• - الموافق2024/04/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المسافر

المسافر


كيف حالك؟ بجميع مشتقاتها، والجواب واحد غير متعدد؛ بل هو محصور في كلمة واحدة: مسافر.

ذلك ما كان يُحيِّر أصدقاءه المقربين! أجل، ويفتح دائرة الاستغراب عندهم على مصراعيها لكنَّهم - وأنا واحد منهم بالطبع - لم يعودوا يستغربوا سماع هذه الكلمة وقد اقتربو منه أكثر.

إن أنسى لا أنسى ذلك المساء، وقد تلاقينا في الزقاق الموصل إلى الحيِّ في المدينة، كان يبدو عليه الانهماك وهو يسير على عجلة من أمره. اقتربت منه راسماً مشروع ابتسامةٍ تحاكي ابتسامته العذبة التي عوَّدنا عليها، وعندما لاحظني سرعان ما اتسعت دائرة ابتسامته تغمر وجهه المتعرق.

فاجأته مداعباً:

• يبدو أنك مسافر اليوم أيضاً؟

ارتبك لسماع كلماتي، وأخذ يعلو ويهبط وهو ينظر من حواليه متمتماً وفراشة الابتسامة ترفُّ فوق وجنتيه بجناحيها العريضين.

• لا أدري - والله - متى يحينُ الموعد يا صديقي!

• ولكني مسافر زادي الخيال؛ فهل تراني غير هذا؟

كلماته القليلة النابرة فتحت نوافذ الدهشة عندي بل الاشفاق. اقتربت أكثر وقلت مداعباً:

• لا عليك فكلُّنا - يا أبا حسان - على هذا الدرب سائرون؛ وإنما المفلحُ منَّا هو من يُرشِّد النفقات في هذا السفر، ويعتدُّ بعدَّته وعتادة التي جعلت لنا شواخص نهتدي بها.

اختصرت قاطعاً محاضرتي، حتى لا أبدو ثقيلاً مملاً.

كنت علمت خبر عقد قرانه لولده الوحيد حسَّان من خلال بطاقة الدعوة، فأحسست بفرحتي له؛ لِـمَا أكنُّه له من ودٍّ وتقدير، واستأنفت معه فبادرته:

• ولكـن يا أبا حسـان! ليهنـك فرحُك بحسـان؛ فما بالك لا تغمرك فرحة فلذتك التي ادَّخرتَها ليوم كهذا؟

تنهَّد طويلاً، وعيناه ترسلان الرضا لحسان، قائلاً:

• الله يرضى عليه، لقد كان صاحب مسيرة معي جنباً إلى جنب، وها هو يستعد لخوض غمار الحياة بإكمال نصف دينه والعقبى لأبنائك يا أخي راشد. وقبل أن أنكفئ مبتعداً عنه، أضفت:

• ولكن قل لي يا أبا حسان: وهل حسان من آل مسافر أيضا؟

قلتها بخباثة تحمل روح المداعبة؛ إذ لا غرابة وقد كنت من أقرب أصدقائه إليه. بادلني النظرات هازّاً رأسه الذي وخطَه ُ الشيب، فندف عليه البياض، وعقَّب بالقول:

• (ذرية بعضها من بعض) وهل ذلك الشبل إلا من ذاك الأسد.

استلطفتُ ما سمعتُه منه؛ إذ لم أتفاجأ، وراحت الكلمات تكرُّ كما لو كانت حبَّات سُبْحَة تدحرجت هنا وهناك.

• يا لك من مسافر أعددتَ (زوادتكَ) ليوم الرحيل!

اكتفى مُغرقاً رأسه بين كتفيه، مؤمناً بتواضعٍ بدا لي حتى في عينيه الغائمتين بالرضا والاطمئنان بقوله:

• الحمد لله، الحمد لله.

عدوت مستودعاً إياه.

نحن مسافرون إزاءه؟ مستبشراً بالهالة التي نرسمها كلما تلاقينا معاً، لنصوغ أنشودة الإيمان فتعلوا غيمة فوق رأسينا تمطرنا أنَّى شاءت وكيف شاءت برضا الرحمن الذي التقينا حول مائدته، وتعاهدنا بعهده المتين.

أعلى