• - الموافق2024/04/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
البرامج العلمية تأهيل وتأصيل

البرامج العلمية تأهيل وتأصيل


حين كان العلم بحوراً زاخرهْ      لا يدرك الطالب فيه آخرهْ

وهو بحر لا ساحل له ، وكلّما زادت الأمة شرقاً وغرباً وتوسعت مجالات تواصلها مع الأمم الأخرى ، زاد ما تقذف به المطابع إلى رفوف المكتبات .

وفي مقابل هذا يُجْمِعُ المراقبون على أن هِمَمَ طلاب العلم وقاصديه قد تغيرت تبعاً لتغيُّر الزمان وتراجع الأجيال باتجاه العدِّ التنازلي .

حين كان الأمر كذلك ، كان لا بد من استكمال خطوات بدأها أسلافنا ؛ من ترتيب طريق الطلب ، وتنظيم العلوم ؛ فالعلماء الأولون - عليهم رحمة الله – نظَّموا العلوم ورتَّبوها ؛ حتى يَسْهل على الطالب الترقي في درجات العلوم من غير تخبُّط ولا مزاجية في الانتقاء ؛ فألفوا المتون المختصرة ، كمبادئ للعلوم ودرجة أوَّلية يرتقيها الطالب إلى غيرها من المتون المتوسطة التي تزيد فيها المسائل ويتوسع فيها مؤلِّفوها أكثر من سابقاتها ، وتبعاً لهذا ترتفع لغة مؤلفيها وشارحيها؛ ليتأهل الطالب بعدها إلى المتون التي صُنِّفت للمنتهين .

وفيها تفريعات المسائل والغوص على العلل والترجيحات والرد والقبول والتأصيلات العلمية وما شابهها مما يناسب هذه الدرجة من المتعلِّمِين .

ومن ناحية أخرى فقد قسموا العلوم في الجملة إلى قسمين : علوم آلة ، وعلوم غاية .

فعلوم الآلة والوسائل هي التي يُتَوصَّل بها إلى علوم الغايات والمقاصد ، وما قام به العلماء - رحمهم الله تعالى - من هذه الجهود وغيرها هو الجزء الأعظم في تقريب العلم لسالكيه وطالبيه .

وبقي على أهل كل عصر أن يجتهدوا في تنزيل هذا العلم من خلال برامج وآليات تُناسب الواقع وتفي بالمقصود وتحقِّق المأمول .

إن في ما بدأ وبزغ فجره في مناطق مختلفة ؛ من برامج علمية تُثلِج صدور العاملين لدين الله ، وتعيد الأمل للأمة بتخريج طلاب علم جادِّين ، وصناعة قيادات علميَّة وَفْقَ رؤية شرعية سلفية مؤصَّلة ، دليل على تنامي الوعي الإسلامي بالحاجات والضرورات الداعمة لمسيرة هذه الأمة خصوصاً في المنعطفات المستقبلية التي تنتظر الأمة أو تنتظرها الأمة .

ولا شك أن هذه البرامج وإن كانت خطوة رائدة من بعض المؤسسات الدعوية والعلمية وبعض المهتمين بهذه الشؤون ، إلا أنها تحتاج إلى شيء من الترشيد والتوجيه ، حتى تؤتي ثمارها يانعة بإذن الله ، ولا أزعم أنني بهذه الكلمات أُوَجِّه أو أُرْشِد ، وإنما كتبت لاستدراج أقلام ، هي المعنيَّة بهذا الشأن ، وأصحابها سدنة العلم وأهله ؛ فلا يُفتى ومالك في المدينة .

ولعلِّي أُلمح إلى بعض المفردات والمتفرقات في هذا الشأن :

صياغة المناهج التعليمية : إذا علمنا أن أهل العلم - قديماً وحديثاً - قد بذلوا في هذا الجانب جهداً عظيماً وأصبحت طريقتهم جادَّة مسلوكة عند مَنْ جاء بعدهم ، وتربَّى عليها جهابذة من العلماء وأئمة المحقِّقِين الذين نفع الله بهم وبعلمهم .

