• - الموافق2024/04/20م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
كان رجل عامة !

كان رجل عامة !

لقد وَسَمَ أهل التاريخ والتراجم عدداً من الأجلاء بكونهم ( رجال عامةٍ ) ومن هؤلاء : الصحابي الجليل عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، وإماما أهل الشام : الأوزاعي و أبو إسحاق الفزاري ، والحافظ الثبت خالد بن عبد الله الطحان .

ففي تاريخ الطبري : ( دعا عثمانُ بن حنيف عمران بن حصين وكان رجلَ عامةٍ ، وألزَّه بأبي الأسود الدؤلي وكان رجلَ خاصةٍ )[1] .

وقال علي بن بكار : سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول : ( ما رأيت مثل الأوزاعي و الثوري ! فأما الأوزاعي فكان رجل عامة ، وأما الثوري فكان رجلَ خاصةِ نفسِهِ ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي )[2] .

وقال إبراهيم الجوهري : ( قلت لأبي أسامة : أيهما أفضل : فضيل بن عياض ، أو أبو إسحاق الفزاري ؟ فقال : كان فضيل رجل نفسه ، وكان أبو إسحاق رجل عامة )[3] .

وقال إسحاق الأزرق : ( ما أدركت أفضل من خالد الطحان ، قيل : قد رأيت سفيان ( يعني الثوري ) ؟ قال : كان سفيان رجل نفسه ، وكان خالد رجل عامة )[4] .

فدفعني ذلك إلى حب التعرف على سمات ذلك الرجل الذي وقف نفسه على الناس حاضراً بوضوح بينهم : يعلمهم وينصح لهم ، ويحمل همومهم ؛ ساعياً لنفعهم ، ومتصدراً لخدمتهم وحل مشكلاتهم ، بكل رحابة صدر وبشاشة وجه ، والمزايا التي يفضل بها على غيره من خلال مطالعة سير هؤلاء الأئمة الموسومين بذلك ، فوجدت أنها على نوعين : نوعٍ يشترك فيه رجل العامة مع غيره من العلماء المهديين والعباد الصالحين ، ونوعٍ يختص به هذا الصنف من القادة المصلحين والأئمة الربانيين .

ولعل من أبرز خلال النوع الأول الذي يشترك فيه رجل العامة مع غيره ؛ ما يلي :

- كثرة الخشوع واليقظة والتقدم في العمل : إذ لا تستطيع حمل هموم الناس والعمل على نفعهم وتبنِّي قضاياهم - مع ما في ذلك من إسقاط حظوظ النفس وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة - نفْسٌ غافلة ، وشخصية شحيحة الزاد هزيلة الراحلة ، وخير الزاد التقوى .

فمن كان رقيقَ المحبة والتعظيم لخالقه ، قليلَ الخشية منه سبحانه ، ضعيف رجاء ما أعده الله - تعالى - لأوليائه ، مقِلاّ من تزكية نفسه وإصلاح قلبه وتقوية الصلة بخالقه ؛ لم يقوَ على المضي الطويل في هذا السبيل على وجهه مهما أراده وتاقت إليه نفسه .

فلا بد للرواحل من خشوع وبكاء ، واستكثار من عبادة القلب ، قال بشر بن المنذر : ( رأيت الأوزاعي كأنه أعمى من الخشوع)[5] ، وقال عمرو بن عون :( ما صليت خلف ابن عبد الله إلا سمعت قطر دموعه على الباريَّة )[6] .

ولا بد للمتصدر لقضايا الناس من صلاة ، وقراءة ، وذكر ، وطول قيام ، قال أبو مسهر : ( كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآناً وبكاء )[7] ، وقال الوليد بن مسلم : ( رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه)[8] ، وقال : ( ما رأيت أكثر اجتهاداً في العبادة من الأوزاعي )[9] .

