• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حضارة الإسلام في الأندلس ثمرة الجهاد

حضارة الإسلام في الأندلس ثمرة الجهاد


نتحدث عن حضارة الإسلام في الأندلس، بكل فخرٍ واعتزاز، وهي، بطبيعة الحال، أهل لكل فخر، ولكل اعتزاز، وليس ذلك، لذات تلك الحضارة العظيمة، بطابعها الإسلامي البديع، وخصوصيتها الأندلسية الفريدة، وإنما لسمو الدين الإسلامي الحنيف، وعظمته وروعته، وما فيه من خير، وسعادة للبشرية جمعاء، في دنياهم وآخرتهم.

بيد أننا عندما نعدد عوامل قيام تلك الحضارة الأندلسية، فإننا نرجعها لعوامل مادية، وعقلية، وبيئية، ونذهل عن العامل الأهم الذي كان السبب الأساسي في وجودها، وهو الجهاد في سبيل الله. فلولا الجهاد في سبيل الله، لما استطاع المسلمون أن يضعوا حجرا على حجرِ، في شبه الجزيرة الأيبيرية، ولما استطاعوا أن يبقوا فيها عقدا واحدا.

فهذه الحضارة الأندلسية، التي نتغنى بها اليوم، والتي لا تزال تدهش المؤرخين، والزوار، من مختلف أنحاء العالم، أقيمت على أشلاء وجماجم المجاهدين، وبفضل تضحياتهم الجبارة، ودمائهم الزكية، التي ضرّجت ميادين الجهاد، في داخل شبه الجزيرة الأيبيرية وخارجها، برا وبحرا.

ولذلك، فإن مبعث الفخر الحقيقي، ومبعث الإعجاب الحقيقي، بهذه الحضارة الأندلسية، هو أن المسلمين أقاموها، رغم أنهم ظلوا طوال فترة وجودهم في الأندلس، أو بالأحرى غالبية تلك الفترة، والتي امتدت زهاء ثمانمائة عام، ظلوا في جهادٍ متصل، ضد أعداء الله الكفار، الذين كانوا يحيطون بشرقيّها وشماليّها، وبعض غربيّها.

فقد اعتبر المسلمون الأندلس، منذ وطأت أقدامهم في هذا القطر، في العقد الأخير من القرن الأول الهجري، اعتبروه ثغر جهادٍ ورباطٍ، لأنّ البحر يفصلها عن بقية البلاد الإسلامية، فهو، يحيط بها من جميع جهاتها، إلا ما كان نصارى أمم أوروبا فيه من جهة الشمال، فأهلها بين البحر، ونصارى أمم أوروبا، التي كانت أمامهم كلجج البحر الأخضر، مع ما كانت تتميز به من قوة الشكيمة، وشدة البأس، وكثرة الأعداد، ووفرة الإمداد، والتعصب المقترن بلهيب البغضاء والحقد.

وعلى هذا الأساس تعاملت الخلافة الأموية في دمشق مع الأندلس، الأمر الذي انعكس على قسمة أراضي هذا البلد التي افتتحت عنوة، في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك (86-96هـ)، ثم في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101هـ)، فالخلافة اعتبرت أراضي الأندلس المفتوحة عنوة اقطاعات للمسلمين الفاتحين، ولم تجعل لبيت المال سوى الخمس من هذه الأراضي.

بل إن أكثر أراضي الخمس هذه، قد ذهب على شكل أقطاعات للروادف من المسلمين الذين دخلوا الأندلس، بعد ذلك، ولم يكونوا في عداد الفاتحين، وذلك لترغيبهم في سكناها والتوطن بها، ومن ثم تولي أمر حمايتها، والجهاد فيما يليها، وذلك لتدبير مورد دخل ثابت لهم، يرتزقون منه، لوجودهم في هذا الثغر البعيد عن دار الخلافة، والمنقطع عن باقي أراضي دولة الإسلام، ولكي يتقوون بذلك المورد الثابت على العدو المتاخم لهم، وذلك بدلا عن العطاء من خزينة الدولة.

وقد كان هذا التقسيم، وإقطاع الأرض للجند الفاتح لاستغلالها، خير معين للمسلمين الفاتحين ولأبنائهم، وأحفادهم، على البقاء في الأندلس، والدفاع عنها والجهاد فيما يليها، بل كانت هذه السياسة، أي سياسة إقطاع الأرض للجند الفاتح، بدلا من العطاء، مصدرا من مصادر قوة المسلمين، وعاملا مهما من عوامل ظهورهم على أعدائهم، لعدة قرون، كما اتضح ذلك، فيما بعد، أي بعد تغيير هذه السياسة في آخر عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر، هذا الأخير الذي ألغى الإقطاع وجعل الجيش كله نظاميا دائما، بحيث صار كل جندي يتقاضى راتبا شهريا من الدولة، حسب رتبته بدلا من استغلاله للإقطاع.

