عندما تذهب السكرة... وتجيء الفكرة

عندما تذهب السكرة... وتجيء الفكرة

 

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:

فقد فجَّر العدوان اليهودي على أرض لبنان المسلمة عدداً من القضايا والتساؤلات والاختلافات على ساحات مختلفة، لكون هذا العدوان جاء من طرف متفَق على عداوته ووجوب محاربته، بينما جاءت المواجهة من طرف مختلَف عليه من حيث أمانته على مصالح الأمة العامة، وتزايد الشكوك حول أجندته الخاصة.

وربما يظل هذا الاختلاف قائماً لأمد غير قريب، حتى تُظهر الأحداث الواقعة على الأرض، ما تخفيه الخطط والتدابير، مما هو مغيَّب مستور؛ فهذا شأن الفتن:

إذا أقبلت لا يعرفها إلا العقلاء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس. والفتنة هنا تتلخص في أن (حزب الله) هو صناعة إيرانية خالصة في أهدافها ووسائلها وإمكانياتها، ولا يكاد يجادل في ذلك إلا مكابر. وقد أدرك العارفون من خاصة وعامة أن الدولة الإيرانية لم تكن يوماً أمينة على مصالح الأمة بشكل عام؛ فالأمانة لا تتجزأ ولا يمكن أن تُخلِص إيران للأمة في لبنان بينما هي تخونها في العراق و أفغانستان، ولا يمكن في الوقت نفسه أن يقاتل الإيرانيون أعداء الأمه - لصالح الأمة - في لبنان، بينما يقاتلون إلى جوار أعدائها في العراق وأفغانستان.

ومما زاد في الفتنة والالتباس أن ما يعرف بـ (المقاومة اللبنانية) اليوم، هي نفسها التي زرعتها إيران وأحلَّتها محل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان بدءاً من عام 1982م، وشارك الشيعة من خلال (منظمة أمل الشيعية) في حرب المخيمات ومجازر صبرا وشاتيلا، في محاربة الفلسطينيين واقتلاعهم من الجنوب اللبناني بالتحالف مع النصارى والنصيريين الذين يحكمون سورية. واليوم يرفع شيعة لبنان شعار (تحرير جنوب لبنان) على أنقاض شعار (تحرير كل فلسطين) الذي أُنهِيَ بإخراج المقاومة الفلسطينية (حركة فتح) من الجنوب اللبناني بعد تشتيتها في تونس و اليمن و السودان؛ حيث لم تعد بعدها إلا رافعة الراية البيضاء مكان راية النضال والفداء، سالكة دروب الاستسلام من مدريد إلى أوسلو. ولم يكن هذا الدور التآمري الواضح ضد الفلسطينيين بالاشتراك مع اليهود والنصارى والنصيرية؛ إلا لقطع الطريق على المشروع الجهادي الفلسطيني السُني، لحساب المشروع اللبناني الشيعي، ليبقى الشيعة في واجهة القضية الإسلامية الكبرى في عالم اليوم، وهي قضية فلسطين. لكن أقدار الله تعالى جاءت على عكس ما يشتهي المتآمرون؛ حيث انبعثت من داخل فلسطين مقاومة جديدة سنية، مارست خلالها منظمة حماس مقاومة حقيقية تحت راية نقية لا تتخفى وراء تقية أو أجندة خفية.

وللحقيقة فإن اختلاف الناس في شأن الحرب التي اندلعت بين دولة اليهود المعتدية وبين (حزب الله) لم يأت من فراغ... فالمتعاطفون معذورون؛ لأنهم لم يروا من كل الدول المحيطة بدولة الأعداء الصهاينة من ينكي فيهم بهذا الشكل من الإقدام والجرأة رغم ما لدول المواجهة تلك من جيوش جرارة على الحدود، تقف وراءها جيوش جرارة أخرى خلف الحدود، لها من الإمكانيات الإضافية ما كان يكفي للتنكيل بهذا العدو الجبان على مدى أكثر من خمسين عاماً أضعاف أضعاف ما حدث على أيدي المقاتلين من شيعة لبنان رغم ضعف قوتهم وضعف معداتهم مقارنه بقوات ومعدات تلك الجيوش.

- أما المحذِّرون المتحفظون فهم يرفضون ابتداءً الطغيان الصهيو أمريكي في المنطقة، ويدركون أبعاد مشروع الشرق الأوسط الكبير ثم الجديد، ويوجبون مقاومته بكل ألوان المقاومة، ويفرحون بكل نكاية تثخن العدو وتزيد من جراحه وآلامه؛ ويرفضون أيضاً استهداف لبنان بالتدمير الوحشي الذي أهلك الحرث والنسل، كما يرفضون سلبية الأنظمة العربية وعجزها.

- وهؤلاء المحذرون المتحفظون لديهم قناعة راسخة بطغيان اليهود واستكبارهم ونقضهم للعهود والمواثيق، ويدركون أن لغة القوة هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الأعداء؛ فالضعفاء والعجزة لا مكان لهم في ظل شريعة الغاب.

