ما هي الدوافع الاستراتيجية من عملية الإنزال الصهيونية في سوريا، وما هي الخيارات التي سلكها النظام السوري الجديد في التعامل مع تلك الأزمة المتواصلة، والتي يواجهها منذ وصوله إلى حكم سوريا في الثامن من شهر ديسمبر في العام الماضي.
استمرارًا للتدخل الصهيوني في الشأن السوري عقب وصول حكومة الشرع إلى السلطة، والذي
بدأ يأخذ أبعادًا فجة، شهدت سوريا تصعيدًا نوعيًا في العمليات العسكرية الصهيونية.
وطالت منطقة الكسوة جنوب دمشق، عملية نوعية جديدة لجيش الاحتلال الصهيوني، شملت
غارات جوية مكثفة تلتها عملية نادرة لإنزال قوات على الأرض، أسفرت عن استشهاد من
ستة إلى ثمانية جنود سوريين وتدمير مواقع عسكرية.
هذا الإنزال يعكس دوافع استراتيجية متعددة لإسرائيل، مرتبطة بالتغييرات السياسية في
سوريا بعد غياب النفوذ الإيراني البارز، والتي كان الكيان الصهيوني يتحجج بها في
غاراته على سوريا زمن بشار الأسد.
وهو يطرح العديد من
التساؤلات.
في البداية لابد لنا من تحليل ما جرى فعلا في تلك العملية الصهيونية:
قصف وإنزال
تشير التقارير الإعلامية والتي أذاعتها الفضائيات المختلفة، إلى أن سبب الإنزال
الصهيوني في منطقة الكسوة بريف دمشق مرتبط باكتشاف الجيش السوري لأجهزة مراقبة
وتنصت تابعة للكيان في المنطقة.
ووفقًا للرواية السورية، والتي أكدتها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)،
ومصادر عسكرية سورية أخرى وذكرتها قناة الجزيرة وموقع العربية نيوز، أن هذه العملية
بدأت عندما عثرت عناصر من الجيش السوري على عدد من أجهزة التجسس والتي زرعها الكيان
بالقرب من جبل المانع والمطل على بلدة الكسوة في ريف دمشق.
وطبقًا للمصادر الصحفية التي كانت تغطي ما يجري، فقد عثر عناصر من الجيش السوري على
أجهزة المراقبة والتنصت الإسرائيلية خلال جولة ميدانية بالقرب من جبل المانع. ولكن
لم تقدم التقارير الصحفية تفاصيل دقيقة عن كيفية اكتشاف الأجهزة، بل اكتفت بالقول
إنها كانت جزءًا من عمليات دورية روتينية يقوم بها الجيش السوري في المنطقة.
وتستمر الرواية السورية في القول، أنه عند محاولة الجانب السوري التعامل مع تلك
الأجهزة، تعرض الموقع لهجوم جوي من جيش الكيان، أسفر عن مقتل عدد من الجنود
السوريين.
وبعدها، استمرت الطائرات الصهيونية في استهداف المنطقة لمنع الوصول إليها، قبل أن
تقوم طائرات مروحية تابعة للجيش الصهيوني بإنزال عشرات الجنود الذين بقوا لأكثر من
ساعتين، وفق قناة الحدث.
بينما تتحدث المصادر الصهيونية عن أجهزة التجسس تلك، وتوضح أن هذه الأجهزة كانت
بالغة الأهمية بالنسبة للكيان، مما دفع قواته للتدخل على الأرض لضمان تفكيكها ومنع
وقوعها في أيدي الجيش السوري.
كما كشف مسؤول أمني صهيوني لقناة الحدث، لم يذكر اسمه، أن العملية أسفرت أيضًا عن
تفكيك أجهزة تركية زرعت في المنطقة للتجسس على "إسرائيل" كما يقول.
وشدد المصدر الصهيوني، على أن الإنزال قرب دمشق كان ضروريا جدا لأمن "إسرائيل"،
موضحاً أنه تم خلاله استعادة معدات سرية وخطيرة.
وقال: "لقد حذرنا إدارة الشرع من اللعب بالنار والاستماع لأوامر تركيا"، مضيفاً إلى
أن تركيا تحاول الاقتراب منا أكثر مما ينبغي، وفقاً لتصريحاته.
وأشار إلى أنه تم تحذير الإدارة السورية سابقاً بعدم اختبار صبر "إسرائيل" أو
محاولة اختبار حدود العمليات "الإسرائيلية"، على حد تعبيره.