فلماذا الحياد عنها ؟ ولا يعني هذا إيقافها وصيانتها من الاجتهاد والانتقاد ، ولكن يعني الإفادة منها والعناية بها على قدر الإمكان ، وما قد يظهر عند بعض المجتهدين من تعديلات على بعض الطرق والمناهج استلزمها الواقع أو الزمان ، فلا حرج في ذلك .

ولكن المهم ألاَّ تخرج عن المعالم العامَّة لمنهجية السلف - رضوان الله عليهم - ولعلَّ من أهمها :

- تربية الطلاب بصغار العلم قبل كباره ، فتلك الربانية كما تعلمون ، وهذه إجابة وافية شافية لمن سأل عن علَّة البداية بالمتون المختصرة ، ولمّا كانت هذه هي الربانية ، كان دارسوها كذلك ، وكان العلماء يربُّون طلابهم على هذه الشاكلة .

- الشمول والتكامل لجميع العلوم التي يحتاجها طالب العلم ؛ من علوم المقاصد وعلوم الآلة كلٌّ بحسبه ، فقد وُجِدَ في بعض البرامج من أغرق في علوم الآلة من اللغة والأصول والمصطلح ... وغيرها على حساب علوم المقاصد كالفقه مثلاً ، فلا يوجد إلا متن مختصر ، لا يفي بالمقصود في برنامج تزيد مدَّته على ثلاث سنوات .

وعلوم الآلة إذا أغرق فيها الطالب استنزفته قَبْلَ أن يصل إلى علوم المقاصد ،فالأَوْلى أن تتصاحب ، وإن تقدَّمت علوم الآلة قليلاً فلا بأس ؛ حتى يكون هناك فرصة للتطبيق والتمرين على ما درس في سابقاتها .

أهداف البرامج العلمية : إذا تم العزم على صياغة برامج علميَّة ، فليكن من أُولَى الأولويات الحديث عن أهداف هذه البرامج ؛ إذ ليس المقصود هو جمعَ مجموعة من الطلاب لشيخ يدرِّسهم متناً بعينه فحسب ، ولا حَصْرَ بعض المتون والشروح في جداول وتقسيمات .

وإن كان هذا وسابقه خيراً ، إلاَّ أننا في كل برنامج علميٍّ نصوغه ، ينبغي أن يتضح هدفنا ؛ لكي نرمي إلى نتائج واضحة لأسباب مرسومة .

فَمِنَ البرامج ما يرمي إلى تخريج المتخصِّصين ، ولذا قد تطول مدَّته وتَكْثُر متونه وعلومه وتتنوع آليات التنفيذ تبعاً لذلك كله .

ومنها ما يهدف إلى التأسيس فحسب ، وهذا له آليَّاته وطبيعته الخاصة ، والمهم من هذا كلِّه أن النتائج تقيَّم على أساس الأهداف ؛ فما لم يكن هدفاً فلا يصحُّ المحاسبة عليه ، وعندها تقاس النجاحات والإخفاقات بوضوح ، ويكون للتصحيح مجال خصب .

إدارة البرامج العلمية وتنظيمها :

- من المأمول أن يتقدم هذه البرامج اختبارات قبول ؛ يُحدَّد فيها مستوى الطالب فلا يُشتَرط أن يبدأ الطالب من أول مستويات البرنامج ؛ فقد يكون قد تجاوزها من فترات مضت ، ولو تحقق ذلك لكان في غاية الحُسْن ، وبهذا وغيره تتأهل البرامج لخدمة شرائح أكبر من طلاب العلم ، وقد لا يتأتى ذلك إلاَّ من خلال معاهد شرعية متخصِّصة ؛ تقوم بشؤون هذه البرامج وما يلزمها .

