الأمن والإيمان والأمانة

الأمن والإيمان والأمانة

الحمد لله الولي الحميد، ذي العرش المجيد، الرزاق ذي القوة المتين، نحمده على هدايته ورعايته، ونشكره على فضله وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بصفات الجلال والجمال والكمال، وتنزه عن الأشباه والنظراء والأمثال. حي لا يموت، ودائم لا يفوت. أول بلا ابتداء، وآخر بلا انتهاء. قيوم لا ينام، وله الحجة البالغة على الآنام، وله الحكمة في الأحكام والأفعال {هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ حَمَل من الأمانة ما لم يحمله غيره، واحتمل من الأذى ما لا يطيقه سواه، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأسلموا له وجوهكم، وحققوا إيمانكم {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 54، 55].

 أيها الناس: إذا أطلقت الأمانة انصرفت في أذهان كثير من الناس إلى الودائع التي تستودع عندهم، ولا يعرف كثير منهم الأمانة في غير ذلك. بينما الأمانة أعم وأشمل من ذلكم، وما الودائع إلا جزء من الأمانة وليس كلها.

 والأمانة والإيمان والأمن يرتبط بعضها ببعض من جهة البناء اللغوي، ومن جهة المعنى الشرعي، فلا يتحقق الأمن الشامل إلا بأداء الأمانة كاملة، ولا يؤدي الأمانة كاملة إلا من حقق الإيمان الكامل، فمن أتى بالإيمان كاملا تخلق بالأمانة، فتحقق له الأمن الشامل في الدنيا والآخرة، وبقدر نقص الإيمان تنقص الأمانة فينقص بنقصها الأمن.

 والأمانة تشمل الدين كله، فهو أمانة الرب سبحانه عند العبد فماذا يحقق منه؟ وماذا يبخس منه؟ وهي الأمانة المذكورة في قول الله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] وهذه الآية من أعجب الآيات التي تدل على أن القرآن كلام الله تعالى؛ إذ وُصف جنس الإنسان فيها بالظلم والجهل، مع أنه يملك عقلا يدله على العدل والعلم، لكن لظلمه وجهله يُسخِّر عقله في غير ما خلق له. وذكر هاتين الصفتين في الإنسان مع ذكر الأمانة يدل على أن السبب في تضييع الأمانة هو الظلم والجهل، كما يشي السياق بأن أكثر الناس سيضيع هذه الأمانة؛ إذ وصف جنس الإنسان بأنه ظلوم جهول، والظلوم المبالغ في الظلم، وكذلك الجهول المبالغ في الجهل. ثم رأينا واقع البشر على وفق ما جاء في الآية الكريمة؛ إذ ضيع أكثرهم الأمانة وهي الإيمان، إما تضييعا كليا وهم الكفار والمنافقون، وإما تضييعا جزئيا وهم عصاة المؤمنين، ولن يخلو عبد من تضييع شيء من الأمانة؛ لأنه لا يخلو أحد من العصيان، ولكن المعول عليه هو نسبة التضييع، فإذا كثر في الناس تضييع الأمانة قلَّ فيهم الأمن، وانتشر الخوف، وبقدر محافظتهم على الأمانة وأدائها يكون أمنهم واستقرارهم.

 والأدلة على ارتباط الأمن بالإيمان والأمانة أكثر من أن تعرض، ومن ذلك قول الله تعالى {فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام:48] وقوله تعالى {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وقد يظن بعض الناس أن تحقق الأمن لمن حقق الإيمان وأدى الأمانة لا يكون إلا في الآخرة، بدليل أن كثيرا من بلاد المسلمين تعيش حالة خوف بينما بلاد الكفار تعيش حالة أمن. وهذا فهم خطأ سببه النظر إلى الأمن الحسي الجسدي، وإغفال الأمن المعنوي القلبي. وأمن القلب أهم وأولى من أمن الجسد؛ لأن النعيم نعيم القلب، والعذاب عذاب القلب، وكم من منعم في القصور الفارهة، والجنات الوارفة، يتمتع بأحسن متاع، وقلبه معذب. فما نفعته دنياه التي يملكها، وبرهان ذلك أن من أثرياء الغرب من قضوا انتحارا رغم الثروات الهائلة التي يمتلكونها. وفي مقابل ذلك تجد فقيرا أكل الفقر لحمه، وأنهك الكد جسده، وغداؤه يطرد عشاءه، وهو يعيش قرير العين، وما ذاك إلا لأنه يجد في قلبه أمنا وطمأنينة.

 فإذا كان القلب هو محل الأمن والخوف؛ فإن القلوب لا يملكها إلا الله تعالى، وهو من يملؤها بالأمن أو يسلبها أمنها {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] وبقدر الإيمان في القلب يُملأُ بالأمن، وبضعف الإيمان فيه يضعف أمنه، ويعدم أمنه بعدم إيمانه.

