البيان/متابعات: تشير التطورات الأخيرة في الفضاء الرقمي إلى انتقال المواجهة بين إيران والكيان الصهيوني من ساحات الاستخبارات التقليدية إلى عمق الحرب السيبرانية المفتوحة، في تحول يعكس تآكل مفهوم الردع المتبادل الذي طالما روّج له النظام الأمني الصهيوني. فاختراق حساب رئيس الوزراء الصهيوني السابق نفتالي بينيت على تطبيق “تيليغرام” لم يكن حادثة تقنية معزولة، بل علامة فارقة في مسار تصاعدي لحرب رقمية باتت تستهدف الرموز السياسية والأمنية في قلب منظومة الحكم الصهيوني.
الرسائل اللاحقة التي بثّها المخترقون، والتي زعموا فيها اختراق هواتف وحسابات وزراء وأعضاء كنيست ومسؤولين حكوميين، عززت الشعور بأن الفضاء السيبراني الصهيوني بات مكشوفًا على نحو غير مسبوق. وبغض النظر عن دقة جميع الادعاءات، فإن مجرد القدرة على بث هذا النوع من التهديدات، وخلق حالة من الشك داخل النخبة السياسية، يمثل نجاحًا استراتيجيًا بحد ذاته في منطق الحروب النفسية.
يتزامن هذا الاختراق وفقاً لتقرير نشره شبكة الهدهد مع كشف جهاز الأمن العام الصهيوني (الشاباك) عن قضية تجسس جديدة، تتعلق بالمواطن الروسي فيتالي زفياغينتسيف، الذي عمل وفق التحقيقات بتوجيه مباشر من عناصر استخبارات إيرانية. وتشير تفاصيل القضية إلى نموذج مختلف من التجسس، لا يعتمد على الشبكات السرية المعقدة بقدر ما يستثمر في الأفراد الهامشيين، والسياح، والعمال الأجانب، مستخدمًا أدوات رقمية وتحويلات مالية مشفرة، ومهام تبدو في ظاهرها بسيطة، لكنها في مجموعها تنتج معرفة استخباراتية حساسة عن البنية التحتية والموانئ والمنشآت الحيوية.
ووفق معطيات الشاباك، فإن هذه القضية هي الرابعة والثلاثون أو الخامسة والثلاثون من نوعها، ما يعني أن النشاط الاستخباراتي الإيراني داخل الكيان الصهيوني لم يعد استثنائيًا، بل أصبح ظاهرة متكررة. الأخطر من ذلك أن هذا النمط لا يهدف فقط إلى جمع المعلومات، بل إلى توسيع دائرة الشك داخل المجتمع الصهيوني نفسه، عبر الإيحاء بأن أي فرد قد يكون هدفًا للتجنيد أو الاختراق.
في هذا السياق، يبدو أن إيران لا تسعى إلى نصر سيبراني ساحق بقدر ما تعمل على إدارة حرب استنزاف نفسية ورقمية طويلة الأمد. السيطرة على الطيف الرقمي، واستخدامه كأداة لبث الخوف، وزعزعة الثقة بالمؤسسات، والتشكيك في قدرة الدولة الصهيونية على حماية رموزها، كلها أهداف تتجاوز منطق الاختراق التقني إلى فضاء التأثير الاستراتيجي العميق.
المفارقة أن هذا التصعيد الإيراني يكشف في المقابل خللًا بنيويًا داخل المنظومة الأمنية الصهيونية نفسها. فالتعامل مع التهديدات الرقمية يعاني من تشتت واضح بين جهات متعددة: الشاباك، ومقر الأمن السيبراني، ومجلس الأمن القومي، ووحدات الجيش الصهيوني المختلفة، ووزارة الأمن. هذا التداخل في الصلاحيات، بدلًا من أن يشكّل شبكة حماية متماسكة، أنتج حالة من البطء والارتباك، حيث يغيب القرار الموحد، وتضعف القدرة على الانتقال من الدفاع إلى الهجوم.
وفي منطق الصراع السيبراني، لا يكفي الصدّ والاحتواء. الردع الحقيقي يتطلب قدرة هجومية تُشعر الخصم بأن كلفة الهجوم أعلى من جدواه. غير أن الواقع الحالي يشير إلى أن الكيان الصهيوني، رغم تفوقه التكنولوجي المعلن، لا يشن هجومًا رقميًا فعالًا بالقدر الكافي لإحداث توازن رعب سيبراني مع إيران. فبعد اختراق حساب شخصية بحجم رئيس وزراء سابق، لم تشهد الساحة الإيرانية شللًا في البنية الرقمية، ولا تعطّلًا في شبكات الاتصال، ولا رسائل ردع واضحة.
هذا النمط يعيد إلى الأذهان سياسة “الاحتواء” التي اتبعها الكيان الصهيوني قبل السابع من أكتوبر 2023، سواء على الجبهة الشمالية أو في غزة، حين جرى التقليل من شأن المؤشرات التحذيرية، والاكتفاء بإدارة المخاطر بدل تفكيكها. والنتيجة، كما هو معلوم، كانت صدمة استراتيجية كشفت حدود التفوق الأمني التقليدي أمام خصوم يعتمدون على أدوات غير متماثلة.
صحيح أن أي دولة، مهما بلغت قدراتها، لا تستطيع منع جميع الهجمات السيبرانية أو إحباط كل محاولات التجنيد. لكن الفارق يكمن في القدرة على خلق بيئة ردعية تجعل الخصم يعيد حساباته قبل الإقدام على التصعيد. وفي الحالة الراهنة، تبدو طهران أكثر ثقة بقدرتها على المناورة في الفضاء الرقمي، بينما يظهر الكيان الصهيوني في موقع رد الفعل، لا المبادرة.
في المحصلة، لم تعد الحرب بين إيران والكيان الصهيوني مقتصرة على الصواريخ والطائرات المسيّرة والعمليات السرية التقليدية. إنها حرب على الوعي، والثقة، والبنية الرقمية للمجتمع والدولة. وإذا لم تُراجع المنظومة الصهيونية مقاربتها للتهديد السيبراني، وتنتقل من إدارة الأزمة إلى بناء ردع رقمي حقيقي، فإن اختراق حساب سياسي قد يتحول من حادثة محرجة إلى مقدمة لاختراقات أعمق تمس جوهر الأمن القومي الصهيوني ذاته.