في التاريخ لحظاتٌ لا تُكتب بالحبر، بل تُسجَّل بالدماء والعقيدة، لتغدو رمزًا يقظًا في ذاكرة الأمة. ومن بين هذه اللحظات، تتألّق معركة “حطين الثانية”، لأنها فجّرت في فلسطين ذات الروح التي بعثها صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس
كان العالم الإسلامي في النصف الأول من القرن السابع الهجري يعيش اضطرابًا عميقًا؛
فبيت الأيوبيين تمزّق بين طموحات الأمراء، وتنازع أبناء البيت الواحد على الملك كما
تتنازع الذئاب على الفريسة.
وفي دمشق، جلس الصالح إسماعيل على عرشها، لكنه باع شرف الأمة في سوق السياسة، فعقد
حلفًا مع فرسان الهيكل والإسبتارية، وعرض الصالح إسماعيل على الصليبيين أن ينضموا
إلى أيوبيي الشام في حلفهم الجديد، بل ووعدهم بتسليمهم جزءًا من مصر بعد هزيمة
الصالح أيوب، لكن الصليبيين لم يرضوا إلا بمنح الصالح إسماعيل لهم -على سبيل
المبادرة- صفد وشقيف ونصف صيدا وطبرية وسائر بلاد الساحل في الشام فأذعنَ، كما سمح
لهم بدخول دمشق وشراء السلاح منها، مما أغضب المسلمين، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد
السلام -وكان قاضي المدينة وخطيب جامع دمشق- بتحريم بيع السلاح للصليبيين، وقطعَ
الدعاء للصالح إسماعيل في جامع دمشق، فعزله الصالح، فلم يجد العزّ بداً من المسير
إلى مصر حيث ولاه السلطان الصالح أيوب الخطابة بجامع عمرو بن العاص، وقلّده قضاء
مصر "الفسطاط" والوجه القبلي.
كانت تلك الخيانة من الصالح إسماعيل صاحب دمشق ذروة الانحطاط السياسي، لكنها في
الوقت ذاته كانت الشرارة التي أيقظت في القاهرة روح الجهاد من جديد. أدرك الملك
الصالح أيوب أن معركته لم تعد مجرد صراع على عرشٍ أو مدينة، بل معركة على هوية
الأمة كلها.
الخوارزمية.. جيشٌ اقتلعته المأساة فأنبت النصر
في هذه اللحظة الحرجة، برزت على المسرح قوةٌ جديدة غيّرت مجرى الأحداث: "القوة
الخوارزمية".
كانت بقايا جيش الدولة الخوارزمية العظيمة التي دمّرها التتار سنة 628هـ، وشرّدوا
رجالها في أرجاء المشرق. هؤلاء الفرسان الذين اقتلعهم الطوفان المغولي من أرضهم،
ظلّوا يبحثون عن أرضٍ يقاتلون فيها دون أن يُهانوا أو يتحوّلوا إلى مرتزقة.
رأى فيهم الصالح أيوب فرصةً لإحياء فريضة الجهاد، ولتوظيف طاقتهم في معركةٍ تُطهّر
الأمة من خياناتها، فاستنجد بهم، وعقد معهم حلفًا جهاديًا يقوم على الدم والعقيدة
لا على المصالح.
استجابوا لندائه، وانطلقوا من الأناضول نحو الشام، كأنهم طوفان من فرسانٍ تائهين
وجدوا قبلتهم أخيرًا.
وعندما وصلت أخبار استعانة الصالح أيوب بالخوارزميين إلى الصالح إسماعيل؛ قرر أن
يصل بالخيانة والانحطاط إلى القاع، إذ سلّم عدة مناطق جديدة للصليبيين منها بيت
المقدس وطبريا وعسقلان، ويروي المؤرخ ابن واصل الحموي أثناء مروره بمدينة القدس سنة
641هـ فيقول: "فرأيتُ الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم
القربان، ودخلتُ الجامع الأقصى وفيه جرس معلّق، وأُبطل بالحرم الشريف الآذان
والإقامة، وأُعلن فيه بالكفر"، ولم يكتف الصالح إسماعيل بذلك بل وعدهم بأنهم إذا
استولوا على البلاد المصرية فسوف يُعطيهم كافة المناطق الساحلية في مصر والشام؛
ليعيدوا بذلك أمجاد الصليبيين في مرحلة ما قبل ظهور حملة رايات الجهاد الكبار عماد
الدين زنكي ومن بعده.
تحرير القدس.. النصر الذي هزّ أوروبا
في أوائل سنة 642هـ نزل الجيش الخوارزمي المقدر بعشرة آلاف مقاتل بقيادة (بركة
خان) من جنوب الأناضول إلى بلاد الشام مخترقاً ولايات ومدن الأيوبيين الموالية
للصالح إسماعيل والصليبيين على حد السواء، ولم يجرؤ أي من الفريقين على اعتراضهم؛
لشدة بأسهم في القتال وخبرتهم الطويلة في الحروب، حتى وصل الخوارزميون إلى بيت
المقدس، ففر كثير من الصليبيين من المدينة، ومن بقي منهم كان غنيمة باردة لسيوف
الخوارزميين، فطهروا المسجد الأقصى من دنس الصليبيين وأعادوه إلى الإسلام والصلاة.