 وفي السنة ما يدل على ارتباط الإيمان بالأمانة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:"أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ..."رواه أحمد. وفي حديث آخر: «وَالمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

 فإذا جانب العبد طرق الخيانة، فكان أمينا مع ربه سبحانه بالمحافظة على دينه، وأمينا مع نفسه بالمحافظة على جسده وقلبه وعقله، وأمينا مع أهله وأسرته، وأمينا مع جيرانه وقرابته، وأمينا في عمله ووظيفته، وأمينا في مكتسبات بلده ومقدراته؛ فلا تمتد يده للمال العام، ولا يطلب ما ليس له، ولا يتعامل بالرشوة لبلوغ غايته، ولا يتلف منافع الناس، ويحافظ عليها كما لو كانت ملكا له؛ فإنه حينئذ يكون أمينا يأمنه الناس على دمائهم وأموالهم.

 وكما لا يجوز سرقة أموال الأشخاص فكذلك لا يجوز سرقة المال العام، وكما لا يجوز إتلاف أملاك الغير فكذلك لا يجوز العبث بالمنافع العامة وإتلافها؛ لأن الناس يتضررون من إتلافها والعبث فيها، وهذا من الإخلال بالأمانة.

 ولشدة ارتباط الإيمان بالأمانة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عن الخائن، وكان عليه الصلاة والسلام يكرر هذا النفي ليغرس في قلوب أصحابه رضي الله عنهم التخلق بالأمانة، والنفرة من الخيانة؛ كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ:"لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ "رواه أحمد.

 ففقد الأمانة يدل على بداية فقد الإيمان كما قال ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ...».

 والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وهم من تركوا الإيمان والأمانة، وركبوا الكفر والنفاق والخيانة، وفي ذلك  يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ الراوي: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:«إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» رواه البخاري. وفي حديث آخر يخبر صلى الله عليه وسلم أن أثر الأمانة يزول من قلب العبد شيئا شيئا، ويزول من الناس بالتدريج حتى يتلاشى، ثم قال صلى الله عليه وسلم «فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" رواه الشيخان.

 وهذا الحديث يدل على أنه لما تلاشى أثر الأمانة من القلب تلاشى معه الإيمان حتى لم يبق في القلب منه مثقال حبة خردل.

ويجب أن يخاف الناس هذا الحديث؛ لأن للإخلال بالأمانة أثرا كبيرا في سلب الإيمان وانتهائه، ولا أمن لقلب العبد في الدنيا إلا بالإيمان، ولا نجاة له في الآخرة إلا به، فكيف يُغامر العبد بإيمانه فيستهين بالأمانة، ولا يؤديها كما أمر الله تعالى؟!  

 وعلى المرء أن لا ينظر إلى كثرة الواقعين في الخيانة، فيتخلق بأخلاقهم، ويسير في ركابهم؛ بل ينظر إلى الأمناء فيحتذي بهم، فإن أهل النجاة يوم القيامة قليل، وبذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "إِذَا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ الراوي بَيْنَ أَصَابِعِهِ، يَصِفُ ذَاكَ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "اتَّقِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ، وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ" رواه أحمد. فأمر بلزم التقوى في هذا الحال، ولزوم التقوى سبب لأداء الأمانة، واجتناب الخيانة.

 وإذا ضعفت الأمانة في الناس كان المتمسك بها شامة بينهم، فيؤجر على تمسكه بطاعة تركها غيره.

 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء:58].

 بارك الله لي ولكم في القرآن...

 

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وتخلقوا بالأمانة فإنها برهان الإيمان، وسبيل النجاة من الخسران، والفوز بالجنان، وهي العتبة الأهم لإصلاح أحوال الأفراد والدول والأمم، وما من أهل بلد تسود فيهم الأمانة إلا ساد فيهم الأمن، وبقيت لهم منافع بلدهم ومرافقه، وعرف كل ذي حق حقه.

 وإذا كان الأمن مرتبطا بالأمانة، ولا تتحقق الأمانة إلا بالإيمان كان من وسائل نشر الأمانة في الناس، والقضاء على الخيانة؛ غرس الإيمان في قلوبهم، وفتح مساربه على أسماعهم، وتذكيرهم دوما بأهمية الأمانة في كل شيء. أما أن تطلب الأمانة من الناس مع التقصير في دعوتهم إلى الإيمان ومكملاته، والسعي في إفسادهم، وتجفيف منابع زيادة الإيمان عندهم فذلك من المحال.

 إن الوازع الإيماني هو أقوى وازع يمنع المؤمن من الإفساد في بلده، ويمنعه من ارتكاب الرشوة والاختلاس والتزوير والغش وأنواع الفساد المالي والإداري؛ لأن مراقبته لله تعالى أشد من مراقبته للرقباء من البشر. كما أن الوازع الإيماني يزعه عن  الاستهانة بالممتلكات العامة وإتلافها، والتصرف فيها كما لو كانت عدوا له.

لكن مع ضعف الإيمان تضعف مراقبة العبد لله تعالى فلا يأبه بما ليس له خاصة. ومن نظر إلى المنتزهات والبراري بعد استمتاع الناس بها، وما يراه من تلويثها وإفسادها على الغير علم كم تعظم الجناية بفقد الأمانة، وهذا الإفساد في أمر ظاهر للعيان، وما يخفى من فساد الخيانة أعظم مما يظهر للناس.. وعلى المرء أن لا يتأثر بذلك، ولا ييأس من إصلاح الناس، ويجتهد في أن يتخلق بالأمانة في كل شئونه وأحواله ليكون قدوة للناس يحتذون به، ويسيرون على دربه، و«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»  

 وصلوا وسلموا على نبيكم..

أعلى