ولكن هذا المصدر الصهيوني كشف عن مفاجأة في نهاية تصريحاته، إذ قال إن الأجهزة التي
تمت استعادتها من ريف دمشق، تتواجد بتلك المواقع منذ أكثر من ١٠ أعوام.
أي أن التجسس الصهيوني، كان قائمًا منذ وجود النظام السوري السابق بزعامة بشار
الأسد قبل سقوطه في الثامن من ديسمبر الماضي.
|
يقول المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك: أن" إسرائيل" تغيرت بعد هجمات
7 أكتوبر ولم تعد تعترف بالحدود التقليدية. مؤكدًا أنها ستتخذ أي إجراءات
تراها ضرورية لحماية أمنها ومنع تكرار الهجمات وسيذهبون متى يريدون وأينما
يريدون |
ولكن هناك رواية أخرى نقلاً عن مواقع وصفحات قريبة من الحكومة التركي، تعززها
ممارسات تركية سابقة.
تقول هذه الرواية، إنه منذ أشهر نقلت الاستخبارات التركية للجيش السوري معلومات
دقيقة عن شبكة تنصت متكاملة زرعها الكيان على سفوح جبل المانع، مرتبطة بخلايا أخرى
في عمق سوريا.
لكن بدلاً من كشفها فوراً، اختارت دمشق وأنقرة اللعب بالنار حتى النهاية.
وكما تقول هذه الرواية، إن أجهزة التجسس الصهيونية لم تُمسّ، بل استُخدمت لتسريب
معلومات مضللة ومقصودة.
وفي حين إن الكيان كان يظن أنه يملك عينًا خفية على الأرض السورية، إلا أنه كان في
الواقع يتعرض لعملية تضليل.
وحين أدرك الكيان أن بياناته لا تتطابق مع الواقع الميداني، وأن هناك خللاً غير
مفهوم في شبكة التنصت، وقتها فقط استوعب الحقيقة، وأن أجهزة التجسس بالكامل تم
اختراقها.
هنا اندفع الكيان الصهيوني وفق هذه الرواية بجنون في 16 غارة متواصلة، وإنزال جوي
قرب تل المانع، في محاولة يائسة لاستعادة الأجهزة أو تدميرها.
ولكن هل يكفي مبرر استعادة أجهزة التجسس الصهيونية للكيان لكي يقوم بهذه العملية
وبهذه الصورة؟ أم أن الموضوع له أبعاد أخرى؟
الكيان والدوافع
يجمع المراقبون على أن هناك تغيرًا ضخمًا قد حدث في مفاهيم الأمن القومي للدولة
الصهيونية، والتي تعرضت لهزة عميقة بعد اندلاع طوفان الأقصى.
هذه التغيرات هي أحد أكبر الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني للقيام بتلك العملية
وما سبقها من عمليات طالت أنحاء عديدة من سوريا، خاصة بعد وصول منظومة جديدة تعبر
عن طموحات الغالبية العظمى من الشعب السوري، وتمثل هويته وآماله في استعادة دور
الشام القيادي في الأمة الاسلامية.
ولم يخف قادة الكيان تلك الدوافع، ففي خطاب ألقاه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين
نتنياهو، أمام المجتمع الدرزي داخل الأراضي المحتلة، وسط خلفية لافتة كتب عليها
شعار حياة الدروز تهمنا، حيث تطرق إلى العلاقات الإقليمية والمخاطر المحيطة، قال
الرجل: "أنا لست ساذجًا؛ أعلم تمامًا من نتعامل معه"، في إشارة واضحة إلى الرئيس
السوري أحمد الشرع والذي يعتبره من أكبر التهديدات الإقليمية المحتملة.
ومن قبله في يناير 2025، وصف وزير الخارجية الصهيوني غيدعون ساعر النظام السوري
بأنه "جماعة إرهابية من إدلب سيطرت على دمشق"، مشددًا على أنه "نظام إسلامي" لا
يُمكن الثقة به، وأن العالم يتعامل معه فقط لتسهيل عودة اللاجئين. وأضاف ساعر أنهم
جهاديون وبقوا جهاديين، حتى لو لبس قادتهم بدلات".
ومن شهر مضى فقط، دعا وزير الشتات أميخاي شيكلي إلى "تصفية" الشرع فورًا، واصفًا
إياه بـ"الإرهابي النازي الإسلامي في بدلة وربطة عنق"، وأنه "قاتل بربري يجب القضاء
عليه دون تأخير".
