عادات القرآن .. رؤية تربوية ودعوية

عادات القرآن .. رؤية تربوية ودعوية

إن المتدبر للقرآن الكريم ، والمتفهم لطريقته يجد أنه يحوي بين دفتيه من القواعد التربوية والدعوية ؛ ما إن سار عليها المربون والدعاة والمصلحون لأدى ذلك إلى نجاح الدعوة واستقرارها في النفوس السليمة ، والعقول المستقيمة .

وفي هذه المقالة نعرض لبعض عادات القرآن .

والمقال ليس استقصاءً وحصراً ، بل هو إشارة لعلها تجد من ينمِّيها ويُفَصِّل فيها ، ويجمع شتاتها من كتب التفسير وعلومه ؛ لتكون مُعْجَماً للتربويين ، والعلماء ، والمصلحين .

العَادَة : مَعْرُوفة والجمع عَادٌ وعَادَات ، تقول منه : عَادَ فلان كذا ؛ من باب قال ، واعْتَادَه وتَعَوَّدَه ؛ أي صار عادَةً له [1] .

العادةُ : تكريرُ الشيءِ دائماً أَو غالباً على نَهجٍ واحدٍ بلا علاقةٍ عَقْليَّة ، وقيل :ما يستَقِرُّ في النُّفوسِ من الأُمور المتكرِّرَة المَعْقُولةِ عند الطِّباع السَّلِيمة [2] .

ونقصد بعادات القرآن : ما كرره القرآن الكريم دائماً أو غالباً على نهج واحد ،حتى يستقر في النفوس ذات الفطرة السليمة .

أولاً : من عادة الله - تعالى - المطَّردة في القرآن : أنه إذا ذكر آية في الوعيد ، أن يُعقبها بآية في الوعد :      والمتتبع لمنهج القرآن الكريم يجد هذا واضحاً من خلال آياته ؛ فإذا ما ذُكرت الجنة أتبعها الله - سبحانه - بذكر النار ، وإذا ما ذُكر العذاب ، أتبعه - سبحانه -بذكر الرحمة والنعيم ، وقد يكون هذا في آيات متتالية وقد يكون في الآية الواحدة .

فمن ذلك على سبيل المثال : ما ذكره الله - تعالى - في سورة محمد : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}  ( محمد : 15 ) ، فبعد هذا الترغيب الجميل ، أعقبه بما يُخَوِّف النفوس ، ويرعب القلوب ، فقال : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } ( محمد : 15 ).

ولما ذكر الله - سبحانه - العذاب الشديد في سورة الحج بقوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ } ( الحج :19- 22 ).

أعقب هذه الآيات الصارخة بالعذاب والمرعبة للقلوب ، بآيات تنطق بالنعيم المقيم ، والاطمئنان العظيم برحمة الله : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }  ( الحج : 23 ) .

وإذا ذكر الله صفة من صفاته التي توحي بالرحمة ، أتبعها بما يُرهب من صفة أو عذاب .

قال - تعالى - : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ } ( الحجر : 49-50 ) .

وقال - تعالى - : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }  ( البقرة : 23-25 ).

وقال - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ( الأنبياء : 98-103 ) .

ومن حكمة الموازنة بين الوعد والوعيد ( الترغيب والترهيب ) :

1 - أن النفس البشرية طُبعَت في آن واحد على الخوف والتأثُّر بالترهيب من جهة ، والطمع والاستجابة للترغيب من جهة أخرى ؛ فاتباع هذه القاعدة يزيد المسيءَ خشية ويردُّه عن بعض ما يرتكبه ، ويزيد المحسن رغبة في الخير ويدعوه رجاؤه إلى الازدياد من الإحسان .

2 - أن الجمع بين الوعد والوعيد أدعى إلى الطاعة والعدول عن المعصية .

3 - أنهما أداة الهداية والإصلاح .

ولو اقتصر الداعية على منهج الترغيب ، لتواكل المدعوون على الرحمة ، وقلَّ خوفهم من العذاب ، وتمادوا في العصيان ، وعزفوا عن التوبة ، وأصروا على ما فعلوا ، وفي هذا من الخطر العظيم ما لا يخفى .

ثانياً : من عادة القرآن التعريض : مثل قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ( آل عمران : 154 ) .

وقال - تعالى - : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ( الحديد : 16 ) .

