لماذا لم يعتذر ماكرون؟

لماذا لم يعتذر ماكرون؟


"ايمانويل ماكرون فتح على نفسه جبهة لا تغلق"

هذا ما قالته صحيفة الأوبزرفر البريطانية وهي تعلق على حوار ماكرون الأخير والذي وجه من خلاله رسالة إلى العالم الإسلامي، ذكر فيها تفهمه لمشاعر المسلمين إزاء الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، دون أن يعلن صراحة رفضه الإساءة للإسلام، وأضاف إن الرسوم الكاريكاتيرية ليست مشروعا حكوميا بل هي منبثقة من صحف حرة ومستقلة غير تابعة للحكومة.

جاءت تصريحات ماكرون بعد أيام من إعلانه تمسكه بالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة ووصفه الإسلام أنه دين يمر بأزمة، ووصفه للمسلمين الذين يقدر عددهم بنحو ستة ملايين نسمة، في فرنسا بأنهم أقلية يواجهون خطر تشكيل مجتمع مضاد، وبأن لديه خطط لسن قوانين أكثر صرامة للتصدي لما سماه الانعزال الإسلامي، والدفاع عن القيم العلمانية، وتشمل مقترحاته فرض رقابة أكثر صرامة على التعليم، والسيطرة على التمويل الأجنبي للمساجد كما يزعم.

وبالرغم من أن ماكرون لم يعتذر في مقابلته مع الجزيرة بل تحدث بلغة تصالحية، ولكن كثير من المراقبين قالوا عن مقابلته أنه استنكف عن الاعتذار.

ولكن ما يهمنا هنا هو تحليل الدوافع التي أرغمت ماكرون على توجيه هذه الرسالة الغير مسبوقة، ثم عدم اقدامه على تقديم اعتراف صريح.

الذي أجبر ماكرون على توجيه هذه الرسالة، موقف العالم الإسلامي من هذه العنصرية والكره المقيت للإسلام في خطابات ماكرون الأولى.

وعبر المسلمون هذا الموقف من خلال فاعليتين: المقاطعة الاقتصادية والمظاهرات الشعبية، وهذا ما عبرت عنه صحيفة لوباريزيان الفرنسية، التي وصفت رد الفعل الاسلامي ضد فرنسا أنه آخذ بالتوسع في العالم العربي في الوقت الذي ينتفض فيه الكثيرون ضد دعم الدولة الفرنسية للحق في التجديف والسخرية من المقدسات.

المقاطعة الاقتصادية:

بدأت هذه المقاطعة فور خطاب ماكرون المتعصب ضد الإسلام والذي وصف فيه الإسلام أنه في أزمة، حتى أن ماكرون نفسه بدا عليه التأثر والغضب حين تناول هذه المقاطعة في حديثه مع قناة الجزيرة حيث قال بالحرف: حملة المقاطعة هذه ذات شأن غير لائق وندينه وأدينه، وهذه الحملة هي من فعل بعض المجموعات الخاصة التي استندت إلى أكاذيب بشأن رسوم الكاريكاتور، وأحيانا هي من فعل بعض الزعماء الآخرين، وهذا أمر غير مقبول لأنكم تفهمون ما يحدث فيما يتعلق برسوم الكاريكاتور، ولكن رد فعل الخارجية الفرنسية كان أكثر وضوحا وصراحة حيث دعت الخارجية في بيان، حين ذكرت إن الدعوات إلى المقاطعة عبثية، ويجب أن تتوقف فورا.

ولكن هل هذه المقاطعة مؤثرة؟

لقد وصلت قيمة الصادرات الفرنسية إلى الدول العربية في العام 2019 إلى أكثر من 31 مليار دولار، بحسب قاعدة بيانات كومتريد التابعة للأمم المتحدة، وتعد واردات الجزائر من فرنسا الأعلى في المنطقة العربية، وتمثل صادرات فرنسا إلى الدول العربية والإسلامية، قرابة 25% من إجمالي صادرات فرنسا السنوية.

وتتنوع الصادرات الفرنسية لبلاد العرب والمسلمين بين الأسلحة والخدمات، وهناك أيضا صناعة الطيران والفضاء والمواد الصيدلانية، ونسبة أقل من صادرات الاستهلاك اليومي كالنسيج والصناعات الغذائية، والصناعات الصغيرة (كالتجهيزات المنزلية)، وتشكل صناعة السيارات رقما أساسيا، فضلا عن عقود تبرمها فرنسا من حين لآخر لتشييد مشاريع نقل ضخمة.

والآن كيف جرت المقاطعة الاقتصادية؟

في سلطنة عُمان على سبيل المثال، جاءت دعوة من مفتي السلطنة، الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، في السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، لمقاطعة المنتجات الفرنسية، فقد دعا مفتي عمان المسلمين إلى الحرص على الاستقلال التام في بناء اقتصاد عالمي متحرر من كل تبعة لغيرهم، مطالبا باسترجاع خبراء العالم الإسلامي إلى أوطانهم، وتهيئة المناخ المناسب لهم من أجل العمل، وتحفيزهم على الإنتاج الذي يغني الأمة عن أن تكون عالة على غيرها، ونشر الحساب الرسمي لمفتي عُمان في تويتر رسالة دعا فيها الشيخ الخليلي إلى ضرورة اتفاق الأمة على سحب رؤوس أموال المسلمين من المؤسسات الاقتصادية التي يديرها هؤلاء المعتدون المتطاولون على المقام العظيم لنبينا.

