• - الموافق2024/04/27م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
جان جاك روسو مربيا (1-3)

لقد طرح روسو في هذا الكتاب أطروحات جديرة بالبحث والاهتمام والدراسة، وفي ظني أن القارئ سيجد من النصوص المنقولة عن روسو، ما يجعله يُصاب بالدهشة؛ إذ لا يمكن توقع صدور هذا عن فيلسوف أوروبي وُصِفَ بالنبوغ


مقدمة:

وردني نصٌّ منسوبٌ إلى جان جاك روسو، وتعجّبت أن يقول به، ثم بحثتُ لأتأكَّد من صحة المعلومة، وإذ بي أعثر على نصوص كثيرة، لم أكن أتوقّع صدورها عن مثل هذه الشخصية، ولهذا فقد عزمتُ على جمعها وكتابتها، ثم طرأت لي فكرة صياغتها، في مقال يجمع ما كتبه روسو.

وسيكون محور المقال نصوص منتقاة من كتاب (إميل أو التربية)، وأحيانًا أنقل من كتابه الآخر (الاعترافات)؛ حتى تتضح بعض الأمور المتعلقة بـ«روسو»، وسيجد القارئ أن روسو ابتكر شخصيتين خياليتين؛ هما: إميل، والأخرى صوفيا، فجاء الكتاب مثل رواية، بطلها الشاب إميل الذي سعى في تربيته وإعداده للزواج من الفتاة صوفيا.

وصف روسو بطل كتابه أو قل تلميذه إميل، فقال: «وأكون -إذن- قد التزمت جانب تلميذ خيالي، مفترضًا السن والصحة والمعارف وجميع الأهليات المناسبة، لتربيته وقيادته منذ ولادته، إلى الحين الذي يصبح فيه رجلًا، لا يحتاج إلى دليل غير نفسه»[1].

«ففي إميل أو التربية؛ أوضح روسو كيف ينشأ الولد تنشئة طبيعية، منذ نعومة أظفاره حتى العشرين من سنيه، فيصير صالحًا للزواج، وهو قد وقف أجزاء الكتاب الأربعة على هذا الغرض، كما وقف الجزء الخامس منه على تنشئة الزوجة، التي تصلح أن تكون شريكة له في الحياة، فيسعد بها وتسعد به»[2].

نهج روسو في هذا الكتاب منهج الملاحظة، أو لنَقُل ما يمكن ملاحظته، فقال: «وإني حين بدأت هذا الكتاب، لم أفترض شيئًا لم أستطع أن ألاحظه أنا والآخرون، وأعني بذلك ولادة الإنسان التي هي نقطة انطلاق، نَسير منها جميعًا على السواء، ولكننا كلّما تقدمنا؛ ابتعد بعضنا عن بعض؛ لمراعاتي الطبيعة، ولإفسادكم إياها»[3].

اعتمد روسو المشاهدة والرؤية دون غيرها؛ فلم يلتفت إلى البرهان أو التخيل، كما لم تكن الشريحة التي يلاحظها محصورة في طبقة واحدة، أو شعب معيّن، وقصد الأمور المشتركة بين الناس، وترك ما اختص به قوم دون غيرهم، فقال: «هو أنني أقل ما يمكن التفاتًا إلى البرهان، وأني لا أعتمد على غير المشاهدة، وذلك بدلًا من استنادي إلى أيّ مذهب، ولا أُقيم أفكاري على ما تخيّلتُ مطلقًا، بل على ما رأيت، أجل! إنني لم أحصُرْ تجاربي ضمن أسوار مدينة، كما أنني لم أحْصُرها على طبقة واحدة من الناس، بيد أنني بعد أن قابلت بين كثير من الطبقات والشعوب، التي أمكنني أن أراها في حياةٍ قُضِيَتْ في ملاحظتها، حذفتُ كأمر مصنوع ما هو من شعب لا من آخر، وما هو من طبقة لا من أخرى، ولم أعُدَّ على أنه خاص بالإنسان خصوصًا لا ريب فيه، غير ما هو مشترك بين الجميع، في أيّ دور من العمر كانوا، ومن أيّ طبقة كانوا، وإلى أيّ أمة انتسبوا»[4].