وكان هذا الأسلوب هو خُلُق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ : مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ ... ؟ وَلَكِنْ يَقُولُ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ : كَذَا وَكَذَا ؟ [3]

فكان إِذَا كَرِهَ شَيْئاً فَخَطَبَ لَهُ ذَكَرَ كَرَاهِيَته ، وَلَا يُعَيِّن فَاعِله ، وَهَذَا مِنْ عِظَم خُلُقه - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ الْمَقْصُود مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصُ وَجَمِيعُ الْحَاضِرِينَ وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَبْلُغهُ ذَلِكَ ، وَلا يَحْصُل تَوْبِيخ صَاحِبه فِي الْمَلَأ [4] .

ثالثاً : من عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن : - قال - تعالى - : { فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ( البقرة : 187 ) ، فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين .

- وقوله - تعالى - : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } ( النساء : 43 ) [5] إذ لا يخلو الجماع من الملامسة .

- في الكناية عنهن : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ( البقرة : 187 ) ، واللباس من الملابسة ، وهي الاختلاط والجماع .

- وكنِّى عنهن في موضع آخر بقوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ } ( البقرة : 223 ) .

- قوله - تعالى - : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } ( يوسف : 23 ) كناية عما تطلب المرأة من الرجل .

- وقوله - تعالى - : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } ( الأعراف : 189 ) .

وفوائد ذلك : أن التعبير باللفظ الأحسن مكان اللفظ القبيح أدب قرآني ينبغي تربية المسلمين عليه ، حتى يخلو المجتمع من ألفظ الفحش والتفحش : « فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلَا التَّفَحُّشَ » [6] ، ويسمو المجتمع بأخلاقه ، ويصبح شامة بين المجتمعات ؛ تُرى فيه القدوة الحسنة ؛ فيكون دعوة بسلوك وأخلاق أفراده .

رابعاً : من عادة الله - تعالى - في القرآن تنبيه عباده ؛ فإنه يحب منهم التوسم في الأشياء والاستدلال بالعقل والنظر بالمسببات على الأسباب : كما قال - تعالى - : { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } ( الحجر : 74-75 ) ، قال الطبري – رحمه الله - : « إن في الذي فعلنا بقوم لوط من إهلاكهم ، وأحللنا بهم من العذاب لَعَلامات ودلالات للمتفرِّسين المعتبِرين بعلامات الله ، وعِبَرِه على عواقب أمور أهل معاصيه والكفر به » [7] .

وكما قال - تعالى - : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ( التوبة : 126 ) .

وفائدة هذا الأسلوب : أن الله لمَّا وهب الإنسان العقل ؛ فقد أحب منه أن يستعمله فيما يبلغ به الكمال ويقيه الضلال .

فعلى المربين والمصلحين دعوة المسلمين إلى إعمال عقولهم فيما يعود بالخير والصلاح على البشرية ، وتهيئة الأجواء العلمية ، والعملية لتنفيذ ذلك ؛ فإن الله يحب من عباده ذلك ، ولذلك مدح - سبحانه - أولي الألباب في مواضع كثيرة في القرآن ؛ لأنهم هم القائمون والناهضون بتكاليف هذا الدين ، وهم الذين يرجى منهم قيادة الأمة في جميع مجالات الحياة بما يعود على البشرية بالخير والصلاح والنماء .

خامساً : من عادة الله - تعالى - الجارية في القرآن أنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس ، فإنه يذكر عقبها الدلائل الموجودة في الآفاق : فمن الدلائل في الأنفس قوله - تعالى - : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } ( عبس : 24 ) .

ومن الدلائل في الآفاق : قوله - تعالى - : { أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } ( عبس : 25-32 ) .

ومن الدلائل في الأنفس قوله - تعالى - في سورة الطارق : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } (الطارق : 5-12) .

فوائد ذلك : التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ بِطَريقِ النَّظَرِ والاسْتِدْلَالِ لمعرفة بديع صنع الله ، قال العلماء : « فأول الواجبات الإيمان بالله وبرسوله وبجميع ما جاء به ، ثم النظر والاستدلال المؤديان إلى معرفة الله تعالى » [8] .

فمن دعا إلى النظر والاستدلال ، كان على وَفْق القرآن ودين الأنبياء .

سادساً : من عادة الله - تعالى - أن لا يُهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولاً في القرية الكبرى منها : قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } ( القصص : 59 ) .

قال السعدي - رحمه الله - في تفسير قوله - تعالى - : { حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا } ( القصص : 59 ) أي : في القرية والمدينة التي إليها يرجعون، ونحوها يترددون، وكل ما حولها ينتجعها ، ولا تخفى عليه أخبارها [9] .

