• - الموافق2024/04/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ركائز التدين

ركائز التدين

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على النبي المجتبى ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين ، وبعد :

فإن من تأمَّل في واقع أهل الإسلام اليوم رأى بفضل الله - تعالى – شيوع الخير ، وعموم البر ، واتساع دائرة المعروف في كثير من مناحي الحياة ؛ إلا أن في تلك المسيرة المباركة ظاهرةً مكدِّرة ، تتمثل في اختلاف درجات الاستقامة وتعظيم الحرمة في بعض جوانب الحياة لدى فئات من المتدينين ؛ بحيث تجد المرء الواحد مثلاً - حريصًا على دعوة الآخرين لكنه خَلِيٌّ من بر الوالدين وصِلَة الرحم ، أو عَرِيٌّ مما لا يسعه جهله من أحكام الشريعة ، أو معنيًا بالاحتساب لكنه سيئ الخُلُق عَسِر التعامل ، أو يبدو حريصًا على نوافل العبادات لكنه ذو هشاشة بيِّنة في أداء الحقوق والتعاملات المالية ، أو يُعرَف منه محافظته على الواجبات العينية : من صلاة وصيام وصدقة لكنه لا يشتغل بالواجبات الكفائية ، كتبليغ الدين وبَذْل النصيحة .

وليس الحديث هنا عن وقوع العبد في زلة في هذا الجانب أو ذاك نتيجة غفلة أو فتور يعتريه ؛ إذ ذاك موضع للمجاهدة وميدان للابتلاء ، كما قال الله - تعالى - : } خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ( الأعراف : 199-202 ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : « كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطَّائين التوابون » [1] .

بل الحديث عن ظاهرة تجزئة التدين ، والبَوْن الشاسع المستمر في الأخذ القوي لبعض الكتاب مع الإهمال شبه الكلي لبعضه الآخر ، مع أنه - تعالى - يقول : } يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * فَإِن زَلَلْتُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ( البقرة : 208-209 ) .

ولعل مردَّ تلك الظاهرة الخطيرة إلى أمور عدة ، من أبْرَزِها :

- عناية بعض الدعاة وطلبة العلم بمسألة العلم بأمر الله - تعالى - ونهيه ، مع الضعف البيِّن في العناية بمسألة العلم به - تعالى - من خلال مطالعة أسمائه - تعالى - وصفاته ، ومشاهدة آياته في الأنفُس والآفاق ، مما ولَّد هشاشة في بواعث التدين : من محبةٍ لله - تعالى - وتعظيمٍ لأمره ، وورعٍ في مقاربة حِماه ، ومن إجلال الله - تعالى - ومهابته ، ومخافة التعرض لسخطه وعقابه ، ومن الطمع في ثوابه - تعالى - ورجاء الظفر بدقيق لُطْفه وعظيم إنعامه في الدنيا والآخرة .

وهذا جانب محوري في التدين ؛ إذ من لم يتعرف على جلال الله - تعالى - وكماله ، ويرى آثار ذلك في كل شيء حوله ، ويتغلغل في سويداء قلبه استحقاقُه - سبحانه - لجميع المحامد وصنوف التذلل كلها ، وأن الأمر أَمْره ، ولا حول ولا قوة إلا له ، والخير كله في يديه ، والشر ليس إليه ؛ كيف يستطيع - من كانت تلك صفاته - الانعتاقَ من أسوار الهوى وزُخْرُف الشيطان ومفارقة حصون الشهوة ، ولذا ؛ فإن ظاهرة الفصام النكد بين العلم بالله والعلم بأمره ، والتي تُرى في وقتنا الحاضر بجلاء - واقعًا لا تنظيرًا - في أوساط فئات عريضة من جيل الصحوة وأهل الدعوة ، متى أردنا قوة في أَخْذِ الكتاب وشمولاً في التدين ...

إن هذه الظاهرة لا بد أن تضعف إن لم تتلاشَ ؛ لأنه لن يخشى الله ويتقيه إلا من كان متضلعًا من العلم بالله ، عارفًا بأمره ونهيه ، أما من أغفل الأمرين أو أحدهما على حساب الأمر الآخر ؛ فإنه واقع في هذه الظاهرة ولا بد ؛ إما لأنه لن يقْدُر الله - تعالى - حق قَدْره ، وإما لجهله المريع بأمره - تعالى - ونهيه .

- ارتباط مفهوم التدين لدى كثير من شباب الإسلام بالأعمال الظاهرة على حساب استصلاح القلوب والعناية بأعمالها ، مع أن القلب إمام الجوارح وشريف الأعضاء ؛ بصلاحه تصلح ، وبفساده تفسد ؛ فمتى كان القلب سليمًا ليس فيه إلا محبة الله - تعالى - ومحبة ما يحبه - سبحانه - وخشية الله - عز وجل – وخشية الوقوع في ما يكرهه - تقدست أسماؤه - فمتى كان القلب كذلك صلحت حركات الجوارح كلها ، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتَوَقِّي الشبهات ؛ أما متى كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتِّباع هواه ، فسدت حركات جوارحه ، وانبعث صاحبه إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب قوة اتِّباعه لهواه .