ولا بد لرجل العامة الحامل لهموم الأمة من حضور قلب وبُعد عن الغفلة ، وحذر من الاغترار بمتع الحياة وشهواتها ورضا أربابها ، سواء أكان ذلك في الليل أم النهار ، في الحضر أم السفر . قال ابن عيينة : قال هارون الرشيد لأبي إسحاق الفزاري : ( أيها الشيخ ! إنك في موضع من القرب ، قال : إن ذاك لا يغني عني يوم القيامة من الله شيئاً )[10] ، وقال الوليد بن مزيد : ( كان الأوزاعي من العبادة على شيء ما سمعنا بأحد قوِيَ عليه ، ما أتى عليه زوالٌ قطُّ إلا وهو قائم يصلي )[11] ، ويخبر ضمرة بن ربيعة فيقول : ( حججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قطّ ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم ، استند إلى القَتَب)[12] ، وعن سلمة بن سلام قال : ( نزل الأوزاعي على أبي ، ففرشنا له فراشاً ، فأصبح على حاله )[13] .

- الزهد والورع : فُطِرَت النفوس على عدم محبة الالتفاف حول نفوسٍ نسيت الآخرة ، وتعلقت بشدةٍ بأوحال هذه الدنيا الفانية ، وجسرت على سلوك أي طريق وخوض أي مفازة ما دام ذلك موصلاً لها إلى تحصيل الملذات والظفر بالرئاسات .

فالزهد والورع ركيزتان أساسيتان في شخصية رجل العامة ، إذ يُمَكِّنان المرء من احتساب الأجر ، والصبر على الأذى ، وسلامة الصدر ، ونزع الغل ، وعدم الحديث عن النفس ، وتوقِّي رؤية العمل واستعظامه ، وحذر التعالم والخوض فيما يُجْهَل ، وعدم انتظار الثناء والشكر ، وترك الانتقام للنفس والوقيعة في الناس ، أو السماح للآخرين بالتكلم في مجلسه بحديث غيبة ، كما يحولان بين المرء والمنة على الناس بما قدمه لهم وأحسن به إليهم ، أو أن يلج في المزاحمة لهم على دنياهم .

ومن مظاهر ذلك في حياة رجال العامة ما جاء عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - حين كان قاضياً على البصرة ؛ أنه قضى على رجل بقضية ، فقال : ( واللهِ ، قضيتَ عليّ بجَوْر ، وما أَلَوْتَ ، قال : وكيف ؟ قال : شُهِد عليّ بزور . قال : فهو في مالي ، ووالله لا أجلس مجلسي هذا أبداً )[14] ، وقال عقبة بن علقمة : ( أرادوا الأوزاعي على القضاء ، فامتنع وأبى ، فتركوه )[15] .

ولم يكن ورع هذا الصنف من الناس قاصراً على توقِّي القضاء ، بل شمل حتى ترك الفتيا فيما لا يتيقن علمه . يقول سلمة بن كلثوم : ( كتب أبو حنيفة إلى الأوزاعي تسعين مسألة ؛ فما أجاب منها إلا بمسألتين )[16] .

وأشد الزهد والورع على هذا الصنف من الناس ما تعلق بجانب المال ، وذلك لما يلاقيه أحدهم من ضغط العامة وكثرة إلحاحهم وشدة احتياجهم . وفي هذا السياق ذكر الأصمعي أن الرشيد أمر خادمه قائلاً : ( ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق .

فأُتِي بها ، فوضعها في يده وخرج ، فانصرف ، ولقيه ابن المبارك فقال : أنا عن هذه الدنانير غني . فقال : إن كان في نفسك منها شيء فتصدق بها ، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدق بها )[17] .

 ولظهور هاتين السمتين الجليلتين في حياة هذا الصنف من الناس ، انظر إلى هاتين الشهادتين الجليلتين : أورد الحافظ ابن كثير في سياق ترجمته للأوزاعي ما نصه : ( وتأدب بنفسه ، فلم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار وغيرهم أعقل منه ، ولا أورع ، ولا أعلم ، ولا أفصح ، ولا أوقر ، ولا أحلم ، ولا أكثر صمتاً منه ، ما تكلم بكلمة إلا كان المتعيّن على من سمعها من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنها )[18] .

وقال الحسن بن الربيع : ( ما رأيت أورع من أبي إسحاق الفزاري ؛ هو أفضل من معمر )[19] .