- ينبغي دراسة الفئات المستهدَفَة بهذه البرامج ؛ فقد يكون الواقع في حاجة إلى صياغة أكثر من برنامج علميٍّ لاختلاف الشرائح المستهدَفة بكل برنامج ؛ حتى يتسنى نَشْرُ العلم في أوساط المجتمع بطريقة أوسع وأكثر تنظيماً ؛ لرفع غياية الجهل عن مجتمعاتنا ؛ فللعامة برامج ، وللمتخصصين ، وللمبتدئين ... وهلمَّ جراً .

- ينبغي أن يتعاون كل من يعنيه الأمر في إنجاح مثل هذه المشاريع ، التي هي من أساسات صناعة الجيل ؛ فيتعاون المسؤولون والجهات الرسمية على تسهيل ما يعني هذه البرامج من قرارات وأنظمة ، وكذلك العلماء المتخصصِّون ؛ إذ هم فرسان هذا الميدان ، ولا ينبغي أن يتصدى غيرهم لشرح هذه المتون والمواد ، وإن كان ممن ينتسبون إلى العلم ، فالمتخصصون هم الذين يستطيعون بناء طلاب علم متمكِّنين يأخذون العلم بحقِّه ، فيُجيبون دعوة بلاد مختلفة للمشاركة في هذه البرامج العلمية .

وممن ينبغي تعاونهم كذلك لرعاية هذه البرامج وتقديم الدعم لها حتى تؤتي أُكُلَها وثمارها حلوة يانعة المؤسسات الداعمة والتجار والموسِرون .

وعلى طلبة العلم - وهم العامل الأهم في هذه المنظومة - أن يلتفُّوا حول هذه البرامج ويفيدوا منها ويعيدوا للأمة روح العلم والعلماء التي فُقِدَت في كثير من بلادنا ؛ والله المستعان .

لا يكن الحل هو المشكلة !

من الأهداف العظيمة التي قامت من أجلها هذه البرامج : تقنين منجزات المحاضن العلمية ، وترتيب التعليم الشرعي في المساجد ، وعلاج ضياع المنهجية وضَعْفِ هِمَمِ طلاب العلم ... وهذه أهداف نبيلة ولا شك .

ولكن الأمر المخيف هو أن يتخرَّج من هذه البرامج أنصاف طلاب العلم ؛ لأنهم عندما قضوا فيها بضع سنوات ، وحفظوا شيئاً من المتون وقرؤوا شروحها ضِمْن برنامج علمي منظَّم ؛ فقد يظن بعضهم أنه حاز العلم من أطرافه وجمع علم الأولين والآخرين ، وهذه الظاهرة عانت الأمة منها سنين عدداً ؛ فترى أحدَهم لا يثنيه عن أعضل المسائل ، إلاَّ عدم عَرضِها عليه أو عدم سماعه بها ، ولو دبَّ إلى أذنيه شيء من خبرها لصدرت الفتوى عنه وهم مصبحون ؛ فلا بد لهذه البرامج أن تسعى إلى تقليص مثل هذه الظواهر السلبية .

ومن الطرق المناسبة لعلاج مثل هذه الظاهرة أن يتصدى لشرح المتون خلال هذه البرامج مَنْ يرى فيهم الطلاب قدوة علميَّة عمليَّة صادقة ؛ يتربى معهم الطلاب ويتعلمون منهم العلم والعمل ، ولا يتصدى صغار طلاب العلم للشرح في مثل هذه البرامج بأي حجة كانت ؛ حتى لا يتجرأ القوم على العلم وأهله ، ويُظَنُّ أن من حمل شيئاً يسيراً من العلم تصدى وتصدر ، بل الأمر غير هذا ، ولَأنْ يتخرج الطالب يحتقر نفسه متواضعاً للعلم ولأهله ، خير من أن يتخرج وهو يرى ألاَّ فرق بينه وبين الذين شابت رؤوسهم في العلم .

كانت هذه نقاط بسيطة في ترشيد بعض البرامج العلمية القائمة .

بارك الله الجهود وسدد الخطى وأخلص النيات .

 

 

أعلى