" إسرائيل " ورهاناتها المحدودة في مواجهة غزة

 

رغم التصعيد الأخير، لا يبدو أن " إسرائيل " معنية بفتح جبهة مع حركة حماس في قطاع غزة. الغارات الصهيونية التي استهدفت مناطق متفرقة في القطاع في أعقاب مقتل أحد جنود الاحتلال هدفت بشكل أساسي إلى الحفاظ على الردع في مواجهة الحركة. فقد حرص المتحدثون باسم الحكومة الصهيونية على نقل رسائل مفادها بأن تل أبيب غير معنية بالتصعيد، وأعادت حكومة نتنياهو فتح المعابر التجارية بين " إسرائيل " والقطاع. تدرك " إسرائيل " أنه لا يمكن إنهاء التهديد الذي تمثله غزة بدون إعادة احتلالها بشكل كامل، وهذا ما لا يؤيده القادة الصهاينة، باستثناء وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان بسبب كلفته العسكرية والبشرية والسياسية الهائلة. من هنا، فإن صناع القرار في تل أبيب يدركون أنه يتوجب الامتناع في الظروف الحالية عن أية خطوة يمكن أن تدفع إسرائيل نحو الغرق في المستنقع الغزي. لا تبدي القيادة الصهيونية حماساً للانشغال بقطاع غزة في الوقت الذي تحاول فيه اقناع القوى العظمى بتبني مواقفها من البرنامج النووي الإيراني تمهيداً للمفاوضات التي ستبدأ بينها وبين إيران بعد أربعة أشهر بشأن الاتفاق النهائي. علاوة على ذلك، فإن قطاع غزة لا يقع على رأس أولويات حكومة نتيناهو في الوقت الذي تضطرب فيه الضفة الغربية ويزداد التوتر على الحدود مع سوريا ولبنان، بفعل الأنشطة المتعاظمة للحركات الجهادية. لكن ما يقلق الصهاينة حقيقة إن حركة حماس تستغل فترة الهدوء الحالي في مراكمة قوتها العسكرية وتحسين منظومتها الصاروخية وزيادة مدى قذائفها لتصل إلى منطقة وسط إسرائيل. وحسب المعلق الصهيوني عاموس هارئيل فأن حركة حماس " تستغل الزمن بذكاء لتقوية نقاط ضعفها " تمهيداً للمواجهة القادمة. وهناك عامل آخر يقلص من الحماس الصهيوني لشن عدوان على القطاع ويتمثل في خشيتها أن تؤثر مثل هذه العملية سلباً على حكومة الانقلاب في مصر. فعلى الرغم من أن إسرائيل تعي حجم العداء الذي تكنه سلطة الانقلاب للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ومع أنها ترصد الإجراءات التي قامت بها ضد المقاومة، إلا أنها تخشى في الوقت ذاته أن تؤدي عملية عسكرية إسرائيلية إلى إحراج الانقلابيين، وإظهارهم كشركاء للصهاينة في الفعل ضد المقاومة الفلسطينية، مما يشكل مساً إضافياً بشرعية الانقلابيين. قد لا تكون سلطة الانقلاب معنية بهذا الاعتبار أصلاً، لكن الحرص الإسرائيلي على عدم إفشال الانقلاب تجعل القيادة الصهيونية تضبط سلوكها بشكل لا يمس بشرعيته. ولا حاجة هنا للتذكير بالجهود التي بذلتها وتبذلها "إسرائيل" من أجل ضمان شرعية دولية للانقلاب. وعلاوة على ذلك، فإن "إسرائيل" ترى في الجهود التي تقوم بها سلطة الانقلابيين ضد المقاومة، سيما محاربة الأنفاق سبباً لتقليص مبررات شن العدوان على القطاع، على اعتبار أن من شأن هذه الجهود أن تحد من إمكانيات المقاومة على صعيد التسليح.  وفي ذات السياق، تخشى إسرائيل أن تحرج عملية كبيرة في قطاع غزة الدول العربية التي يمكن وصفها بمحور الاعتدال، والتي تعاظمت مظاهر التقاء المصالح بينها وبين الكيان الصهيوني. إن "إسرائيل" تبدو معنية تماماً بالحفاظ على الظروف التي تضمن تواصل التقاء المصالح بينها وبين الأنظمة الحاكمة في هذه الدول، ومما لا شك فيه أن شن عمل عسكري على القطاع يقلص من قدرتها على استغلال التقاء المصالح هذا. أن المؤسستين الأمنية والسياسية في "إسرائيل" تنطلقان من افتراض مفاده أن مواجهات عسكرية بين المقاومة وجيش الاحتلال ستكون حتمية في المستقبل، عندما تتغير الظروف التي تسمح بذلك.