- الحلم والتواضع : وهما خصلتان مُمَكِّنتان للعبد من الاتزان والتُّؤَدة ، والرفق واللين ، وسعة الصدر واحتمال دواعي الغضب ، والتبسم وطيب المحيا وإظهار البشاشة ، والخلطة الواعية للناس بكافة مستوياتهم وأطيافهم ، وحسن الإنصات لهم وسماع همومهم وقضاياهم ، والبدار بقدر المستطاع إلى معونتهم وحل مشكلاتهم ، مع الستر عليهم ، وترك الحديث غير المسؤول عن قضاياهم . وقد كان هذا جليّاً في حياة أرباب هذا الشأن .

يقول عطاء بن مسلم : قلت لأبي إسحاق الفزاري : ( ألا تسب من ضربك ؟ قال : إذاً أحبه )[20] ، وقال : صدقة بن عبد الله : ( ما رأيت أحداً أحلم ولا أكمل ولا أجمل من الأوزاعي )[21] .

وقال ضمرة : ( صليت إلى جانب الأوزاعي بمكة ، فلما قام حرّكني ، فذهبت معه إلى منزله ، فأتانا بثريد عليه فول مسلوق ) [22] .

- الجود وكثرة التصدق :  فمن لم يكن طويلَ اليد ، كثيرَ الصدقة ، كريماً باذلاً للمعروف ؛ بَغَضَه الخلقُ ، وانجفلوا عنه ؛ إذ الجود مسوِّدٌ للوضيع ، رافعٌ للشريف ، حارسٌ للأعراض ، محببٌ العبدَ لدى الأضداد ، ولذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في هذا السياق : ( لَساداتُ الناس في الدنيا الأسخياء ، وفي الآخرة الأتقياء )[23] .

فالسخاء وكثرة الإنفاق والعطاء صفات لازمة لرجل العامة ، وإلا فكيف له أن يظفر بقبول الناس وينال محبتهم ؟ ولذا فإن الأوزاعي - مثلاً - كان من أكرم الناس وأسخاهم ، إذ صار إليه من خلفاء بني أمية و بني العباس نحو من سبعين ألف دينار ، فما ترك يوم مات سوى ستة دنانير فضلت من عطائه ، كل ذلك كان ينفقه من سبيل الله[24] .

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قال أبي : ( كان خالد الطحان ثقة صالحاً ، من أفاضل المسلمين ، اشترى نفسه من الله أربع مرات ؛ فتصدق بوزن نفسه فضة أربع مرات )[25] ، وعن محبوب بن موسى قال : ( لقيت الفضيل بن عياض فعزَّاني بأبي إسحاق ، وقال : كان والله كريماً )[26] .

- الاحتساب والصدع بالحق : فمن ترك مقولة الحق وداهن الواقع في منكرٍ ، مع علمه وقدرته ، من دون تأوُّلٍ سائغٍ في ترك الأمر والنهي ؛ أغضب الحق وسقط من أعين الخلق ؛ ومن ثَمَّ يكون قد افتقد بتقصيره ذلك أهمَّ عوامل النجاح ومكونات القدرة على توجيه الآخرين وصناعة وجهتهم .

وكلما كان الموقف أرضى للرب ، وأصدع بالحق - كثرة أو جرأة في عقل - وأنصح للأمة وألصق بهمومها وقضاياها ؛ كان أملكَ لقلوب العامة ، وأقدر على ولوجها والتأثير فيها ونيل مودتها .

قال الأوزاعي : بعث عبد الله بن علي ( يعني : السفاح ) إليّ ، فاشتد ذلك عليّ ، وقدِمت ، فدخلت والناس سماطان ، فقال : ما تقول في مخرجنا وما نحن فيه ؟ قلت : أصلح الله الأمير ! قد كان بيني وبين داود بن علي مودة قال : لَتُخْبِرَنِّي ! فتفكرت ، ثم قلت : لأصدُقنّه ، واستبسلت للموت ، ثم رويت له عن يحيى بن سعيد حديث : « الأعمال » ، وبيده قضيب ينكت به ، ثم قال : يا عبد الرحمن : ما تقول في قتل أهل هذا البيت ؟ قلت : حدثني محمد بن مروان ، عن مطرف بن الشخير ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يحل قتل المسلم إلا في ثلاث .. » وساق الحديث .

