• - الموافق2025/11/19م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
من دومة الجندل إلى طوفان الأقصى.. دروس القوة والمبادرة

التاريخ يثبت أن الانتصار الحقيقي لا يكمن في الهجوم المباغت ولا في كسر الأسطورة فحسب، بل في تحويل تلك اللحظة إلى مشروع طويل الأمد يمتلك مؤسسات، ورؤية سياسية، وبنية اجتماعية صلبة تحمي المكاسب وتمنع الارتداد إلى ما قبل المبادرة.


في لحظات التحوّل الكبرى لا بد من فهمٍ دقيقٍ لسنن القوة في التاريخ. وفي قلب هذه السنن تقف المبادرة، بوصفها الفاصل الحقيقي بين من يصنع الحدث ومن يُسحق تحت عجلاته. هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة، حين كانت الدولة الإسلامية ما تزال غضّةً ضعيفة ومحاصَرة بتحالفاتٍ تهدد وجودها. لم ينتظر أن يتحرك العدو، ولم يترك الخطر يكتمل؛ خرج بجيشٍ صغير إلى تخوم الشمال ليكسر الطوق، ويرسل رسالة عسكريةسياسية مدوية: القوة لا تُقاس بالعدد. لقد كانت دومة الجندل درسًا نبوياً في كسر الطوق قبل إحكامه، وفي صناعة الردع حين تكون الإمكانيات متواضعة، وفي إعلان حضورٍ جديد لدولةٍ ناشئة في خرائط القوى.

واليوم، وعلى بعد قرون، جاء طوفان الأقصى ليعيد تفعيل المعادلة ذاتها في وجه كيانٍ يمتلك أحدث ترسانة في المنطقة. لم يكن الهدف إسقاط إسرائيل في يوم، بل نسف أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، وخلخلة يقينه الأمني، وإثبات أن المبادرة حين تأتي من طرفٍ محاصر قد تغيّر قواعد اللعبة كلها. كما خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليكسر حصارًا سياسيًاعسكريًا خانقًا، خرجت المقاومة لتكسر حصارًا دوليًا ممتدًا، ولتنقل الصراع من منطق إدارة الاحتلال إلى منطق مقاومة الاحتلال.

إن الربط بين دومة الجندل وطوفان الأقصى ليس ترفًا تاريخيًا؛ بل كشفٌ لقانونٍ ثابت:

المبادرة ليست فعل عدوان، بل أداة بقاء. ومن ينتظر اكتمال طوق العدو، يسقط قبل أن يبدأ.

ومتى اجتمعت البصيرة السياسية مع الشرعية الأخلاقية ومع إرادة الفعل يصبح الحدث الشرارة التي تغيّر الموازين، كما فعلت قريش في تلك الحقبة، وكما يفعل الكيان الآن أمام مقاومة كسرت غطرسته.

سنّة المبادرة النبوية:

في غزوة دومة الجندل تتجلّى واحدة من أعمق القواعد العسكرية والسياسية التي أرساها النبي صلى الله عليه وسلم: أن انتظار العدو حتى يكتمل خطره جهلٌ استراتيجي، وأن المبادرة ليست ترفًا بل شرط بقاء. كانت دولة المدينة يومها ناشئة، محدودة الموارد، محاصَرة بتحالفات قبلية واقتصادية تريد خنقها قبل أن تشتدّ. ومع ذلك، لم يتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الخطر القادم من الشمال بوصفه احتمالًا مؤجَّلًا، بل بوصفه طوقًا يتكوّن ببطء، وأن كسره قبل أن يكتمل أيسر وأقوى من مجابهته بعد أن يصبح واقعًا مفروضًا. هنا تظهر القيادة النبوية؛ فالإقدام لم يكن مغامرة، بل قراءة واعية لسنن التدافع التي تجعل القوة في حركة سبّاقة لا في ردّ فعل متأخر.