وفائدة ذلك : أنه على الدعاة والعلماء والمصلحين أن يوجهوا جهودهم الدعوية إلى القرية الكبرى والتي تمثِّل مركز الإشعاع العلمي والروحي ، والتي هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها ؛ فلا تخفى دعوة العلماء والمصلحين فيها ، ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعداداً لإدراك الأمور على وجهها .

وحكمة إرسال الرسول في أم القرى ؛ أي كبراها أو عاصمتها أن تكون مركزاً تُبلَّغ منه الرسالة إلى الأطراف ؛ فلا تبقى حجة ولا عذر فيها لأحد ؛ وقد أُرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة أم القرى العربية .

وتطبيقاً لذلك فإنه ينبغي : - استثمار مكانة مكة المكرمة ، استثماراً يعود على الأمة بالعزة والسؤدد والفهم الوسطي للإسلام ؛ لأنها مركز الإشعاع الروحي والفكري للأمة الإسلامية .

- وكذلك استثمار الجامعات الكبرى مثل : جامعة الأزهر الشريف ، و جامعة أم القرى بمكة المكرمة ، و الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، و جامعة أم درمان الإسلامية بالسودان ، والتي تجمع طلاباً من جميع أنحاء العالم ؛ لتكون مركزاً لتبليغ الرسالة المحمدية إلى كل العالم .

سابعاً : عادة الله - تعالى - بالمؤمنين في أمره ونهيه ، مخالفة مشتهاهم : كما قال - تعالى - للمؤمنين في معرض اختلافهم في الغنائم :{ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ( الأنفال : 1 )، وقوله : { وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ  } ( الأنفال : 5 ) .

ومن ذلك قوله - تعالى - : { قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }  ( النور : 30 ) .

فإن غضهم من النظر عما لا يحلُّ النظر إليه ، وحفظ الفرج عن أن يظهر لأبصار الناظرين ؛ أطهر لهم عند الله وأفضل [10] .

وكما قال - سبحانه - في فرض القتال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( البقرة : 216 ) .

« والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهوِّن من أمرها ، ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها ؛ فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يُحرِّم عليها المشاعر الفطري  التي ليس إلى إنكارها من سبيل ، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نوراً جديداً ؛ إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ، ولكن وراءه حكمة تُهوِّن مشقته ، وتُسيغ مرارته ، وتُحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإنساني القصير ، عندئذٍ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ، ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها .

نافذة تهبُّ منها ريح رخيَّة ؛ عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور ، من يدري ؟ فلعل وراء المكروه خيراً ، ووراء المحبوب شراً .

إن العليم بالغايات البعيدة ، المطَّلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده ؛ حيث لا يعلم الناس شيئاً من الحقيقة [11] .

فوائد ذلك تربوياً ودعوياً :

- أن يتولى الدعاة توضيح ما في أحكام الله من خير للنفس البشرية ، وإن بدا في الظاهر أنها شر .

- أن يفطن المربون والدعاة إلى ما يشتهيه المدعوون ، ومحاولة اتباع المنهج القرآني في مخالفة ما تشتهيه النفس البشرية ؛ حتى لا تصبح النفوس أسيرة لشهواتها ؛ فيصعب عليها القيام بواجب الاستخلاف والعمارة في الأرض ، وهذا ما أشار إليه عمر بن الخطاب ؛ فعن جابر بن عبد الله ، قال : رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا في يدي ، فقال : ما هذا يا جابر ؟ قلت : اشتهيت لحماً فاشتريته ، فقال عمر : أوَكلما اشتهيت شيئاً - يا جابر ! - اشتريت ؟ أما تخاف هذه الآية :{ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا } ( الأحقاف : 20 ) [12] .

وفي الختام : كانت هذه جولة مختصَرة على ما أردنا الإشارة إليه .

نسأل الله الهداية والسداد ، وتفهُّم القرآن ، والعمل بما فيه في جميع مناحي الحياة . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين


(1) مختار الصحاح : ص 220 .

(2) تاج العروس : 1/2150 .

(3) سنن أبي داود ، في حسن العشرة (4156) .

(4) شرح النووي على مسلم : 5/ 72 .

(5) سورة النساء : آية (43) والمائدة : آية (6) .

(6) سنن أبي داود ، ما جاء في إسبال الإزار : (3566) .

(7) تفسير الطبري : 17/ 120 .

(8) تفسير القرطبي : 7/ 331 .

(9) السعدي : ص620 .

(10) تفسير الطبري : 19/ 154 .

(11) في ظلال القرآن : 1/ 202 .

(12) أخرجه : الحاكم في المستدرك : 2 / 455 .

 

 

 

أعلى