لقد طرح روسو في هذا الكتاب أطروحات جديرة بالبحث والاهتمام والدراسة، وفي ظني أن القارئ سيجد من النصوص المنقولة عن روسو، ما يجعله يُصاب بالدهشة؛ إذ لا يمكن توقع صدور هذا عن فيلسوف أوروبي وُصِفَ بالنبوغ، وقد انتقيت بعض النصوص العجيبة، حتى إن أحد الباحثين، أطلق عليها وصفًا فريدًا، فقال: «ما لم يجرؤ أن يُقال عن روسو!».

التعريف به:

وُلِدَ جان جاك روسو في جنيف في سنة 1712م، لأسرة فرنسية الأصل، بروتستانتية المذهب، وكان له أخ وحيد أكبر منه، تُوفيت والدته بعد ولادته بشهور معدودة، ثم تُوفِّي والده بعد ذلك بأربعين سنة.

وفي سنة 1728م هرب روسو من جنيف، وقصد دير كونفنيون بمدينة سافوا الإيطالية؛ حيث لقَّنه كاهن هذا الدير مبادئ الكاثوليكية، وأرسله إلى امرأة تُدْعَى دي فاران في أنيسي، وكانت هذه للتوّ دخلت في الكاثوليكية وتركت البروتستانتية، فسعت إلى قبوله في مدرسة كاتشو في تورين، ثم أعلن أمام الملأ، في كنيسة القديس يوحنا الكبرى، تركه للبروتستانتية ودخوله في الكاثوليكية.

وفي سنة 1730م انتقل إلى باريس، وأقام بها؛ حيث عمل مُؤدِّبًا هناك، وفي سنة 1745م أثناء إقامته في فندق سان كنتان التقى بتيريز لوفاسور، وكانت هذه الفتاة تعمل خادمة فيه، فأُعجب بها، وصف ذلك عادل زعيتر فقال: «إن سبب تعلُّقه بها، أن روسو رقَّ لها لما رأى من استهزاء الناس بها، لبساطتها وبلاهتها، فاتخذها رفيقة له عن حب وعاطفة».

 ثم يؤكد بأن تيريز كانت على جانب كبير من الغباء، لا تُحْسِن القراءة ولا الكتابة، وكانت كثيرة الشغب والنزاع، ولكنها كانت ذات جمال في الشكل مع صوت حسن، ولذلك كان روسو معجبًا بها![5].

وعاش معها دون زواج، وأنجبت له خمسة من الأبناء، أودعهم ملجأ اللقطاء، وبقي على هذا الحال حتى أحس بتغيُّر في مشاعر تيريز تجاهه، فتزوجها زواجًا مدنيًّا بعد خمسة وعشرين عامًا.

ألَّف روسو عددًا من المؤلفات التي اشتهرت وذاع صيتها، مثل: أصل التفاوت بين الناس، العقد الاجتماعي، إميل أو التربية، الاعترافات، أسقف سافو، جولي، وغيرها، وقد كانت آراؤه وكُتُبه ومؤلفاته مصدر إزعاج له؛ فكانت الأوامر تصدر بمنع مؤلفاته، حتى وصل الحال إلى الأمر باعتقاله، وهذه المواقف أدت في نهاية الأمر، إلى تخلّي روسو عن حقه بأن يكون مواطنًا لجنيف، وذلك في سنة 1763م، ثم سافر إلى إنجلترا، وأقام في لندن في سنة 1766م.

كانت حياته مليئة بالسفر والترحال، والتنقل بين المدن الفرنسية، وكذلك التنقل بين الدول الأوروبية مثل إيطاليا وإنجلترا وسويسرا، ولم يَعِش حياة الراحة والاستقرار، فعاش شريدًا بائسًا؛ إذ كانت السمة البارزة في حياته، أنه كلما استقر في مدينة تأتي الأوامر بمغادرته لها بعد مدة من الزمن، كما عاش في بيئة قاسية فاسدة، حتى قيل: إن ذلك ساهم في نُضج آرائه وأفكاره.

وفي نهاية المطاف يستقر روسو في (إيرمينو نفيل) بفرنسا، ويسدل الستار على حياة روسو اللافتة للنظر والمثيرة للجدل؛ حيث تُوفي سنة 1778م[6].  

أهمية الكتاب:

قبل البدء في بيان أهمية الكتاب ومكانته لدى علماء التربية؛ لا بد من الإشارة إلى الحادثة التي مهَّدت لظهور هذا الكتاب، ففي باريس سنة 1749م نشرت أكاديمية ديجون إعلانًا لمسابقة في موضوع: هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى إفساد الأخلاق أو إلى إصلاحها؟، فما كان من روسو إلا أن قرر المشاركة فيها؛ فأعمل ذِهْنه، وجمَع قُوَاه، وكتب في هذا الموضوع، وأقام الأدلة على أن العلوم والفنون كانت سببًا في فساد الأخلاق، وأوجبت الشقاء للإنسان.

