الدعاء للقلب

الدعاء للقلب


الحمد لله العليم القدير؛ يقلب القلوب، ويعلم مكنون الصدور، وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار التائبين، ونسأله من فضله العظيم؛ فهو الجواد الكريم، البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من استهداه هداه، ومن توكل عليه كفاه «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ» {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان يخاف تقلب القلوب، وكان كثيرا ما يقول في حلفه: «لاَ وَمُقَلِّبِ القُلُوبِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا في صلاح قلوبكم، وتزكية نفوسكم بالأعمال الصالحة؛ فإن المعول عليه صلاح القلب وسلامته لله تعالى، واستقامته على أمره «أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» حديث صحيح متفق عليه.

أيها الناس: استقامة القلب على أمر الله تعالى فيها سعادة الدنيا وفوز الآخرة، وفي الحديث الصحيح قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» رواه مسلم. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: «دَاوِ قَلْبَكَ فَإِنَّ حَاجَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْعِبَادِ صَلَاحُ قُلُوبِهِمْ».

ومن اللافت للانتباه كثرة الأدعية المخصصة للقلب، مما يوجب على المؤمن العناية بتلك الأدعية، وحفظها، وكثرة الدعاء بها؛ تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن القلب محل الإيمان والاستقامة والولاء والبراء والحب والكره، وأعمال القلوب أهم وأولى من حركات الأبدان، والخشوع في الصلاة روحها ولبها. وتَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قيام ليلة كما جاء عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.

ولما كان القلب محل الحب والكره كان الدعاء له بحب الإيمان، وكراهية الكفر من الأدعية المأثورة، وقد امتن الله تعالى على الصحابة رضي الله عنهم بذلك، فقال سبحانه {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].

وبعد غزوة أحد حيث ألم الهزيمة، ومر المصيبة، التي تميد القلوب فيها، جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأثنى على الله تعالى ودعاه، وكان من دعائه بهم «اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ» رواه أحمد.

والقلب يزيغ عن الهدى إلى الضلال، وعن الحق إلى الباطل؛ ولذا كان من دعاء الراسخين في العلم الذي حكاه الله تعالى عنهم في القرآن الكريم {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7- 8].

وكان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء بتثبيت القلب على الدين؛ كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا» رواه أحمد.

وسئلت أم سلمة رضي الله عنها: «مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ: يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لِأَكْثَرِ دُعَائِكَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ: يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ» رواه الترمذي وحسنه.

والقلب قائد الجسد، فلا يذهب إلى الطاعة إلا بأمره؛ ولذا شرع الدعاء بتصريفه على الطاعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ» رواه مسلم.

وسلامة القلب ربح لصاحبها يوم القيامة {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89]. والقلب السليم هو الذي سلم لله تعالى، فسلم من الشرك والبدعة والشبهة والشهوة. ويمرض القلب بقدر ما يداخله من هذه الموبقات، ولربما مات القلب بالكفر أو بالنفاق، عياذا بالله تعالى من ذلك؛ ولذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ» رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها. بل جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه علّم بعض أصحابه أن يتعوذ بالله تعالى من شر قلبه، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من قلب لا يخشع؛ لأن ذلك دليل على قسوته.

وكل معصية تؤثر في القلب ولا بد، والتوبة تجلوه، والطاعة تحييه، والذكر يربط عليه {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] وفي دعاء نبوي طويل كان منه قول النبي صلى الله عليه وسلم «وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا» وفي بعض الروايات عدّ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء من الكنوز التي ينبغي للمؤمن أن يكنزها أكثر من الذهب والفضة.

وكما تتضمن سلامة القلب سلامته في حقوق الله تعالى بتجريد التوحيد، والتزام الطاعة، والبعد عن الشرك والبدعة والمعصية، فإنها تتضمن سلامته على المؤمنين، فلا غش في قلبه عليهم ولا حسد ولا غل ولا كره، وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين الذين جاءوا بعد الصحابة رضي الله عنهم، فقال سبحانه {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

ومن الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بعد التشهد في الصلاة «اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ...» رواه أبو داود وصححه ابن حبان.

والقلب محتاج إلى هداية الله تعالى على الدوام؛ لكثرة ما يرد عليه من أدواء الشهوات والشبهات، والوساوس والخطرات، سواء كانت هداية القلب فيما يتعلق بلزوم التوحيد والسنة والطاعة والبعد عن الشرك والبدعة والمعصية، أو كانت هدايته بالصبر والرضا، وعدم الجزع والسخط حال المصيبة، كما قال الله تعالى {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] ومن الدعاء المأثور في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء طويل: «رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ صَدْرِي» فسأل الله تعالى أن يهدي قلبه، وأن يسلل سخيمة صدره «وسخيمة الصدر هي الضغينة، من السخمة وهي السواد... وسلها إخراجها وتنقية الصدر منها».

وما أحوج القلب إلى الاستضاءة بالنور، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل كما نقله عنه ابن عباس رضي الله عنهما: «اللهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا» متفق عليه.

نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم....

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتنوا بصلاح القلوب {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

أيها المسلمون: عناية المؤمن بقلبه يجب أن تكون أهم المهمات؛ لأن صلاحه مرتهن بصلاح قلبه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله تعالى لغفلة قلبه، فمن أسباب حياة القلب الاستغفار، وهو دعاء للقلب وإحياء له، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه مسلم.

«قِيلَ الْمُرَادُ: الْفَتَرَاتُ وَالْغَفَلَاتُ عَنِ الذِّكْرِ الَّذِي كَانَ شَأْنُهُ الدَّوَامَ عَلَيْهِ، فَإِذَا فتَرَ عَنْهُ أَوْ غَفَلَ عَدَّ ذَلِكَ ذَنْبًا وَاسْتَغْفَرَ مِنْهُ».

وقد ظهر من مجموع نصوص الدعاء للقلب أنها تنتظم في الدعاء للقلب بتحبيب الإيمان له وتزيينه فيه، وتكريه الكفر والفسوق والعصيان له، وعدم الزيغ، والدعاء بثبات القلب على الدين، وتصريفه على الطاعة، وهدايته وإنارته، وغسله من الخطايا، ونقائه على المؤمنين، وتأليف قلوب المؤمنين بعضهم على بعض، والاستعاذة بالله تعالى من شر القلب، ومن قلب لا يخشع.

فينبغي للمؤمن أن يعتني بهذه الأدعية المختصة بالقلب، التي فيها ثباته على الدين، وحفظه من الزيغ والانحراف، وأن يحفظها ويتدبر معانيها، ويكررها في مواطن الإجابة، وأن يلح على الله تعالى بها، ولا سيما في هذا الزمن الذي باتت فيه القلوب تتخطف بفتن الشهوات والشبهات، وفتن السراء والضراء، فيسلب أصحابها الإيمان عياذا بالله تعالى من ذلك. وهنيئا لمن لقي الله تعالى بقلب سليم، ويا تعاسة من انقلب قلبه عليه فأرداه في دار الجحيم.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 7- 8].

وصلوا وسلموا على نبيكم....

 

أعلى