- ومع تحذيرهم من الانسياق الكامل وراء العواطف والظواهر فإنهم معذورون؛ لأنهم لم يستطيعوا تجاهل الحقيقة القائلة بأن دماء مئة ألف من أهل السنة التي تراق في العراق على أيدي أولياء إيران في العراق لم تلقَ أي إدانة من أولياء إيران في لبنان.

- وهم معذورون كذلك عندما يرون أن هناك مزايدة واضحة على المجاهدين الحقيقيين المخلصين للأمة سواء كانوا في فلسطين أو العراق أو أفغانستان؛ فبينما كان موقف المقاومة اللبنانية الشيعية مخزياً من المقاومة الإسلامية في العراق حتى قال (نصر الله) عنهم إنهم (صداميون تكفيريون)؛ فإنه أيضاً - أي نصر الله وأتباعه - لم يُعرَف لهم موقف تضامني واضح من المقاومة الفلسطينية غير الشعارات والتصريحات التي قصارى ما تفعله في النهاية أن تصور المقاومة اللبنانية على أنها هي القدوة والمثل الأعلى للمقاومة الفلسطينية، كما ردد زعيم ( حزب الله) غير مرة.

- والمحذِّرون المتحفظون معذورون أيضاً وهم يرون أن (النعرات الطائفية) التي ينادي بعضهم بعدم إثارتها مع (إخوانهم الشيعة) لم يثرها إلا هؤلاء المتشيعون، ليس بالكلمات والتصريحات فقط، وإنما بالاغتيالات والتحرشات والتحالفات مع كل الأعداء ضد مخالفيهم في الفكر والمذهب، دون أن تكون هناك أي مبادرة لإيقاف هذه النعرات من إيران، ولا ممن يأتمر بأمر إيران.

- والمحذرون المتحفظون معذورون كذلك وهم يرون خيوطاً واضحة تربط بين توقيت ما حدث في لبنان، مع توقيت ما يحدث في العراق ولبنان؛ حيث غطت غيوم تلك الحرب على أخطر ملفات المرحلة الراهنة وهي ملف اغتيال الحريري والملف النووي الإيراني وملف (التطهير) العرقي في العراق، وكلها ملفات تصب فقط في مصلحة الطائفة الشيعية إماميةً كانت أو علوية (نصيرية).

- والمحذِّرون المتحفظون أيضاً معذورون وهم يشاهدون ويسمعون ويفهمون بما يصل إلى اليقين، أن منظومة الفكر الشيعي هي منظومة مناوئة لأهل الحق في الأمة بدءاً من أبي بكر و عمر و عثمان و عائشة و حفصة وغيرهم من عموم الصحابة رجالاً ونساءً رضي الله عنهم أجمعين إلى حد تكفيرهم والمناداة بالبراءة منهم ومن تابعيهم، ومن سار على نهجهم من أهل السنة في كل مكان بزعم أنهم ( النواصب) أعداء أهل البيت، مع التوعد الشديد والأكيد بالثأر والانتقام منهم رجالاً ونساءً، أمواتاً وأحياءً... هذه المنظومة الفكرية المنحرفة بل الموغلة في الانحراف والابتعاد هي هي... نعم! هي هي المنظومة الفكرية نفسها التي يدين بها ويعمل لها شيعة اليوم ومن ضمنهم منسوبو (حزب الله)، هؤلاء الذين اختطفوا لأنفسهم تسمية قرآنية، حسم القرآن أوصاف حامليها، ملخصاً إياها في قول الله تعالى: }إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ { (المائدة:55-56).

فالذين (يتولون) الله ورسوله والذين آمنوا - وعلى رأسهم الصحابة - هم حزب الله، ولا يمكن أن ينطبق وصف (حزب الله) على الذين (يتبرؤون) من الذين آمنوا وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم هذا منطق القرآن الذي لا يُقْبَل تجاوزه او الجدال فيه.

- والمحذِّرون المتحفظون يخافون على الأمة من أن يتحول الانبهار بـ (بطولات ما يعرف بـ « حزب الله ») إلى انبهار بالمنظومة الفكرية التي يتبناها ويعمل لحسابها هذا الحزب؛ وفي هذا ما فيه من خطر يعلم الجميع ضرره الفادح، وهو خطر المد الفكري الشيعي الذي يُتَوَقَّع أن ينتعش بعد انتهاء الحرب؛ حيث ستنحسر آثارها العسكرية عن آثار فكرية سيحرص القوم على استغلالها واستثمارها. والتاريخ يثبت في القديم والحديث أنه ما من بطولة شخصية، حقيقية كانت أو وهمية، إلا وتحولت في الغالب إلى (منظومة) فكرية أو روَّجت لها، هذا ما حدث مع (كمال أتاتورك) الذي مهدت بطولاته المزيفة للقومية الطورانية والفكرة العلمانية في الديار التركية، وهو ما حدث أيضاً مع ( جمال عبد الناصر) الذي ساهمت بطولاته الوهمية أو المضخَّمة في دفع فكرة القومية العربية، ويقال مثل هذا أيضاً عن (هتلر) والنازية، و (ستالين) والشيوعية، و (الخميني) والأفكار الثورية الشيعية، ونحو هذا كثير.