وهو أيضًا يرى أن الترف والحضارة من نتائج العلوم والفنون، وأنهما علَّة فساد الأخلاق، ولهذا فقد نادى بالرجوع إلى الحالة الطبيعية، ونتيجةً لذلك فقد حصل على الجائزة وفاز في المسابقة، ولم تكن الجائزة وحدها هي الشيء الوحيد الذي استفاده روسو من هذه المسابقة، بل تكمن أهمية هذه الرسالة في كونها مفتاحًا لنشوء روسو الذهني؛ ولأنها مرحلة مؤدية إلى تأليف: أصل التفاوت، ثم العقد الاجتماعي، وإميل أو التربية [7].

ظهر روسو في هذا الكتاب بمظهر الفيلسوف المُربِّي، وهذا جانب يُضاف إلى عنايته وتنظيره في الفلسفة الاجتماعية، وقُدِّر لهذا الكتاب أن يحظى بانتشار كبير، وأن يحتل مكانة في مؤلفات علم التربية، حتى تأثر به أحد الفلاسفة البارزين آنذاك، وهو الفيلسوف الألماني (كانط)، أكّد هذا مترجم الكتاب[8]، فقال: «وفي كتاب إميل ظهر روسو الفيلسوف المربي، بجانب روسو الفيلسوف الاجتماعي، ويُعدّ روسو بهذا الكتاب مُؤسِّس التربية الحديثة، ففيه ألقى دروسًا ممتعة في تربية الأطفال، ومذاهب التربية والفضيلة، والحياة الزوجية، وقد نال كتاب إميل من بُعْد الصيت، ما أصبح معه مُعوَّل علماء التربية، وما عُدَّ معه إنجيل التعليم والتربية، حتى إن الفيلسوف الألماني الكبير (كانط) تأثَّر به كثيرًا»[9].

ثم يبين المترجم أن كتابات روسو في العقد الاجتماعي، أدَّت إلى ثورة في عالَمَي السياسة والتربية، فكما أن كتاب العقد الاجتماعي أثَّر في السياسة والثورة الفرنسية، فكذلك الحال مع كتاب إميل أو التربية؛ حيث اشتمل على آراء عملية ونظرية، قادت إلى ثورة في عالم التربية والتعليم، وبشَّر بمذهب جديد في التربية، وصف ذلك عادل زعيتر، فقال: «وإن ما انطوى عليه كتاب إميل من آراء عملية ونظرية، انتهى إليها روسو باختياره، أثَّر به في عالم التربية، مثل تأثيره في الثورة الفرنسية وعالم السياسة، بكتابه العقد الاجتماعي، وفي كتاب إميل ثار روسو على مناهج التعليم القديمة، وأساليب التربية العتيقة، وبشَّر بمذهب جديد في التهذيب تبشيرًا، عُدَّ به رائدًا للتربية الحديثة وقائدها»[10].

ثم يواصل مترجم الكتاب إعجابه وإشادته، ويرد على من يقول: إن الكتاب أُلِّف منذ مئات السنين، وهو إن كان صلح في عصر له ظروفه الخاصة، ولكن ذلك لا يجعلنا نستصحب كلام روسو، ونطبّقه في هذا العصر الحديث، فقال: «ولا تقل: إن الكتاب وُضِعَ منذ نحو قرنين، وهو خاصّ بالزمن الذي أُلِّف فيه؛ فروسو من العباقرة الذين ينفذون ببصائرهم حُجُب المستقبل، وكتاب إميل أُلِّف للأجيال التي تأتي بعد مُؤلِّفه، سيبقى معتمدًا لدى جهابذة التعليم والتربية، يُعوِّلون عليه، ويهتدون به في طرقهم التعليمية ومذاهبهم التهذيبية، وليس من المبالغة أن يقال: إن خير كتاب ظهر حتى الآن في موضوعه، وإن علماء التربية في العصر الحاضر، مدينون له في أساليبهم، وإن التربية الحديثة من آثاره.