وفي أحدث دراسة صادرة من الكيان منذ يومين فقط، ونشرها مركز القدس للشؤون الأمنية
والسياسية الخارجية، ومقره في فلسطين المحتلة، وصفت تلك الدراسة النظام السوري
الجديد، بأنه يعتمد "أيديولوجية هجينة خطيرة جديدة، وأطلقت عليها "الجهادية الجديدة".
وتشرح الدراسة هذا المصطلح بأنه يجمع بين الإسلام السياسي، والعنف الجهادي،
والاشتراكية الاستبدادية، مما يجعله "أكثر تكيفًا وخبثًا"، على حد وصف الدراسة.
وهناك غيرها من عشرات التصريحات، والتي تعكس موقفا أيدولوجيا ضد الحكومة السورية
الجديدة، وعدم ثقة في أن سلوك حكومة الشرع سيكون موافقا وفي نفس مسار بقية دولة
الطوق، في الحفاظ على أمن الكيان الغاصب.
ولكن هذه العربدة العسكرية التي يمارسها الكيان على الأراضي السورية، تقابل بسكوت
وربما تأييد من المسئولين الأمريكيين.
يقول المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك: أن" إسرائيل" تغيرت بعد هجمات 7 أكتوبر
ولم تعد تعترف بالحدود التقليدية. مؤكدًا أنها ستتخذ أي إجراءات تراها ضرورية
لحماية أمنها ومنع تكرار الهجمات وسيذهبون متى يريدون وأينما يريدون.
وهذا معناه أن الولايات المتحدة تعطي غطاء أمنيا وضوءًا أخضر للقيام بما يلزم من
عمليات عسكرية وتوغلات بما يراه الكيان أنه يمس الأمن القومي لدولته، وخاصة أن
المصالح الأمريكية غير متضررة من هذه العمليات.
فأمن الكيان الصهيوني هو أحد ركائز ثلاثة، استند عليها الغرب في بقاء هيمنته على
المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، والركيزتان الأخريان تتعلق أحدهما
بتقسيم المنطقة، والأخرى بإيجاد نظم أو تطويع النظم الموجودة بما تضمن بقاء هيمنة
الغرب، وورثت أمريكا تلك السياسة الغربية.
خيارات الحكومة السورية
هناك عدة
مسارات للحكومة السورية شرعت في سلوكها للتصدي لهذا الصلف الصهيوني:
المسار الأول، تعزيز التعاون مع تركيا، خاصة إذا صحت النظريات والأخبار التي تتحدث
عن أن التعاون التركي السوري كان وراء تفكيك أجهزة التجسس والتنصت الصهيونية.
فهذا التعاون يمكن اعتباره أول ترجمة عملية لتصريح المسئولين الأتراك المتوالية،
والتي تعبر عن غضبهم من العربدة الصهيونية في سوريا، وأنهم سيقفون بالاشتراك مع
السوريين في التصدي لها.
وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية التركي حقان فيدان في تصريحاته مؤخرا، والتي أشار
فيها بوضوح إلى مساعي دولة الاحتلال المستمرة لإدخال جميع دول المنطقة في حالة
فوضى، وأن السياسات العدوانية للكيان تجاوزت حدود غزة إلى القدس والضفة الغربية
وسوريا وإيران ولبنان.
وأضاف فيدان: أن "اسرائيل" لا تريد دولة سورية جديدة قوية، وقال بالحرف "لكننا لن
نسمح باستمرار تلك السياسات "الإسرائيلية" فتركيا لن تسمح باستغلال مكونات سوريا
العريقة والأصيلة من قبل أي طرف لتحقيق مآرب تمس وحدة البلاد".
أما المسار الثاني الذي سلكته دمشق للتعامل مع الكيان، هو محاولة إحياء الدور
الروسي في سوريا، وهذا يبدو مكلفًا للجانب السوري ولكنه أقل خطورة من التدخل
الصهيوني.
وآخر هذه المسارات، محاولة الحكومة السورية التلويح بالتعاون مع إيران، ولعل
الانفتاح على الحكومة العراقية واستقبال الشرع لرئيس المخابرات العراقي والمعروف
عنه أنه رجل إيران في العراق، فكل هذه الإشارات يلوح بها الشرع في تعامله مع أوروبا
وأمريكا، أنكم لستم الخيار الوحيد في التعامل، فهناك روسيا بل هناك إيران أيضًا،
إذا لزم الأمر.