وبحسب موقع البي بي سي البريطاني فإن المقاطعة الكويتية على سبيل المثال قد أدت إلى تجميد تبادل تجاري بين البلدين (الكويت وفرنسا) يصل إلى 21 مِليار دولار سنويا، وإذا وسعنا الدائرة أكثر فإن الضرر قد يمتد إلى 300 مِليار دولار حجم الاستثمارات الخليجية وحدها في فرنسا.

الأمر لم يتوقف عند السلع الفرنسية فقط، وإنما امتد التأثير إلى الرحلات السياحية المتجهة إلى فرنسا، فهناك تقرير نشره موقع RFI الإخباري الفرنسي الذي كشف عن قرار 430 وكالة سفر عالمية تعليق شراء تذاكر الطيران إلى فرنسا، ومن المعلوم أن قطاع السياحة يعد أحد أهم القطاعات الأساسية في الاقتصاد الفرنسي، فهو يمثل نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي، ويدر إيرادات بقيمة 56.2 مليار يورو ويوفر مليوني وظيفة مباشرة وغير مباشرة.

ويرى الباحث في الاقتصاد الدولي بجامعة تشوكوروفا التركية جنكيز أنار، أن من شأن دوام خطوات المقاطعة لفترات طويلة أن ترهق الاقتصاد الفرنسي، الذي عانى أساسا من انكماش زادت نسبته على 13% منذ انتشار وباء فيروس كورونا في الأشهر الأولى من هذا العام.

والمتتبع للمجتمع الرأسمالي الغربي يرى أن رؤوس الأموال وكبريات الشركات تمثلن مراكز القوى بالدول الرأسمالية كفرنسا، والتي بدورها ستقوم بالضغط على الحكومة الفرنسية وعلى رأسها الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون والذي كبد تلك الشركات خسائر فادحة.

المظاهرات الغاضبة

على المستوى الشعبي، كانت ردود الفعل أوسع، فقد خرجت تظاهرات حاشدة ونظمت وقفات احتجاجية في كثير من المدن والعواصم العربية والإسلامية والعالمية، للتعبير عن الغضب والاحتجاج ضد الإساءة الفرنسية

ففي مدينة القدس المحتلة، أحرق متظاهرون في عدة وقفات على مدار الأيام الماضية صوراً لماكرون.

وفي ليبيا، داس عشرات الليبيين علم فرنسا بإطارات السيارات الأربعاء في مدينة مصراتة، احتجاجا على الإساءة، ونشرت فضائية فبراير الليبية، مقطعا مصورا لمرور السيارات فوق علم فرنسا وسط تعالي صيحات الشباب الواقفين على جانبي الطريق.

وأحرق متظاهرون علم فرنسا في دول عربية عدة، منها موريتانيا ولبنان والعراق والجزائر وتونس.

وشهدت مدينة كراتشي الباكستانية، وقفة احتجاجية قبالة القنصلية الفرنسية، شارك فيها العشرات من الذين احتجوا على الإساءة الفرنسية للنبي الكريم والدين الإسلامي، كما خرج عشرات الآلاف من المسلمين في بنجلادش، حيث ردد المتظاهرون في شوارع داكا عاصمة بنجلادش، وتصاعدت الهتافات المطالبة بمقاطعة المنتجات الفرنسية ورفعوا لافتات تصف ماكرون بأنه أكبر إرهابي في العالم.

وفي القاهرة شهدت ساحة الجامع الأزهر الداخلية مظاهرة تندد بالغطرسة الفرنسية وتطاولها على الإسلام ونبيه، كما خرج عشرات الآلاف من المتظاهرين في عدة مناطق سورية المحررة من تسلط نظام بشار، خاصة في الرقة وادلب.

لقد تصور ماكرون ومن وراءه فرنسا والغرب عموما أنه عندما لا يتم مراعاة مشاعر المسلمين واتباع سياسة الكيل بمكيالين، وينطلقون من نظرتهم لأنفسهم أنه هم المنتصرون وان أمة الاسلام قد انهزمت أمامهم منذ قرنين من الزمن، فلماذا يثور المغلوب على المنتصر فهذا المهزوم عليه أن يبلع الاهانة ويسكت ...

نحن ندرك أن الغرب بحاجة إلى غطاء فكرى لمواصلة الهيمنة على شعوب العالم الثالث... هكذا يحتاج ماكرون وغيره للحديث عن الإرهاب الإسلامي، خاصة أن فرنسا تمر بأزمات اقتصادية واجتماعية من بطالة وإفلاس وقمع للحريات، تجلى واضحا مع أصحاب السترات الصفراء، وهكذا تدخل مقولة الإرهاب الإسلامي أو التطرف في سوق تداول الأقنعة السياسية لعمليات النهب المنظم والهيمنة الاقتصادية.

إن ما فعله العالم الإسلامي ورد فعله على هجوم ماكرون على الإسلام من المظاهرات الشعبية الحاشدة في بعض بلاد المسلمين، ثم حملات المقاطعة للبضائع الفرنسية على ما يبدو قد أوجعت فرنسا بل أخافتها، لدرجة أن الرئيس الفرنسي ماكرون توسل للجزيرة كي تقابله كما تقول بعض المعلومات الصحفية، وتركته القناة في سقطة منها يدافع عن نفسه ويكذب ويزور بدون ما يفضح الصحفي الذي قابله كراهية ماكرون للإسلام والمسلمين وتعصبه الذي لم يتغير ولن يتغير.

أعلى