المطالبة بتصفية إسماعيل هنية

السلوك الرسمي الصهيوني تجاه قطاع غزة لم يرق لكثيرين من أركان النخبة الأمنية والسياسية في الكيان الصهيوني، فهؤلاء لم يقتنعوا بالمسوغات التي تدفع عن التهدئة مع القطاع. أحد هؤلاء هو الجنرال تسفيكا فوجل. فقد دعا فوجل حكومة بنيامين نتنياهو لاستخلاص العبر من الحرب التي تخوضها حكومة الانقلابيين في مصر ضد الحركات الإسلامية وتطبيقها في الحرب ضد حركة حماس، مطالباً بتصفية رئيس حكومة غزة إسماعيل هنية. وانتقد فوجل، القائد السابق لهيئة قيادة المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي سلوك الحكومة الإسرائيلية تجاه قطاع غزة، متهماً إيها بالتردد. فحسب فوجل، فأنه كان يتوجب قصف منزل هنية وزملائه في قيادة حركة حماس فوراً بعد عملية القنص التي أسفرت عن مقتل الجندي الصهيوني، معتبراً أن هذا التصرف ضروريا من أجل الإظهار لـ " العدو أننا عازمون على الدفاع عن أنفسنا بكل السبل ". ويصل فوجل، إلى حد القول أن تصفية هنية يمكن أن توظف في استدراج حماس إلى مواجهة تسمح لإسرائيل باستغلال تفوقها العسكري في القضاء على الحركة وإسقاط حكمها بشكل نهائي في القطاع. وهناك من النخب العسكرية الصهيونية من يتفق مع فوجل في الدعوة إلى تكثيف عمليات الاغتيال ضد الحركة، لكن بدون السعي للسيطرة على قطاع غزة.  وزير الحرب الصهيوني الأسبق شاؤول موفاز قال انه يتوجب تكثيف عمليات الاغتيال عن طريق الجو وعبر توظيف الطائرات بدون طيار من أجل " حصد أكبر عدد من رؤوس قادة حركة حماس "، معتبراً أنه ليس " من الحكمة التسليم ببقاء قطاع غزة قاعدة للعمل ضد "إسرائيل"، هذا الواقع يجب أن ينتهي ". وتوقع موفاز أن تكون خسائر "إسرائيل" في المواجهة القادمة أكبر، زاعماً أن حماس تواصل حفر الأنفاق وتصنيع الصواريخ من أجل أن تكون خسائر "إسرائيل" في المواجهة القادمة أكبر. لكن موفاز، مثل معظم النخب السياسية والعسكرية يحذر من اعادة احتلال القطاع، واصفاً هذا السيناريو بأنه " وصفة لتوريط "إسرائيل" سياسياً وأمنياً وإستراتيجياً ".

كابوس العمليات الفردية

لكن مشاكل " إسرائيل " لا تبدأ وتنتهي في قطاع غزة، فقد شهد شهر ديسمبر حدوث أكبر عدد من العمليات ضد الكيان الصهيوني في الضفة الغربية وفي إسرائيل ذاتها منذ بداية العام الجاري. والمفارقة إن الأجهزة الأمنية الصهيونية أقرت أنه من الصعب إحباط عمليات المقاومة في الضفة الغربية بسبب طابع " المبادرة الفردية " الذي اتسمت به. وحسب قيادة الجيش الصهيوني، فأنه من الصعوبة مواجهة العمليات الفردية بسبب تعذر الحصول على إنذارات استخبارية مسبقة بشأنها، على اعتبار أن عملية الإعداد والتنفيذ يقوم بها شخص واحد، يصعب رصده. وفي الوقت ذاته، تعي المؤسسة الأمنية الصهيونية أنه يكاد يكون من المستحيل مراكمة الردع في مواجهة أشخاص ينفذون عمليات فردية، على اعتبار أنه يتوجه لتنفيذها وهو يدرك إنه قد لا يعود حياً، كما يقول رون بن يشاي المعلق العسكري في موقع " واي نت " الإخباري. وحسب المحافل الأمنية الصهيونية، فإن إحباط عمليات تخطط لها تنظيمات أسهل من احباط عمليات يخطط لها أفراد، حيث إنه بالإمكان جمع المعلومات عن التنظيمات، علاوة على أن التنظيمات تكون قابلة للردع من ناحية نظرية على الأقل، حيث إن "إسرائيل" بإمكانها استهداف البنى التنظيمية والمؤسساتية والبشرية التابعة لهذه الحركات والتنظيمات. ومن المهم الاستماع لتقييم الجنرال يسرائيل حسون، الذي شغل منصب نائب رئيس جهاز " الشاباك "، حتى عام 2000، حيث قال أن العمليات الفردية مثلت دوماً " وجع  رأس " لجهازه، بسبب " التجهيزات البسيطة " التي يحتاجها منفذ العملية لانجاز مهمته. وحسب حسون، فإنه بإمكان منفذ العملية الذي يعمل بشكل منفرد في الوصول إلى اية مدينة داخل إسرائيل ويشتري سكيناً من أي محل تجاري، ثم يتجه إلى محطة لنقل الجنود ويقوم بالطعن من أجل قتل أكبر عدد منهم. ويعرب حسون عن يأسه من إمكانية حسم الحرب في مواجهة المقاومة الفلسطينية، قائلاً: " من يعتقد أنه بالإمكان إنهاء هذا الواقع، فهو يبيع الوهم، بالإمكان تقليص العمليات، أو وقفها لفترة محددة، لكنها سرعان ما ستنفجر من جديد ". وفي تل أبيب يعون أنه على الرغم من أهمية التعاون الأمني الذي تبديه السلطة الفلسطينية، فأن هذا التعاون غير قادر على لجم العمليات الفردية. وقد حذر الجنرال جاد شماني، القائد السابق للمنطقة الوسطى في الجيش " الإسرائيلي من إمكانية انتفاض الجمهور الفلسطيني ضد السلطة الفلسطينية في حال واصلت التعاون الأمني مع " إسرائيل " في الوقت الذي يتواصل فيه الاستيطان وترفض فيه حكومة نتنياهو إبداء أية مرونة في المفاوضات.وأشار شماني إلى أن قطاعات كبيرة من المجتمع الفلسطيني ترى في السلطة " متعاونة مع إسرائيل "، في الوقت الذي لا يرون فيه بصيص أمل بشأن المستقبل ".

