقة، وسيحمي أمن المستعمرات البريطانية وطرق مواصلاتها.

كان وزير الخارجية البريطاني (آرثر جيمس بلفور) اسكتلندياً مولعاً بالعهد القديم من الكتاب المقدس، وسياسياً محافظاً اكتسب لقب (بلفور الدامي) عندما كان حاكماً لإيرلندا. وخلال الحرب العالمية الأولى كان بلفور دائم المقابلات لزعماء الصهيونية بصفته (المتحمس الأول) والداعم لفكرة وطن قومي لليهود في فلسطين، كما كان صديقاً للزعيم الأمريكي الصهيوني (برانديز) مستشار الرئيس ويلسون. ونشط بلفور وصديقه (وايزمان) رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في الترويج لإقامة وطن قومي لليهود بين مسؤولي وزارة الشؤون الخارجية ووزارة المستعمرات البريطانيتين، وصرح لويد جورج أنه (أيَّد منح الوعد مكافأة لوايزمان على مساهمة اليهود في عمليات الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى) وتناسى أو تجاهل الإسهام الأكبر للعرب في دعم الجيوش البريطانية في ما سمي بالثورة العربية الكبرى أو (الخديعة الكبرى!).

كما نشط بلفور ووايزمان في الترويج للفكرة بين أقطاب العائلات اليهـودية الإنجليزية: روتشيلد، مونتيفيوري، مونتاجو... وبدأ بلفور إعداد مسودة الوثيقة (الوعد) في يوليو 1917م، وتولى (ناحوم سوكولوف) وضع الخطوط الرئيسية مع استبعاد مصطلح (دولة يهودية) كما لعب (مارك سايكس) دوراً رئيسياً في توجيه صياغة الوعد طبقاً للرؤية الصهيونية التي توافقت مع رؤية آرثر بلفور؛ على الرغم من التعهدات البريطانية الرسمية للشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى. وتم تنقيح الوثيقة عدة مرات حتى صدرت في صيغتها النهائية في الثاني من نوفمبر 1917م على شكل رسالة من آ. بلفور إلى البارون اليهودي ليونل والتر دي روتشيلد:

«عزيزي روتشيلد! يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلال الملك التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء: إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين. أكون مديناً لكم بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني».

وما إن ذاع خبر التصريح حتى سارعت السلطات العثمانية إلى لفت أنظار العرب إلى خطورته، وطلب الشريف حسين تفسيراً للموضوع من المسؤولين البريطانيين، والتقى وايزمان بالأمير فيصل بن الحسين الذي اقتنع بتأكيد وايزمان وإنجلترا بأن (وعد بلفور) لن يتعارض مع أماني العرب وحقوقهم. لكنِ الفلسطينيون وحدهم هم الذين عانوا من تدفق الهجرات اليهودية وتصاعد الإرهاب الصهيوني. في يوليو 1920م عقد مؤتمر الحلفاء في (سان ريمو) بإيطاليا للنظر في تقسيم البلاد المحتلة وطلب لويد جورج إدخال وعد بلفور ضمن معاهدة السلام مع تركيا، ونجح في 25 يوليو في إدخال نص الوعد ضمن المادة الخاصة بالانتداب البريطاني على فلسطين.

وتطورت فكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين إلى حلم (إسرائيل الكبرى) الذي ما زال يراود مخططات زعماء الكيان الصهيوني، وخريطة الكنيست من النيل إلى الفرات خير شاهد. وما زلنا نستجدي السلام ونعقد الآمال الكبار على الولايات المتحدة (راعية السلام) وكم من مؤتمرات ومفاوضات لم نأخذ منها غير (المائدة). ويا أيها السلام كم يرتكب باسمك من جرائم، وكم يرتكب من مفاوضات!

أعلى