حقًّا لم يقم كتاب في التربية مقام إميل؛ لإمام التربية والاجتماع روسو، وقد تُرْجِمَ هذا السفر الخالد الجليل غير مرة، إلى معظم لغات العالم الأوروبية منذ وضعه»[11].

وهنا لا بد من التأكيد على مكانة الكتاب، وعناية علماء التربية به، ولكن هناك إيراد يمكن ذِكْره في هذا المقام، وهو: هل روسو كان له أولاد فقام بتربيتهم ونجح في ذلك؟، ثم كتب تلك الخبرات المتراكمة والتجارب العملية، ونشرها في كتابه إميل أو التربية.

إن المطلع على حياة روسو يجد أنه رُزِقَ بخمسة من الأبناء، ولكنَّه أودعهم في ملجأ اللقطاء!، وذكر لهذا الفعل الشنيع بعض المُبَرِّرَات، كان من أبرزها: ضيق ذات اليد، وصعوبة القيام بتكاليفهم المادية، فقال: «إني إذ أسلمتُ أولادي إلى الدولة لتربيتهم؛ لعجزي عن تنشئتهم بنفسي، وإذ قضيت عليهم أن يصبحوا عمّالًا أو مزارعين، بدلًا من أن يصبحوا مغامرين وطلاّب ثروة»[12].

وقال في موطن آخر: «وهكذا أُسلِّم ابني الثالث إلى ملجأ اللقطاء، كما كان شأن الطفلين السابقين، وكذلك كان شأن الطفلين التاليين؛ إذ إنني أُوتيت خمسة»[13].

وأحيانًا نجد روسو يشعر بالخطأ والندم على هذا الفعل، فيقول: «ولقد أشعرتني حسرات قلبي في أكثر من مرة فيما بعد، أنني كنت مخطئًا، ولكنَّ عقلي كان أبعد من أن يُوحي إليَّ بنفس الرأي»[14].

ولي هنا تعليق: ألا وهو أن الندم قد يمكن قبوله لو صدر مرة، ثم أحسَّ فاعله بمرارة وحسرة في قلبه، ولكننا هنا أمام أب يودع أول طفلين رُزِقَ بهما الملجأ، ثم يُودِع الثالث، ثم يُودِع آخر ولدين له، دون أن يتردد في مرة من المرات، أو يحاول إصلاح الخطأ الذي فعَله، فكيف يمكننا قبول نَدمه أو حتى تفهُّم فعله هذا؟!

ومن جهة أخرى يحاول روسو الدفاع عن نفسه، وأنه لم يكن قاسيًا، أو قاطعًا للرحم، أو فاقدًا لصفة الرحمة، فيقول: «فإنَّ جان جاك لم يكن قط عديم الشعور، وناكرًا لصلات الرحم، ولا كان أبدًا جاحدًا، لحظة واحدة في حياته، ومن المحتمل أن أكون قد أخطأت، ولكنني لم أكن قط قاسي القلب... كنت أظنني أؤدي تصرفًا يليق بأب مواطن صالح، وكنت أتمثل نفسي عضوًا في جمهورية أفلاطون»[15]، وضع خطًّا تحت (ومن المحتمل أن أكون قد أخطأت!).

ولكنه في مكان آخر، يصرح بأنه يرى أن هذا الإجراء حكيم ومشروع، وأنه لا يخجل منه، وجاهَر به لدى المطلعين على علاقته بأمهم؛ إذ إنه بقي زمنًا طويلًا يُعاشرها بدون زواج، أنجبت خلال تلك الفترة هؤلاء الأبناء، وأنه إن أخفى ذلك عن بقية الناس؛ فإنما فعله مراعاةً لخاطر أمهم، فقال: «ولقد بدا لي هذا الإجراء ملائمًا حكيمًا مشروعًا، إلى درجة أنني إذا كنت لم أفخر به علانية، فإنما كنت أصدر في ذلك عن شيء من مراعاة خاطر أمهم، على أنني أنبأت به كل أولئك، الذين كنت قد أطلعتهم على علاقتي بها»[16].

