• - الموافق2025/12/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عملية

عملية بيت جن كشفت تحوّلًا جديدًا في تعامل الحكومة السورية مع التوغلات الصهيونية، إذ انتقلت من الحذر الدبلوماسي إلى مواجهة عسكرية محدودة رفعت كلفة الاحتلال، ما قد يعيد رسم معادلات الجنوب السوري ويغيّر استراتيجية الكيان المقبلة.


فجر الجمعة الماضي توغلت قوة من جيش الكيان الصهيوني في ريف دمشق، واقتحمت قرية "بيت جن" السورية والتي تبعد عن قلب دمشق ما يقرب من أربعين كيلومتر، واعتقلت اثنين من الأشقاء، زعمت أنهم ينتمون إلى تنظيم الجماعة الاسلامية، وفي طريق عودة القافلة العسكرية الصهيونية، فوجئت بكمين يطبق عليها من جميع الجهات من مقاتلين سوريين، شرعوا في الاشتباك مع جنود الاحتلال من المسافة صفر، الأمر الذي أسفر كما تقول الرواية الصهيونية عن إصابة ستة من جنود الاحتلال، منهم ثلاثة من الضباط بإصابات حرجة.

وفور ذلك هرعت طائرات الاحتلال المسيرة والمروحية بمحاولة إخلاء جرحاهم والمصابين، كما قامت بقصف القرية، الأمر الذي أسفر عن استشهاد ثلاثة عشرة سوريًا، وإصابة العشرات ونزوح ما يقرب من عشر أسر من أهالي القرية الصغيرة، معظمهم من النساء والأطفال.

ويشهد الجنوب السوري منذ سقوط نظام الأسد منذ ما يقرب من عام، توغلات صهيونية وقصف لأنحاء عديدة، لكن هذه المرة تختلف عن ما سبقها من عمليات، في أنها لأول مرة تلقى هذه التوغلات مقاومة منظمة من جانب الأهالي السوريين، وربما الحكومة السورية الجديدة، وفق مصادر الجيش الصهيوني، التي تؤكد أن منفذي الهجـوم في "بيت جن" لم يكونوا مجموعات عشوائية، إنما عناصر من أجهزة استخـبارات نظام أحمد الشرع.

فهل هذه العملية تعد تغييرا في أسلوب تعاطي الحكومة السورية مع ملف الجنوب السوري والاختراقات الصهيونية؟  وإلى أي مدى سيصل هذا التغيير؟

ولمعرفة التغيير في المواقف السورية ضد الاحتلال الصهيوني لابد من تحليل الاستراتيجية الصهيونية مع سوريا منذ سقوط الأسد، ثم تعامل الحكومة السورية مع تلك الاستراتيجية قبل عملية بيت جن وبعدها، ومن ثم إدراك ما ترمي إليه هذه التغيرات ومستقبلها.

استراتيجية دولة الكيان في سوريا

هناك أربعة أهداف ومحاور للاستراتيجية الصهيونية تجاه سوريا بعد انهيار نظام الأسد في ديسمبر 2024:

المحور الأول: يمكن تلخيصه في تأمين حدود الكيان بجعل منطقة جنوب سوريا كلها منطقة منزوعة السلاح، وإنشاء في جزء منها مناطق عازلة يتواجد فيها الجيش الصهيوني، والجزء الآخر لا يتواجد فيها، ولكن يظل منطقة نفوذ وعمليات، يحق لجيش دولة الاحتلال التدخل فيها في أي وقت شاء.

وبالفعل استغل الكيان الصهيوني الفراغ الأمني في أعقاب سقوط الأسد، للتقدم واحتلال أراضٍ سورية إضافية، بما في ذلك مواقع استراتيجية مثل جبل الشيخ، وتأسيس نقاط عسكرية جديدة في هضبة الجولان المحتلة منذ عام 1967. كما أنشأ منطقة عازلة على عمق 15 كم، أما منطقة النفوذ فيصل نطاقها إلى 60 كم في جنوب سوريا لتشمل القنيطرة ودرعا.