 

أحدثت مبادرة طوفان الأقصى انقلابًا عميقًا في الوعي العالمي، ليس لأنها فعل عسكري فحسب، بل لأنها حرّرت الخطاب الدولي من القيد الذي ظلّت إسرائيل تفرضه لعقود: حصر القضية في “مساعدات إنسانية” و“لاجئين يحتاجون الإغاثة

خرج النبي صلى الله عليه وسلم بجيشٍ صغير إلى عمق الصحراء الشمالية، وبذلك نقل المعركة من حدود المدينة إلى حدود العدو، وأرسل رسالة سياسية مفادها أن الدولة الإسلامية في طور التأسيس تملك القدرة على الردع الوقائي. لم تكن الغزوة مجرد حملة عسكرية، بل إعلان حضور في مسرح النفوذ الإقليمي، وكسر لصورة الدولة المحاصَرة التي كان الخصوم يراهنون عليها. لقد حقق هذا التحرك ثلاث غايات: إحباط تكتّلٍ كان قابلاً للتحول إلى تهديد مباشر، وترسيخ هيبة الدولة الناشئة، وإثبات أن القيادة تستمد قراراتها من بصيرة شرعية ترى أن تجنب المعركة الظالمة لا يعني تجنب المبادرة العادلة.

 إن دومة الجندل ليست مجرد محطة في السيرة، بل نموذج يُعلِّم أن القائد الذي يسبق الخطر يصنع التاريخ، والذي ينتظره يصنع الهزيمة.

طوفان الأقصى وإعادة تعريف الصراع:

في لحظة مفصلية من تاريخ الصراع، جاء طوفان الأقصى ليعيد تشكيل الوعي الجمعي قبل أن يعيد رسم خرائط القوة. ما حدث لم يكن مجرد هجوم مباغت أو عملية عسكرية معزولة؛ كان نقطة تحوّل استراتيجية رفعت المقاومة من مستوى التكتيك المحلي إلى معادلة ردع جديدة لا يستطيع الاحتلال تجاهلها. لقد انكسر وربما لأول مرة منذ عقود ذلك الحائط السميك الذي بُني بعناية حول أسطورة التفوّق الإسرائيلي، سواء في الاستخبارات أو الردع أو السيطرة الكاملة على المجال.

هذا التحول لم يكن عسكريًا فحسب. في البعد السياسي، فجّرت العملية تناقضات المنظومة الإسرائيلية: كشفت هشاشة الحكومة، وأربكت المؤسسة الأمنية، ودفعت المجتمع السياسي في تل أبيب إلى حالة استقطاب حاد. أما على المستوى الديني-الرمزي، فقد حطّم طوفان الأقصى سردية القداسة الحارسة التي استندت إليها إسرائيل لفرض هيمنتها على القدس، وأعاد للقضية مركزيتها الروحية والأخلاقية في الوجدان العربي والإسلامي.

الأكثر عمقًا أنّ العملية أعادت تعريف سؤال الشرعية: من يملك الحق في المبادرة، ومن يحدد قواعد الاشتباك؟ ولأول مرة منذ زمن طويل، بدا الاحتلال في موقع المتلقي لا الفاعل، يترنّح تحت ضربات مبادرة لم يستطع التنبؤ بها ولا امتصاص تداعياتها. هكذا أصبح طوفان الأقصى ليس حدثًا، بل إطارًا جديدًا لفهم الصراع: صراع لم يعد يدور حول جغرافيا محاصرة، بل حول إرادة لا يمكن حصارها.

تأثير المبادرة على الوعي العالمي:

أحدثت مبادرة طوفان الأقصى انقلابًا عميقًا في الوعي العالمي، ليس لأنها فعل عسكري فحسب، بل لأنها حرّرت الخطاب الدولي من القيد الذي ظلّت إسرائيل تفرضه لعقود: حصر القضية في “مساعدات إنسانية” و“لاجئين يحتاجون الإغاثة”. فجأةً، وفي يوم واحد، تحوّل العالم من التعامل مع الفلسطيني كضحية تنتظر شحنة دقيق إلى شعب يخوض صراعًا ضد احتلال، يمتلك القدرة على تغيير المعادلة لا على انتظار الفتات. وهذا التحوّل لم يكن إعلاميًا فقط، بل بنيويًا؛ فقد أصبحت المقاومة لأول مرة منذ عقود فاعلًا دوليًا يصوغ سرديته ويكشف زيف الرواية الغربية التي احتكرت المشهد السياسي والدبلوماسي.