ولكن هل كان فقره وقلة ذات اليد هو الدافع الحقيقي والسبب الوحيد، لهذا التصرف الذي قام به روسو؟، في ظني أنه لم يكن كذلك؛ إذ عُرضت عليه كفالة اثنين من أولاده، مِن قِبَل امرأتين تربطه بهما علاقة صداقة، ولكنه رفَض ذلك لأسباب عرضت له في عقله، فقال: «ولو أنني أسلمتهم إلى السيدة ديبيناي أو السيدة دي لوكسمبورج، اللتين رغبتا فيما بعد في أن تكفلاهم، سواءٌ بدافع من الصدقة أو من الكرم أو من أيّ حافز آخر، لو أنني فعلتُ ذلك فهل تراهم كانوا أكثر سعادة، أو ينشئون رجالًا أمناء محترمين على الأقل؟

لست أدري، ولكني واثق بأنهم كانوا خليقين بأن ينشئوا على كراهية أبويهم، وربما على الغدر بهما، ومِن ثَم فقد كان من الأفضل مائة مرة، أنهم لم يعرفوا أبويهم»[17].

وهنا ارتكب روسو أخطاء كثيرة؛ من أشنعها: أنه لم يذكر لهذا الملجأ اسم والد هؤلاء الأطفال، فهو إن كان صادقًا في ادعائه الفقر، فليدَعْ تربيتهم للدولة، ثم إذا كبروا يعرفون والديهم فيرتبطون بهما، ولكنه حرمهم حتى من الانتساب إليه!

والخطأ الآخر الذي ناقض روسو به أفكاره، أنه قرَّر بالنيابة عن هؤلاء الأطفال ما يَصْلُح لهم، وهو من كان ينادي بأن يربَّى المراهق على الوقائع، فلا يقبل أن نفكِّر ونختار بالنيابة عنه، فقال: «وأسوأ المؤرخين من أجل الفتى هم الذين يصدرون أحكامًا، الوقائع الوقائع الوقائع؛ دعوه يحكم بنفسه، هكذا يتعلم معرفة الرجال، إذا كان حكم المؤلف يرشده بلا انقطاع، فإنه لا يرى بغير عين رجل آخر، وإذا ما أعوزته هذه العين عاد لا يرى شيئًا»[18]، فما الذي يضير روسو لو تركهم مع هاتين السيدتين يعيشان الحياة الكريمة، بعيدًا عن كونهما نزلاء ملجأ اللقطاء؟!

علّق عادل زعيتر على موقف روسو من أبنائه، ووضَّح بأن السبب الحقيقي لم يكن هو الفقر والحاجة، بل كان هدفه ومبتغاه أن يحيا حياة حرة طليقة، فلا يكون منشغلًا بمسؤولية، فقال: «فقد وَلَدَتْ له خمسة أولاد، وسلّمهم إلى ملجأ اللقطاء، وذلك من غير أن يترك ما يدل على أصلهم في المستقبل، ويعتذر روسو عن ذلك، بفقره واضطراره إلى كسب عيشه بكده، وإن كان يهدف إلى الحياة الحرة الطليقة، التي لا تشغل باله بوَلدٍ»[19].

ولعلّي أختصرها في كلمة واحدة وهي الأنانية، فحُبّ الأنا كان جليًّا في حياة روسو، من خلال موقفه مع أولاده، ومن خلال موقفه مع زوجته؛ كما سيأتي.

وفي موطن آخر يبين عادل زعيتر أن روسو كان يشعر في قرارة نفسه بالخطيئة، ولهذا ألّف كتابه تكفيرًا عنها، كما أشار إلى حزن الأم على أولادها، وأنها بقيت ملازمة للغم والألم بسبب فقدهم، فقال: «وقد أراد روسو أن يكفّر عن هذه الخطيئة التي لا تُغتفر، بوضع كتاب إميل أو التربية العظيم الشأن، وقد ذكر روسو في اعترافاته أنه صرح رسميًّا بزواجه بتريز، بعد معاشرته إياها ربع قرن، وقد صرفها بذلك عن طلبها الفراق، فظلت رفيقة له إلى أن مات، وإن لازمها الغمّ والألم؛ حزنًا على أطفالها أولئك»[20].

وهنا لا أخفي اندهاشي من موقف روسو؛ إذ المفترض في مثل حاله وواقعه الذي عاشه، أن يكون صاحب أسرة، مُهتمًّا بأولاده، مُبالِغًا في الإحسان إليهم؛ وذلك لأنه حظي بأب شريف وصاحب استقامة كما يصفه دائمًا، وكان يُبْدِي لولده الحب والحنان والاهتمام، بل كان يَخصّه بذلك أكثر من أخيه، فقال: «وما كان أبي رجلًا شريفًا فحسب، وإنما ذا استقامة مشهود فيها، وقد أُوتِيَ نفسًا من تلك النفوس القوية، القادرة على جليل الفضائل، وكان فضلًا عن ذلك أبًا صالحًا لا سيما بالنسبة لي، فقد كان يحبني ويخصّني بحنان فيّاض»[21].