فالمنطقة العازلة كانت على عمق 10 كيلومتر من حدود الجولان السوري قبل سقوط الأسد، ثم جرى توسيعها إلى عمق 15 كيلو بعد سقوطه، وتشمل المنطقة المحتلة الجديدة قمة جبل الشيخ (هرمون)، مدينة القنيطرة، وقرى مثل الحميدية، وجباتا الخشب، وعابدين، حيث استحدث الكيان تسع قواعد عسكرية جديدة.

وقد أكد جيش الكيان على هذا المحور بحملة قصف وقائية كما يصفها، حوالي من 500 إلى أكثر من 800 غارة جوية في الأيام التي تلت السقوط، لتدمير معظم الترسانة العسكرية للنظام السوري السابق، بما في ذلك المستودعات، ومنظومات الدفاع الجوي والصواريخ، والمطارات العسكرية، لمنع وقوعها في أيدي فصائل غير صديقة، ولتجريد الجيش السوري من قدرته على المواجهة مستقبلا.

أما المحور الثاني للاستراتيجية الصهيونية فيتمثل في تفتيت الدولة السورية ومحاولة إبقائها ضعيفة، ومفككة وغير قادرة على شن أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة، ومنع ظهور نظام جديد يكون له توجهات معادية للكيان ويقيّد حرية حركته.

وبالفعل تبنت حكومة الكيان سياسة تعزيز علاقاتها مع فصائل محلية مثل الدروز والأكراد في مناطق مختلفة من سوريا، وإبداء استعدادها لحماية هذه الأقليات إذا لزم الأمر، كجزء هام من تلك الاستراتيجية.

ويتمثل المحور الثالث في محاولة فرض التطبيع سواء الكامل أو الجزئي، وإذا أصر النظام السوري على رفضه لتلك المحاولات، فيتجه التفكير الصهيوني نحو صياغة اتفاقية أمنية تتضمن البقاء في الأجزاء الاستراتيجية الهامة كجبل الشيخ الذي يشرف على العاصمة دمشق، وبالتالي يهدد أمنها.

ولكن كيف واجهت الحكومة السورية هذا المخطط الصهيوني؟

التحدي أمام النظام السوري

واجهت السلطات السورية الجديدة هذا التحدي الصهيوني باستراتيجية تجمع بين الحذر والتأجيل، حيث توازن بين ضرورة تثبيت الحكم الجديد وتأمين البلاد، وبين رفض التوسع العسكري للكيان المحتل.

تعتمد هذه المواجهة على محورين رئيسيين: وهما المسار السياسي الدبلوماسي، ومسار التحاور مع الأقليات، أي الضغط على الكيان عن طريق القوى الكبرى، وفي نفس الوقت نزع ورقة الأقليات من يده بإجراء مصالحة مع هذه الطوائف وإعطائها رسائل تطمين على وضعها بأن حقوقهم كأفراد داخل الوطن ستكون متساوية، وفي نفس الوقت لم تلجأ الحكومة السورية الجديدة للمسار العسكري لعلمها بالفارق الكبير والضخم بين قدراتها وقدرات الكيان الصهيوني في هذا المجال.

في المسار السياسي، نجح النظام السوري في كسب اعتراف غالبية القوى المؤثرة على مستوى الإقليم والعالم، فأيدته السعودية وتركيا وقطر، وعلى المستوى العالمي رحب به حكومات الدول الأوروبية، كما تعامل بشكل جيد مع أمريكا وروسيا والصين. هذا القبول والاعتراف الدولي والإقليمي يحاول استغلاله للحد من المخططات الصهيونية تجاه بلاده.

فحكومة الشرع نجحت في إقناع الدول الكبرى أنها ستراعي مصالحها في سوريا، إذا استطاعت هذه الدول الضغط على الكيان العودة إلى تفاهماته السابقة.

وفي نفس الوقت اعتمدت الإدارة السورية الجديدة خطابًا إيجابيًا، يؤكد أنها لن تشكل تهديدا أو تقوم بالعدوان على أي دولة بما فيها الكيان، مع التأكيد على أن الأولوية هي بناء الاقتصاد والبنية التحتية. هذا الخطاب يهدف إلى نزع مبررات التوسع الصهيوني.