فقال : أخبرني عن الخلافة ، وصية لنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقلت : لو كانت وصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك علي - رضي الله عنه - أحداً يتقدمه ، قال : فما تقول في أموال بني أمية ؟ قلت : إن كانت لهم حلالاً فهي عليك حرام ، وإن كانت عليهم حراماً فهي عليك أحرم ؛ فأمرني ، فأُخرِجت )[27] .

وقال أبو شعيب : ( قلت لأمية بن زيد : أين الأوزاعي من مكحول ؟ فقال : هو عندنا أرفع من مكحول ، فقلت له : إن مكحولاً قد رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : وإن كان قد رآهم ، فأين فضل الأوزاعي في نفسه ، وقد جمع العبادة ، والورع ، والعلم ، والقول بالحق ؟ )[28] .

وليس الأمر بقاصر على الحسبة على سلاطين الجور ، بل إن ذلك شامل للاحتساب على زيغ العامة وما قد يقع فيه بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة من بدع وانحرافات ظاهرة .

يقول العجلي في صفة أبي إسحاق الفزاري : ( كان ثقة ، صاحب سنة ، صالحاً ، هو الذي أدّب أهل الثغر وعلّمهم السنَّة ، وكان يأمر وينهى ، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه ... أمر سلطاناً ونهاه ، فضربه مائتي سوط )[29] .

وعن أبي مسهر قال : ( قدم أبو إسحاق الفزاري دمشق ، فاجتمع الناس ليسمعوا منه ، فقال : اخرج إلى الناس فقل لهم : من كان يرى القدر فلا يحضر مجلسنا ، ومن كان يرى رأي فلان فلا يحضر مجلسنا ، فخرجت ، فأخبرتهم )[30] .

- الوقار وحسن المظهر : جُبِلت النفوس على التعلُّق بجمال النفس ، ورقة الكلمة ، وحسن الزي ، والسمت الحسن ، والوحشة من ضد ذلك ؛ ولذا لا بد لرجل العامة من ملاحظة رعاية زِيِّه ، وتجميل مظهره ، وتطييب لفظه ، والاتسام بالهدوء والحشمة ، وفي هذا المساق قال زرارة بن أوفى : ( رأيت عمران بن حصين يلبس الخزَّ )[31] .

وورد أن الأوزاعي كان يقول : ( كنا قبل اليوم نضحك ونلعب .

أما إذا صرنا أئمة يقتدَى بنا ؛ فلا أرى أن يسعنا ذلك ، وينبغي أن نتحفط )[32] ، وقال الواصف لسيرته : ( ما رُئي الأوزاعي ضاحكاً مقهقهاً قط ، ولقد كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه ، وما رأيناه يبكي في مجلسه قط )[33] .

وليس هذا فحسب ، بل على المتصدر لقضايا الناس السعيُ لتحصيل الملكة المعِينة على توقِّي ذلك قبل حدوثه . قال محمد بن الأوزاعي : قال لي أبي : ( يا بني ! لو كنا نقبل من الناس كل ما يعرضون علينا ؛ لأوشك بنا أن نهون عليهم )[34] .

أما أبرز خلال النوع الآخر الذي يختص به رجل العامة فهي الآتي :

- الاجتهاد في بذل العلم والنصح للعامة والإجابة عن استفساراتها : لا يكون طالب العلم مبارَكاً حتى يُعْنَى بالإكثار من بذل العلم والجود بالنصيحة ، مستثمراً كل فرصة ، متفنناً في اختيار الوسيلة النافذة إلى قلوب الناس وعقولهم ، فهذا عمران بن حصين - رضي الله عنه - بعثه عمر الفاروق إلى البصرة ليفقِّه أهلها ، فيبذل غاية الوسع في ذلك ، حتى إن الحسن البصري كان يحلف : ( ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الحصين )[35] .

وتدليلاً على ظهور هذه السمة العظيمة في رجل العامة ، قال أبو مسهر : ( حدثني الهقل ، قال : أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة ، أو نحوها )[36] ، وقال أبو زرعة : ( روي عنه ستون ألف مسألة )[37] ، وقال العجلي عن أبي إسحاق الفزاري : ( كان كثير الحديث ، وكان له فقه )[38] .