ويقول في موطن آخر: «هذا التصرف من جانب أبي الذي أعرف حنانه واستقامته تمام المعرفة، قادني إلى تأملات في حالي»[22].

وعلى الرغم من فرار روسو وقيام أبيه بالبحث عنه؛ إلا أن والده لم يُغيِّر من محبته له، بل كان يُعانقه ويُقبّله، فقال: «كان يستقبلني عندما أزوره -كما صرت أفعل كثيرًا بعد فراري-، بعناقات الأب وقُبُلاته»[23].

كان الأجدر به أن تكون تلك الصفات المميّزة لوالده، مصدر إلهام ودافع داخلي، لأن يقوم روسو بعنايته واهتمامه بأولاده، ولكن جُلّ تأثر روسو من والده، تلك الأحاسيس التي كانت تعتمل في قلب والده، فقال: «فلقد كان أبي -رغم وَلَعه باللهو-، رجلًا شديد الاستقامة، ليس هذا فحسب، بل إنه كان أيضًا على قدر كبير من الشعور الديني، كان رجلًا ذا شهامة في شؤون الدنيا، ومسيحيًّا في قرارة فؤاده، ولقد بثَّ في قلبي منذ الصغر، ما كان يخالجه من إحساسات»[24].

وتزيد الدهشة من سلوك روسو تجاه أولاده، حينما تعلم أن روسو كان يتحدث عن حياته، وأنه حظي بتربية رائعة تمثلت في أمثلة مشرفة؛ فقد كانت أسرته متميزة بالأخلاق، كما كان والده شديد الاستقامة، وعماته الثلاث مثل والده، وكان له أقارب رائعون، يتعلم منهم دروس الحكمة، فقال: «وإذا كان ثمة طفل قد تلقَّى تربية معقولة سليمة، فهذا الطفل هو أنا، فقد كنت أنتمي إلى أسرة امتازت بأخلاقها عن عامَّة الناس، فما تعلمت من أقاربي سوى دروس الحكمة، وكنت دائمًا أرى أمام عيني أمثلة مشرفة، فلقد كان أبي -رغم ولعه باللهو-، رجلًا شديد الاستقامة، ليس هذا فحسب، بل إنه كان أيضًا على قدر كبير من الشعور الديني، كان رجلًا ذا شهامة في شؤون الدنيا، ومسيحيًّا في قرارة فؤاده، ولقد بثّ في قلبي منذ الصغر، ما كان يخالجه من أحاسيس، وكذلك أفدتُ من عماتي الثلاث، اللائي كن جميعًا عاقلات فاضلات»[25]، فكيف استطاع روسو أن يَحْرم أولاده من مثل هذه الحياة، التي كانت حاضرة أمامه إبَّان كِبَره، ويشيد بها مع مر السنين، وما زالت ذكراها جميلة؟!

فإذا تجاوزنا الموقف الإنساني والسلوك الأخلاقي، فهل كان روسو جديرًا بالتربية والتعليم، وللإجابة عن هذا يَحْسُن بنا أن ننقل ما سطَّره روسو عن نفسه في هذا المجال؛ فهو يعترف بقصوره في التربية، ويقول: «وأجدني كثير الإدراك لأهمية واجبات المربي، وأجدني كثير الشعور بقصوري»[26]، وهذا الحكم الذي حكم به على نفسه، لم يكن بسبب خوفه من التجربة أو جَهْله بها، بل كان نتيجة لتجربة سابقة لم يُوفَّق فيها، أكَّدت له عدم أهليته لمهمة التربية، فقال: «ومما حدث أن قمت بتجربة كافية في هذه المهمة سابقًا، وذلك لأستيقن أنني غير أهل لها، وأن أحوالي تُعفيني منها، حتى عند استعدادي لها»[27].