يمجدون التصفيات

المفارقة أن دعوات التصعيد ضد قطاع غزة جاءت في الوقت الذي تتعاظم فيه الدعوات داخل "إسرائيل " لتنصيب يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية " الشاباك "، كزعيم لـما يوصف بـ" معسكر السلام " الإسرائيلي. وقد اكتسب ديسكين سمعته بشكل خاص باعتباره " مهندس " عمليات التصفية التي اعتمدتها " إسرائيل " في مواجهة حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية بعد اندلاع الانتفاضة. وقد أسفرت سياسة الاغتيالات التي قادها ديسكين عن مقتل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين. وقد كشف كتاب " الحرب السابعة " لمؤلفيه آفي سيخاروف وعاموس هارئيل، الذي صدر عام 2006 الدور الذي لعبه ديسكين كنائب لرئيس " الشاباك " ثم كرئيس للجهاز في بلورة وتنفيذ عمليات التصفية التي أدت إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين. وفي تحقيق نشره في معاريف بتاريخ 23-4-2010، أوضح الصحافي الإسرائيلي بن كاسبيت أن ديسكين هو أول من أوصى بتدمير المنازل على رؤوس ساكنيها من الفلسطينيين في حال توفرت معلومات استخبارية بوجود قيادات للمقاومة مطلوبة للاحتلال. وأشار كاسبيت إلى أن ديسكين كنائب رئيس " الشاباك " هو الذي اقترح أن يتم إلقاء قنبلة تزن طن من طائرة " إف 16 " على منزل في حي " الدرج "، كان يتواجد فيه الشيخ صلاح شحادة، القائد الأسبق لـ " كتائب عز الدين القسام "، الجناح العسكري لحركة حماس، مع علمه أن نساءاً وإطفالاً سيقتلون في الهجوم. وقد قتل في العملية إلى جانب شحادة وزوجته وابنته تسعة أطفال وثلاث نساء من الجيران.وتنسب المحافل الإسرائيلية إلى ديسكين إدخاله تعديلات في أساليب التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين، حيث حدثت في عهده كرئيس للشاباك زيادة على استخدام التعذيب الجسدي والنفسي من أجل الدفع نحو تقديم اعترافات.وقد أقر ديسكين في فليم " حراس العتبة " الوثائقي الذي أخرجه وانتجه درور مورا، وعرضته قناة التلفزة الإسرائيلية الأولى قبل شهر بدوره الكبير في عمليات التصفية التي طالت الآلاف من الفلسطينيين خلال الانتفاضة. وقد أبدى ديسكين شكوكه خلال شهادته في الفيلم في إمكانية أن تستمر. وقد دعت مجموعة من الشخصيات اليسارية بقيادة وزير الأمن الداخلي الأسبق موشيه شاحل إلى " دمج " ديسكين، في زعامة حزب العمل، بصفته الحزب الذي يمثل " معسكر السلام " في " إسرائيل".

قصارى القول، "إسرائيل" ترجئ المواجهة مع قطاع غزة بسبب الكثير من الاعتبارات، لكنها فقط تؤجلها، وفي الوقت ذاته تؤكد إن الخيار الأمثل هو التصعيد، بدليل أن " معسكر السلام " الصهيوني وهو يبحث عن زعيم له، لم يجد إلا الشخص الذي ارتبط أكثر من أي شيء آخر بعمليات التصفية والاغتيال وقتل الأبرياء.

فالمجتمع الصهيوني لا يؤمن ولا يقدر إلا لغة الدم والقتل.

أعلى