وقال محمد بن عجلان : ( لم أرَ أحداً أنصح للمسلمين من الأوزاعي )[39] ، فلا يكون المرء مقبولاً من العامة مقدَّماً فيهم حتى لا يألو وُسْعاً في بذل النصيحة ، والعناية بتقديم العلم والدعوة بالسبل الفردية والعامة .

- العناية بخدمة الناس وبذل الوُسع في الشفاعة لهم والقيام بقضاياهم : وهذا الجانب هو الشيء الملموس واللب الظاهر لرجل العامة ، ولن يتمكن المرء من القيام بذلك ما لم يكن لديه احتساب ظاهر ، وزاد عظيم من العلم والصبر والحكمة ، وحسن الفهم ، والتسامح ، والشعور العالي بالمسؤولية تجاه هذه الأمة ،وامتلاك الدافع القوي في إظهار محاسن الديانة ، ورفع الظلم ، وتحقيق العدالة لكل أحدٍ : قريبٍ أم بعيد ، شريف أم وضيع ، مسلم أم كافر .

وأن يرى المنة لله - تعالى - وحده بأن أتاح له مفاتيح إحسان وبوابات أجر[40] ، وجعل الناس واقفين ببابه محتاجين إليه ، ولم يجعله كذلك ، مما يحمله على مزيد استغفار من التقصير ، ويدعوه إلى الاجتهاد في التحلي بمرتبة الشكر .

وهو ما يتطلب منه : معايشةً أكثرَ للناس ، والقيام ببذل النفس ، وإعطاء الوقت ، وعدم ادِّخار السبل والوسائل ، واتخاذ مكان ظاهر يُمْكِن للعامة الوصول بسهولة إليه لعرض مشكلاتهم وطلب قضاء حوائجهم منه .

وقد ضرب الإمام الأوزاعي في هذا الباب أروع الأمثلة ؛ إذ كتب إلى أمير المؤمنين المنصور في فك ألوف من المسلمين أسرى - وكان ملك الروم يحب أن يفادي بهم ويأبى أبو جعفر - واعظاً له ومذكراً . فلما وصل كتابه ؛ أمر الخليفةُ بالفداء .       

وكتب الأوزاعي رسالة إلى الخليفة يطلب منه زيادة أرزاق أهل الساحل لكونهم يحمون الثغر[41] .

وكتب إلى والي الشام ينكر عليه إجلاء جميع أهل الذمة في جبل لبنان حين خرج بعضهم عن الطاعة قائلاً : ( فكيف تؤخذ عامة بعمل خاصة ، فيخرجون من ديارهم وأموالهم ؟ وقد بلغنا أن من حكم الله - عز وجل - أنه لا يأخذ العامة بعمل الخاصة ، ولكن يأخذ الخاصة بعمل العامة )[42] .

وقال أحمد بن أبي الحواري : ( بلغني أن نصرانياً أهدى إلى الأوزاعي جرة عسل ، فقال له : يا أبا عمرو ! تكتب لي إلى والي بعلبك ؟ فقال : إن شئتَ رددتُ الجرة وكتبتُ لك ، وإلا قبِلتُ الجرة ولم أكتب لك . قال : فردّ الجرة وكتب له ، فوضع عنه ثلاثين ديناراً )[43] .

والمتأمل في واقعنا الدعوي اليوم يرى بجلاء حاجة أمتنا إلى رجال عامة تحلَّوْا بهذه السمات العظيمة ، فانبروا لخدمة الناس ، وتحقيق مقاصد الديانة ، والعمل على حفظ سياج الأمة من أن يتصدرها فكرياً أو اجتماعياً زائغٌ يقودها إلى التهلكة ، أو صاحب شهوة ليس له من هدف إلا بناء مجده وسؤدده ، وتحقيق أطماعه ومصالحه ، وتأسيس أعمدة شرفه .

فاللهم ألهمنا رشدك ، وهبنا بمنِّك وجودك ودقيق لطفك وعظيم إحسانك توفيقَك وبركتك ، واستخدمنا في طاعتك ، واجعلنا من الذائدين عن دينك وكتابك وعرض نبيك ، وصلى الله وسلم على النبي المختار ، وعلى الصحب والآل والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .

 


 (1) تاريخ الطبري ، 3/14 .

(2) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1139 .

(3) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/543 .

(4) تاريخ بغداد ، للخطيب ، 8/294 ، ومن الجلي أن وسم بعض أئمة الدين بأنهم رجال خاصة ليس بمنقص من قدرهم ؛ لأنه وإن بزهم غيرهم في جانب قياد المجتمع والتصدر لقضايا العامة ؛ فقد بزوا غيرهم في غيره ؛ لأن المرء قد يكون إماماً فُتِح له في الفقه في الدين ، وقرينه إمام فُتِح له في الزهد والورع ، وذاك إمام فتح له في باب الاحتساب ، وآخر إمام في جانب العطاء والإنفاق ، وكل مسخر لما خُلِق له ، وأكرم العباد على الله - تعالى - أتقاهم له ، وكلٌ على بوابة ثغرٍ ، والأمة محتاجةٌ إلى كلٍّ ، رزقنا الله - تعالى - رضاه وعفوه .

(5) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .

(6) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/279 ، والبارية : بفتح الباء وتشديد الياء : الحصير المنسوج ، فارسي معرب .

(7) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/ 1139 .

(8) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/114 .

(9) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .

(10) حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 8/253 .

(11) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .

(12) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 ، قال الجوهري في الصحاح : 2/61 : (القَتَب ، بالتحريك : رَحْلٌ صغير على قدر السَنام ، والقِتْبُ بالكسر : جميع أداة السانِية من أعلاقها وحبالها) .

(13) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/119 .

(14) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/510 .

(15) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/117 .

(16) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1140 .

(17) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1354 .

(18) البداية والنهاية ، لابن كثير ، 10/115 .

(19) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1353 .

(20) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/543 .

(21) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1139 .

(22) مقدمة الجرح والتعديل ، لابن أبي حاتم ، 217 .

(23) أدب الدنيا والدين ، للماوردي ، 226 .

(24) انظر : تذكرة الحفاظ ، للذهبي ، 1/183 ، محاسن المساعي ، 80-82 .

(25) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1368 .

(26) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1354 .

(27) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/124-125 ، وقد قال الذهبي عقب ذلك : (قلت : قد كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً ، سفاكاً للدماء ، صعب المراس ، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بأمر الحق كما ترى ، لا كخلق من علماء السوء ، الذين يحسنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف ، ويقلبون لهم الباطل حقاً - قاتلهم الله - أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق) .

(28) مختصر تاريخ دمشق ، للطوفي ، 7/111 .

(29) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/540-541 .

(30) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/541-542 .

(31) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/508 ، وقال ابن الأثير في النهاية ، 2/74 ما نصه : (الخز المعروف أولاً : ثياب تنسج من صوف وإبريسم ، وهي مباحة ، وقد لبسها الصحابة والتابعون ،،، وإن أريد بالخز النوع الآخر وهو المعروف الآن فهو حرام ؛ لأن جميعه معمول من الإبريسم ، وعليه يحمل الحديث : " قوم يستحلون الخز والحرير ") .

(32) البداية والنهاية ، لابن كثير ، 10/119 ، وانظر : حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 6/143 .

(33) البداية والنهاية ، 10/116 .

(34) تاريخ الإسلام ، للذهبي ، 1/1140 .

(35) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 2/ 508 .

(36) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 7/111 .

(37) البداية والنهاية ، 10/116 .

(38) سير أعلام النبلاء ، للذهبي ، 8/ 541 .

(39) البداية والنهاية ، 10/116 .

(40) قال القرطبي في تفسيره ، 3/339 : (حكي أن بعض العلماء كان يصنع كثيراً من المعروف ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيراً ، فقيل له في ذلك ، فيقول : إنما فعلت مع نفسي ، ويتلو : ( وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ ) (البقرة : 272) .

(41) انظر : الجرح والتعديل ، للرازي ، 1/193 .

(42) الأموال ، لأبي عبيد ، 440 .

(43) حلية الأولياء ، للأصبهاني ، 6/143 .

 

أعلى