يقول ابن القيم : « من تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها عَلِمَ ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب ، وأنها لا تنفع بدونها ، وأن أعمال القلوب أفْرَض على العبد من أعمال الجوارح ؛ وهل يميَّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قَلْب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما ؟ وهل يتمكن أحدٌ من الدخول في الإسلام إلا بعمل قَلْبِه قبل جوارحه ؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم ؛ فهي واجبة في كل وقت ، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام ، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان ؛ فمركب الإيمان القلب ، ومركب الإسلام الجوارح » [2] .

فالعناية بالقلوب والحرص على سلامتها مدخل الفلاح ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة ، ومن تأمَّل في أحوال الناس اليوم شاهد بجلاء أن العناية بأعمال القلوب لا تتوازى مع جلالتها ، وعلو منزلتها ، وكونها شَرْط النجاة وركيزة التدين ، والمحور الأعظم للإقبال على الله - تعالى - بل إن عامة جوانب الاختلال اليوم في وسط أهل الإسلام بعامة ومعاشر المتدينين بخاصة مردُّها إلى قلة الفقه في هذا الباب .

- التعلق بالدنيا وطَلَبُ راحتها والاشتغال بأعمالها عن الآخرة ، وهو ما أدى إلى تشتُّت هموم القلب ، وإلى عدم عكوفه على الله ، وتفريغه لمحبته ، تعالى .

وهو ما يجعل المرء يخلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا بحسب اختلاف عمق غفلته ومدى قوى الهوى لديه نحو هذا العمل أو ذاك .

والداعي للوقوع في هذا الداء العضال ، هو : ضَعْف الوعي بطبيعة النفس البشرية ووظيفتها ، ومحدوديةُ الإدراك العميق لحقيقة الدنيا والآخرة ، وقلَّةُ البصيرة بعواقب الأشياء ونتائجها ، وعدمُ التحرز مما يمكن أن يكون ؛ وإلا فمن يدرك ذلك : كيف لا يجمع همته على الله ولا ينصرف بكليته إليه ، سبحانه .

وهو يعلم حقارة الدنيا وهوانها ، وعلوَّ منزلة الآخرة وعظيم نعيمها وشديد عقابها وهول الخسارة فيها ؟ إن الانغماس في الدنيا والوقوع في أَسْر ملذاتها من أعظم ما يسوِّغ للمرء الاستقامة على أجزاء من الدين والتفلت من بعضه الآخر ، ويزيد من خطورة هذا الجانب غفلة عامة الخلق عن وقوعهم في إسار الغفلة وأوحالها ؛ فاللهم الهدايةَ والنجاةَ .

- ضَعْف العزيمة ومحدودية الجدية في أَخْذ الكتاب بقوة ؛ تعلُّمًا وتدبرًا وعملاً ودعوة ، وكم فوَّتت دناءة الهمة على صاحبها من فرصة ، وأورثته من تقاصُر ومعصية ؟ إن التعبد بحسب الهوى ، والعُجْب بالعمل ، ورؤيةَ الطاعة اليسيرة ، والوقوعَ في أَسْر الترف أو المعاناة من الفقر ، والتسويفَ في الطاعة ، وضَعْفَ التربية عن البِدار إلى تلقي أوامر الشرع كله للتنفيذ بحسب الاستطاعة ، وضَعْف التواصي بالحق والتواصي بالصبر ، هو ما أدى إلى الإخلاد إلى الأرض والاشتغال بالسفاسف ، واستمراء المعاصي والسيئات ، والاجتراء على الوقوع في المهلكات ، والتواني عن تَحَمُّل المسئولية الشرعية نحو النفس والمجتمع ، والرغبة في الدَّعَة والراحة وإن كان في ذلك مفارقة للشرع .

إن الجدية مقوِّم أصيل من مقومات شخصية المسلم الرزين ، ولن يظفر بالاستقامة الشرعية - كما يجب - شخص غير متحلٍّ بها مهما تظاهر أو زعم .

وإن التواني عن ركوب مطيتها مُورِث للهلكة موقِع في الرَّدَى على الصعيدين ( الشخصي والجمعي ) .

وفي الجملة : فظاهرة تجزئة التدين والتفلت المستمر من بعض جوانب الاستقامة ومظاهرها داء عضال لا بد للخلاص منه من التشبث بركائز التدين ، والمداومة على متابعة الشرع واستهدائه ، والاستعانة بالله - تعالى - على تلافيه ، والعناية بمحاسبة النفس ، والقيام بمفارقة البطالين وأرباب الغفلة ، وملازمة علماء الأمة الربانيين والأخذ عنهم ، وتقوية قنوات التناصح وجسور الاحتساب في أوساط الدعاة والمصلحين متى أردنا التعبد لله بحق ومتانة ، والظفر بسعادة الدنيا والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

فاللهم اهدنا سبيلك ، وبصِّرنا بدينك ، وارزقنا الفقه عنك ، والظَفَر بمرضاتك وأعنا على تعاهد قلوبنا وصيانتها من الأدواء والأهواء ، إنك جواد كريم ، بَرٌّ رحيم ، وصلى الله وسلم على النبي الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .




(1) الترمذي : 2499 ، وحسَّنه الألباني .

(2) بدائع الفوائد ، لابن القيم : 4/ 287 .

 

 

 

أعلى