على المستوى العسكري والسياسي، فرضت المبادرة على العالم التعامل مع المقاومة كقوة منظّمة لها حسابات واستراتيجيات، لا كجماعة محاصرة تُستدعى للوم والتأنيب. هذا الوعي الجديد أربك المنظومة التي كانت تعتمد على تصوير الاحتلال كطرف يدافع عن نفسه، إذ انكشفت حقيقة القوة غير المتوازنة، وظهر أن من يمتلك الطائرات والدبابات والقدرة على الحصار والقتل ليس بحاجة إلى استعطاف العالم، بل إلى مواجهته بالحقائق.

أما على المستوى الديني والأخلاقي، فقد دفعت العملية الملايين حول العالم لإعادة التفكير في مفهوم العدالة ذاتها. لم يعد السؤال: كيف نرسل لهم مساعدات؟ بل: كيف سمحنا بهذا الظلم أن يستمر؟ لقد أعاد طوفان الأقصى إحياء الوعي الروحي العالمي المرتبط بنصرة المظلوم، ودفع شرائح واسعة من المسيحيين والمسلمين واليهود المناهضين للصهيونية إلى توحيد خطابهم على قاعدة حق الإنسان في الحرية.

وهكذا، لم تغيّر المبادرة ميزان القوة فقط؛ بل غيّرت ميزان الوعي، وجرّدت الاحتلال من أعظم أسلحته: سرديته.

من لحظة الفعل إلى مشروع طويل الأمد:

تفتح أي مبادرة ناجحة بابًا واسعًا بين لحظة الفعل ولحظة البناء، وهذا ما يفرضه طوفان الأقصى باعتباره نقطة ارتكاز لا يمكن أن تبقى في حدود الصدمة العسكرية أو الإنجاز الرمزي. فالتاريخ -من تجربة الدولة النبوية إلى تجارب الحركات التحررية- يثبت أن الانتصار الحقيقي لا يكمن في الهجوم المباغت ولا في كسر الأسطورة فحسب، بل في تحويل تلك اللحظة إلى مشروع طويل الأمد يمتلك مؤسسات، ورؤية سياسية، وبنية اجتماعية صلبة تحمي المكاسب وتمنع الارتداد إلى ما قبل المبادرة.

على المستوى العسكري، تحتاج المقاومة إلى نقل إنجاز المبادرة من تكتيك هجومي إلى عقيدة دفاعية شاملة، تُعيد تنظيم القوى، وتطوير مراكز القيادة والسيطرة، وتثبيت منظومات الردع بحيث يصبح أي عدوان مستقبلي مكلفًا للعدو نفسيًا وميدانيًا. المبادرة تُكسب احترامًا، لكن المؤسسات وحدها هي التي تُبقيه.

وعلى المستوى السياسي، يُفترض الانتقال من مجرد رد الفعل إلى هندسة المشهد الفلسطيني الداخلي: توحيد البنية الإدارية، إصلاح الأنظمة المحلية، وبناء أطر تمثيلية تملك شرعية الجبهات كما تملك شرعية المجتمع. النجاح العسكري ليس له قيمة إذا لم يتحول إلى وزن سياسي قادر على فرض الشروط لا انتظارها، وعلى حماية المشروع المقاوم من التشظيات الداخلية والإملاءات الخارجية.

وفي البعد الاجتماعي والديني، يكمن جوهر الاستمرار: تحويل التضحية إلى وعيٍ جمعي، وتحويل الصمود إلى مناهج، وبناء شبكة تكافل تحافظ على روح المبادرة في الأجيال القادمة. فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم حوّل انتصاراته إلى مؤسسات تنظم الاقتصاد والجيش والأمن والعلاقات مع القبائل، فإن المقاومة اليوم مطالبة بأن تبني دولة الوعي قبل دولة الحدود.

بهذا وحده يتحول طوفان الأقصى من لحظة مجد عابرة إلى تحوّل تاريخي دائم يغيّر المصير بدل أن يلمع في الذاكرة ثم يخبو.

أعلى