ولكن ها هنا مسألة: هل يلزم أن يكون المربي أو المهتم بعلم التربية، مزاولًا لهذه المهنة؟، ألا يوجد من هم على قدر من التنظير المميز، غير أنهم لم يحظوا بأسرة أو يرزقوا بأبناء؟، ألا يوجد من يكون مُوفَّقًا في أطروحاته، ولكنه لم يُجرِّب التربية العملية؟، وفي الوقت نفسه ألا يوجد مَن نجَح، ووُفِّق في تربية أولاده تربية رائعة، دون أن يقرأ كتابًا، أو يكون له اطِّلاع على نظريات التربية، وعن مثل هذا قال روسو: «وإذا كنت غير قادر على القيام بأنفع الأعمال؛ فإنني أجرؤ على الأقل، على محاولة القيام بالأسهل، وذلك أنني أسير على غرار أناس كثيرين غيري، فلا أقبض العمل، بل على القلم، وأنني أجِدُّ في قول ما يجب بدلًا من فعله»[28].

وعلى كل حال، فمهما اقتنعنا بقدرة روسو على التنظير في مسائل التربية والتعليم، وأهليته لإعطاء النصائح والتوجيهات لكل مُرَبٍّ؛ فإن ذلك لا يُعفيه من أنه ارتكب خطأ فادحًا، وسيبقى ما فَعَله وَصْمة عارٍ، تلاحق مسيرته وتقترن باسمه، ولا يُكفِّر عن ذلك كتاب ولا عشرة كتب في التربية.

يقول عادل زعيتر مُعلِّقًا على موقفه تجاه هذه الحادثة: «وفي ذلك من الابتعاد عن الإنسانية والمروءة، وحسّ الواجب ما لا يخفى»[29]، ولكنه يذكر بعد ذلك أن هناك مَن شكَّك في صحة هذه القصة، وأنها دُسَّت في اعترافاته بعد موته، فقال: «ومع ذلك فقد وُجِدَ مَن شَكَّ في صحة حكاية أطفاله الخمسة تلك، ذاهبًا إلى أنها دُسَّت في اعترافاته التي نُشرت بعد موته»[30]، ولكنه لم يذكر من شكَّك بهذا، كما لم يُقِم الأدلة والبراهين على صحة هذا التشكيك، ولهذا لا يمكن الاعتماد على هذا الرأي، ويبقى موقف تخلي روسو عن أولاده ثابتًا، حتى يأتي ما يَنفيه.

 


 


[1] إميل أو التربية، روسو، (ص51).

[2] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).

[3] إميل أو التربية، روسو، (ص285).

[4] إميل أو التربية، روسو، (ص286).

[5] مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).

 

[6] للاستزادة عن حياة روسو، انظر: الاعترافات، روسو، مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، مقدمة كتاب إميل أو التربية، روسو، جان جاك روسو، نجيب المستكاوي، تاريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم.

[7] انظر: الاعترافات، روسو، (248-249)، مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص26)، مقدمة مترجم كتاب أصل التفاوت، روسو، (ص8).

[8] ترجم هذه الكتب الأستاذ عادل بن عمر زعيتر، وُلِدَ في نابلس سنة 1312ه، وتوفي فيها سنة 1377ه، كان من أكابر المترجمين عن اللغة الفرنسية؛ حيث بلغ ما ترجم عنها سبعة وثلاثين كتابًا، وكان له إلمام بالتركية والإنجليزية، ترجم عدة كتب لروسو، وهي: العقد الاجتماعي، وإميل أو التربية، وأصل التفاوت بين البشر، انظر: الأعلام، الزركلي، (3/244).

[9] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص27).

[10] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).

[11] مقدمة مترجم كتاب إميل أو التربية، روسو، (ص28).

[12] الاعترافات، روسو، (ص252).

[13] الاعترافات، روسو، (ص253).

[14] الاعترافات، روسو، (252-253).

[15] الاعترافات، روسو، (252-253).

[16] الاعترافات، روسو، (ص253).

 [17] الاعترافات، روسو، (ص253).

[18] إميل أو التربية، روسو، (ص268).

[19] مقدمة مترجم إميل أو التربية، روسو، (ص25).

[20] مقدمة مترجم إميل أو التربية، روسو، (ص25).

[21] الاعترافات، روسو، (ص46).

[22] الاعترافات، روسو، (ص47).

[23] الاعترافات، روسو، (ص47).

[24] الاعترافات، روسو، (ص51).

[25] الاعترافات، روسو، (ص51).

[26] إميل أو التربية، روسو، (ص51).

[27] إميل أو التربية، روسو، (ص51).

[28] إميل أو التربية، روسو، (ص51).

[29]  مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).

[30]  مقدمة كتاب العقد الاجتماعي، روسو، (ص9).

أعلى