- والمحذِّرون المتحفظون، يشفقون على الأمة من أن تقع في إثم خذلان المجاهدين الحقيقيين في فلسطين والعراق و الشيشان وأفغانستان وغيرها؛ أولئك الذين لن يضرهم - بإذن الله - من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك قائمون، فهؤلاء هم الأبطال حقاً، وهم أنصار الدين حقاً، وهم حزب الله حقاً، شرعاً وعقلاً؛ لأنهم هم الذين يجاهدون ويبذلون ويضحون، دون حسابات خاصة، ودون تبعية أو عصبيه لأية حمية، عنصرية كانت أو مذهبية، ودون أن تكون وراءهم أيضاً قوة دولية أو إقليمية أو محلية، تقف معهم أو تدربهم أو تسلحهم أو تمولهم، ودون أن يكون لهم ظهير ونصير غير الله تعالى، في عالم يتنكر لهم، وعامةٍ لا تعرف قدرهم، وخاصةٍ قلما تنتصف لحقهم. إن أولئك الأحرار الأبرار، هم أرباب البطولة الحقة الذين أرغموا أنف العدو الكبير - أمريكا - التي تساند العدو الحقير الصهاينة دون أن يكون لهم جيش ولا دولة ولا أرض ولا مصدر دائم للإعداد والإمداد.

- والمحذرون المتحفظون - مع ذلك كله - يرون المبادرة إلى إغاثة المنكوبين المستضعَفين، ومدّ يد العون للشيوخ والنساء والأطفال، وتخفيف جراحاتهم ومعاناتهم؛ فرفع الظلم مطلوب شرعاً.

ستذهب السكرة وتجيء الفكرة، وعندها:

- سيرى الناس أن هذه الحرب قد خطط لها طرفان رئيسان، هما المستفيدان الوحيدان مما جرى بسببها من دمار وخراب:

الطرف الأول: هم الأمريكيون الذين قال مسؤولوهم: إن هذه الحرب، هي البداية لتشكيل (الشرق الأوسط الجديد) الذي يريدون فيه تأمين قاعدتهم العسكرية الكبرى (في الأرض المحتلة).

والطرف الثاني: هو إيران التي أرادت أن تشغل العالم عن مخططها الإجرامي في العراق، وعن برنامجها الرامي إلى امتلاك السلاح النووي في أقرب وقت ممكن؛ حيث اشترت وقتاً ثميناً بهذه الحرب، وتركت للشعب اللبناني دفع فاتورته من دمائه وأمواله واستقراره ومقدراته.

وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة:

- سيكتشف الناس أن أحداث لبنان، ما كانت إلا بداية لمرحلة جديدة من مشروع مد شيعي قديم جديد، يريد ضم لبنان إلى هيمنة إيران، مثلما حدث في العراق ليتحقق بذلك ما سبق أن خطط له أصحاب مشروع (إيران الكبرى) الممتدة من البحرين إلى حدود فلسطين، في هلال شيعي يسمح بتطويق الجزيرة العربية مهد الإسلام الصحيح.

وعندما تذهب السكرة وتجيء الفكرة:

- سيعلم الناس أن هناك مشروعين يتنافسان على قيادة الأمة نحو التغيير:

أحدهما: يقوم على الحق والسُّنة، والآخر: يقوم على الباطل والبدعة، وأن المشروع الأول الذي أُسِّس على الحق من أول يوم، هناك إصرار على الإضرار به، والتغطية عليه لحساب (مشروع الضِّرار) الآخر المشيَّد على أنقاض أعراض الصحابة، حَمَلَة الدين، وواسطة الرسالة، وسادة أهل الجنة بعد الأنبياء.

إن الحق أبلج والباطل لجلج، وحُق لقوم جعلهم الله شهداء على الناس ليكون الرسول عليهم شهيداً ألا يضيع الحق فيهم، انسياقاً وراء العواطف، والتفافاً على الصواب، بما يسوِّغ في الناس تعظيم البدعة، وتوهين السنة مع من يحمونها من مجاهدين وعلماء ومصلحين، تطاولت عليهم الألسن التي تقاصرت عن غيرهم من الذين لا يُرجى نفعهم ولا يُتوقع إخلاصهم للسواد الأعظم من الأمة.

فاللهم ألهمنا رشدنا، واهدنا سواء السبيل، وثبتنا عليه حتى نلقاك، غير خزايا ولا مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين... آمين!

:: البيان تنشر - مـلـف خـاص- (الـخـطـر الإيـرانـي يـتـمـدد)

أعلى