وفي هذا يقول المؤرخ والفقيه المالكي الأندلسي أبو بكر الطرطوشي، (520هـ/1126م) ، في كتابه (سراج الملوك): وسمعت بعض شيوخ بلاد الأندلس من الجند وغيرهم يقولون: مازال أهل الإسلام ظاهرين على عدوهم، وأمر العدو في ضعف وانتقاص، لما كانت الأرض مقطعة في أيدي الأجناد، فكانوا يستغلونها، ويرفقون بالفلاحين، ويربونهم كما يربي التاجر تجارته، فكانت الأرض عامرة والأموال وافرة، والأجناد متوفرين والكراع والسلاح فوق ما يحتاجون إليه، إلى أن كان الأمر، في آخر أيام ابن أبي عامر، فرد عطايا الجند مشاهرة وأخذ الأموال على النطع وقدَّم على الأرض جباة يجبونها فأكلوا الرعايا وأحتجنوا أموالهم، واستضعفوهم فهربت الرعايا وضعفوا عن العمارة فقلت الجبايات المرتفعة إلى السلطان وضعفت الأجناد وقوي العدو على المسلمين حتى أخذ الكثير منها، ولم يزل أمر المسلمين في نقص وأمر العدو في ظهور إلى أن دخل الملثمون فردوا الاقطاعات، كما كانت في الزمان القديم، ولا أدري ما يكون وراء ذلك".

ولأن المرابطين ردوا الإقطاعات كما كانت في الزمان القديم، فقد انتعشت الزراعة من جديد في الأندلس في عهدهم.

ومهما كان من أمر، فقد وطن المسلمون الفاتحون أنفسهم منذ البداية، بأن وجودهم في هذا البلد (الأندلس)، ليس لأجل التمتع بمغانمه، والتلذذ بخيراته، وإنما لأجل الجهاد والرباط. وعندما ظل المسلمون في الأندلس، واعين لهذه الحقيقة، وبالتالي، ظلت راية التوحيد مرفوعة، وسوق الجهاد قائمة، عزوا وسادوا، وأما عندما تجاهلوا هذه الحقيقة، أو تناسوها، وانقسموا على أنفسهم، وجعلوا بأسهم بينهم، فقد ذلوا وهانوا، وكانوا فريسة سهلة لأعدائهم.

وإذا كان المسلمون قد خسروا الأندلس، في نهاية المطاف، وخرجوا منه مطرودين، ولم يبق فيه من يقول لا إله إلا الله، فإن ذلك، يجب أن لا ينسينا تضحيات المسلمين الأندلسيين، وجهودهم الكبيرة في الدفاع عنه، تحت راية عقيدة التوحيد، بل إن التضحيات التي قدمها المسلمون الأندلسيون فرادى أو إلى جانب إخوانهم المغاربة، دفاعا عن الإسلام في هذا الثغر، ليس لها مثيل، في أي ثغر إسلامي آخر، فقد كانت تضحيات جبارة تبهر العقل، وتملك النفس، وهي أشبه بالأساطير منها بعالم الواقع، وذلك نظرا لتعدد هؤلاء الأعداء، وكثرة حشودهم، وشدتهم، وشراستهم، وقوة العصبية التي كانت تحركهم لقتال المسلمين، واستئصالهم من هذا البلد القصي، مقابل قلة المسلمين، وانقطاعهم عن إخوانهم، في بقية أراضي دولة الإسلام.

ولقد أتى زمن كان فيه المسلمون في الأندلس يقارعون جيوش جرارة لأربعة أعداء من ديانات مختلفة، في وقت واحد، تقريبا، في البربر والبحر، وهم:

- الفرنجة في الشمال الشرقي من الأندلس، وفيما وراء جبال البرت (فرنسا).

- نصارى الأسبان في الشمال، والشمال الغربي من الأندلس، والبابوية من ورائهم تحرّض، وتمنح صكوك الغفران.

-  النورمانديون (الفاكينج)، الذين كانوا يهاجمون الأندلس عن طريق المحيط الأطلسي، هجمات ضارية، على حين غرة.

- الشيعة العبيدون في شمال أفريقيا، والذين كانوا يخططون لاحتلال الأندلس، ولأجل ذلك فقد أغارت أساطيلهم عليها مرات ومرات في القرن الرابع الهجري.

وهذا فضلا عن الحركات الانفصالية في الداخل، وعلى رأسها حركة عمر بن حفصون، كبير الخوارج في الأندلس، والتي استمرت طوال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.

ومع كل ذلك، كان المسلمون في الأندلس ينتصرون على أولئك الأعداء جميعا، ويظلون في موقع القوة، والريادة، والصدارة، والتقدم، حضاريا، وفنيا، واقتصاديا، وثقافيا، وهذا على الأقل خلال القرون الثلاثة الأولى من الوجود الإسلامي في الأندلس، أي طوال عهد الدولة الأموية في الأندلس، وبسقوطها سنة 422 هـ، تمزق المسلمون في الأندلس، واشتدت عليهم حروب الاسترداد الصليبية، واستولى الأسبان على أكثر المعاقل، ومنذ ذلك التاريخ، أخذت الحضارة الإسلامية في الأندلس، تسير نحو الانحدار.    

***

 

أعلى