وبعدما ضبطوا المدينة، خرجوا إلى اتجاه مصر، واستقر بهم الحال في "سهل الحربية"
قريباً من غزة ناحية الشمال، فعسكروا وأرسلوا إلى الصالح أيوب يخبرونه بقدومهم؛
لنصرته، ويطلبون منه تسيير العساكر إليهم؛ ليحاربوا عمّه الملك الصالح والملك
المنصور صاحب حمص، ويأخذوا بلادهما له، فخَلع الصالح على رسلهم، وبعث الخِلَع
والتُّحف للمقدمين منهم، واهتم في إنفاذ العساكر إليهم، فاجتمعت القوات الخوارزمية
مع القوات المصرية المكونة في معظمها من مماليك الصالح أيوب والملقبين بالمماليك
البحرية، واستعدوا للقاء الحلف الصليبي الأيوبي المشترك.
كانت تلك اللحظة زلزالًا في أوروبا اللاتينية، هنا بدأ التحالف الصليبي الدمشقي
يستجمع قواه؛ من عكا وصيدا والكرك ودمشق، وخرجت الجيوش لتقاتل في موقعةٍ كبرى ضد
هذا التحالف الإسلامي المتجدد. "الخوارزمي الأيوبي المصري"، وبالفعل شرعت القوات
المتحالفة في المسير صوب الجنوب وقد سلكت الطريق الساحلي، وقد اتفق المؤرخون على أن
الجيش الصليبي الأيوبي المشترك كان يُعتبر أضخم جيش قذف به الصليبيون في ساحة
القتال منذ يوم حطين، وذلك طبيعي جداً في ظل انضمام الكثير من خونة المسلمين إليهم.
سهل الحربية.. يوم انتصر الإيمان على الخيانة
في السابع عشر من أكتوبر 1244م (26 جمادى الآخرة 642هـ)، التقت الجيوش في سهل
الحربية شمال غزة.
اصطفّ الصليبيون ومعهم جيش دمشق في صفٍ واحد، بينما انتشرت القوات الخوارزمية
والمصرية بقيادة ركن الدين بيبرس الصالحي
—
الذي سيغدو بعد سنوات سلطانًا مملوكيًا
—
على الجهة المقابلة.
بدأ الهجوم الصليبي عنيفًا، لكن الخوارزمية اندفعوا كالسيل الجارف يخترقون قلب
الجيش المعادي، ثم أطبقت القوات المصرية من الخلف، فكانت مذبحة عظيمة وصفها ابن
واصل الحموي بأنها
“أعظم
وقعةٍ بعد حطين وأشدها على الفرنج”.
قُتل الآلاف، وأُسر المئات، وانهارت جبهة التحالف الخائن انهيارًا تامًا. أما الملك
المنصور صاحب حمص فقد قال كلمته المشهورة:
"والله لقد حضرتُ الحرب ذلك اليوم، وأوقع الله في قلبي أننا لا ننتصر، لانتصارنا
بالكفار على المسلمين ووقوفنا تحت رايات الصليب".
نتائج المعركة.. ميلاد عهدٍ جديد
1. سقوط التحالف الصليبي-الدمشقي وانكسار معظم فرسانه في الميدان.
2. عودة القدس إلى الحكم الإسلامي.
3. توحيد مصر والشام تدريجيًا تحت راية الصالح أيوب بعد أن أنهكت الانقسامات جسد
الأمة.
4. تمهيد الطريق لقيام الدولة المملوكية التي ستتولى بعد عقدٍ واحدٍ قيادة المعركة
الكبرى ضد المغول في عين جالوت.
كانت سهل الحربية علامة فاصلة في ميزان القوى بالمشرق، وإشارة إلى أن الأمة
—
وإن ضعفت دولها
—
لا تموت ما دام في صفوفها من يرفع راية الله خفّاقة.
لماذا سُمّيت "حطين الثانية"؟
لم يكن الاسم تزيينًا بل توصيفًا صادقًا.
فكما كانت حطين الأولى (1187م) معركة الوحدة والتحرير بقيادة صلاح الدين، كانت حطين
الثانية (1244م) معركة بعث الروح الجهادية بقيادة حفيده الصالح أيوب.
كلاهما واجه تحالفًا صليبيًا واسعًا، وكلاهما خرج من المعركة بتحرير القدس وإحياء
الأمل في قلب الأمة.
في سهل الحربية لم يكن النصر عسكريًا فحسب، بل نصرًا روحيًا على الانقسام والخيانة،
ودليلًا على أن الأمة التي تعود إلى ربها لا تموت، وإن تعثّرت دولها وتخاذل ملوكها.