وفي المسار الداخلي، تحاول التفاوض مع الأكراد والدروز، وإرسال رسائل طمأنة إلى تلك الأقليات، واستقطاب قادة من هذه المجموعات لينضموا إليها ومحاولة نزع وتحييد الأطراف الإقليمية التي تؤيد أو تحاول أن تستخدم ورقة الأقليات لاستمرار القلق داخل سوريا.

ولكن هل نجحت هذه الاستراتيجية السورية؟

اللجوء إلى المسار العسكري

يقول أحد الحكماء، في حالة الصراع مهما حاولت التفاوض مع خصمك ومساومته فلن يجدي هذا نفعًا ما لم تمتلك أوراق قوية تدفعه للاستجابة لك.

فورقة القوة ينبغي أن يتم وضعها على الطاولة، ويحب تطبيقها بصورة من الصور حتى يقتنع الآخر بجديتك.

وفي الحالة السورية الصهيونية، نجد أن الكيان تمادى في توغلاته العسكرية، ولم يجد نفعًا الضغط الأمريكي عليه والذي يفتقر إلى الجدية، ولا حتى التلويح بالورقة العسكرية الروسية، والتي تفتقر أيضًا إلى الجدية المطلوبة، والتي يعرف الجميع أنها غارقة في وحل أوكرانيا.

كما أن الحليف التركي لا يستطيع مواجهة الكيان الصهيوني بمفرده، وهو يعلم أنه في حالة أي مواجهة عسكرية محتملة بينه وبين الكيان، سينضم التحالف الغربي بأكمله إلى دولة الاحتلال، لتكون فرصة لقصقصة أجنحة القوة التركية الصاعدة، وإنهاء مشروعها الطموح.

لذلك بدأت الحكومة السورية في الإعداد لمواجهة محدودة ومنضبطة مع الكيان الصهيوني، وهذا ما حدث في عملية بيت جن.

في مقابلة مع قناة الجزيرة، ذكر مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما جوشوا لانديس، أن الرئيس أحمد الشرع سيعمل على رفع كلفة التوغلات "الإسرائيلية" داخل سوريا بعد الهجوم الأخير.

وبالفعل أحدث التصدي السوري هزة كبيرة لدى الجانب الصهيوني، ونقلت وسائل الإعلام الصهيونية الارتباك الواضح الذي حدث للساسة في الكيان.

فقد ذكر موقع والا نيوز العبري أن جيش الاحتلال فور وقوع الهجوم، بدأ تحقيقا أوليا لفحص احتمال تسرّب معلومات حسّاسة من داخل الفرقة 210 (الفرقة التي قامت بعملية بيت جن) قبل تنفيذ العملية، خاصة وأن العملية كانت قد أُرجئت في الأسبوع الذي سبقها.

وتحدثت تقارير أخرى عن انتقادات في صفوف قيادة جيش الاحتلال لفشلهم في التنبؤ بالكمين. واعتبرت مصادر أمنية أن تفاجؤ القوات بالكمين أمر كان يجب تجنبه، لا سيما وأن العملية كانت توغلا في أزقة ضيقة وبين منازل سكنية متلاصقة، مما يوحي بنوع من الاستهتار العسكري في جيش الاحتلال.

وأشارت القناة (13) العبرية، إلى أن الجيش الصهيوني يدرس تغيير استراتيجيته في الجنوب السوري بعد هذا الحادث، عبر تقليل الاعتماد على الاعتقالات الميدانية لصالح زيادة الاعتماد على الضربات الجوية في اغتيال المطلوبين، حفاظًا على سلامة الجنود.

ولكن من يعرف العقلية التي يفكر بها الكيان، يدرك أنه قد يخطط للانتقام.

وهناك احتمال أن الكيان سينفذ خلال الأيام المقبلة ربما غارات جوية وعمليات اغتيال مركّزة في العمق السوري، ستستهدف مطارات، ووزارات، ومنشآت عسكرية يُعتقد أن فيها نشاطات استخباراتية سورية.

ولكن هذا الكيان نسي ولم يدرك أنه سيواجه حكومة قد تكونت أساسا من عناصر، سبق لهم أن واجهوا أقوى الدول أيام الثورة السورية، واجتمعت عليهم أمريكا وروسيا وإيران، وفي النهاية كان النصر حليفهم.

أعلى