عُني الإسلام عناية بالغة بالأخلاق حتى جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - المقصد من بعثته ؛ حيث قال : « إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق » [1] .

وكانت الآيات التي تتنزل في مكة تحث على الإيمان والتحلي بالأخلاق الفاضلة قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، وكان مما نزل منها قوله - تعالى - : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ( الأنعام : 151-153 ) .

بل بلغت عناية النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخلاق أن جعل يفكر - وهو على فراش الموت - في الخدم الضعفاء خشيةَ أن تُهدَر حقوقهم ؛ فجعل ذلك من عامة وصيته .

يقول أنس بن مالك - رضي الله عنه - : كانت عامة وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين حضرته الوفاة : « الصلاةَ وما ملكت أيمانكم » [2] .

تعريف الخلق الحسن : هو بذل الندى وكف الأذى ببذل الخير للناس وكف الشر عنهم .

فوائده :

- التحلي بالخلق الحسن مع الإيمان بالله : هو امتثال لأمر الله - تعالى - في مثل قوله : { خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } ( الأعراف :199 ) .

لقد جمع الله - تعالى - مكارم الأخلاق في هذه الآية وأمر بالأخذ بها والتحلي بما ورد فيها .

- التحلي بالخلق الحسن مع الإيمان : طاعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أمر معاذاً رضي الله عنه فقال : « وخالِقِ الناسَ بخُلُق حَسَن ».[3]

- التحلي بالخلق الحسن مع الإيمان : اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزكى الناس نفساً وأكرمِهم خُلقاً يقول الله - تعالى - : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } ( الأحزاب : 21 ) .

- بالخلق الحسن مع الإيمان : يحصل الوئام والتآلف في المجتمع يقول الله - تعالى - : { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } ( آل عمران : 159 ) .

- بالخلق الحسن مع الإيمان : يتمكن المرء من إصلاح ذات البين والله - تعالى - يقول : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } ( النساء : 114 ) .

فحسن الخلق مَرْضي عند جميع الأطراف ؛ وبذلك يستطيع بتوفيق الله أن يجمع بين القلوب المتنافرة والآراء المتباينة ، كما رضيت قريش النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَكَماً بينها في وضع الحجر الأسود في موضعه حين كادت الحرب أن تقع بينهم فيمن هو أحق بوضعه [4] .

- بالخلق الحسن مع الإيمان : تعمر الديار وتزيد الأعمار ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « حُسْنُ الخلق وحُسْنُ الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار » [5] .

- بالخلق الحسن مع الإيمان : تُستر العيوب الخَلْقية ؛ فقد يُبتلَى المرء بآفات خَلْقية ، ولكن ذلك لا يقصِّر به عن مجد ولا يقعد به عن سؤدد إذا رُزق بخُلق حسن وعقل راجح ؛ فحسن الخلق يغطي غيره من القبائح ، كما أن سوء الخلق يقبح غيره من المحاسن .

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عِرضُه      فكل رداء يرتديه جميلُ

- والمؤمن الخيِّر من الناس : من حسنت أخلاقه ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « خياركم أحاسنكم أخلاقاً » [6] .

- بالخلق الحسن مع الإيمان : تُصد هجمات الأعداء ؛ فالعدو إنما يتسلل ويبث سمومه في الأمة المنهارة في أخلاقها ، وأما الأمة التي تتمتع بالأخلاق الفاضلة ففي حصانة ومَنَعة من كيده .

- والملائكة قريبة من المؤمنين ذوي الأخلاق الحسنة والشياطين بعيدة منهم :وفي قرب الملائكة منهم قرب من صالح الأعمال ، وفي بُعد الشياطين عنهم بُعدٌ عن مساوئ الأعمال ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلاً شتم أبا بكر - رضي الله عنه - والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس ، فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم - يتبسم ، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله ، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام ، فلحق به أبو بكر ، فقال : يا رسول الله ! كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت ؟ قال : « إنه كان معك مَلَك يرد عنك ، فلما رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان ؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان » [7] .

فتأمَّل كيف جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخلاق الحسنة عواصم من كيد الشيطان .

والله - تعالى - يقول : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } ( الشعراء : 221-223 ) ؛ فالشياطين إنما تقترن بمن يشابهها ويشاكلها .

والأفاك : هو الكذوب في قوله .

والأثيم : هو الفاجر في فعله .

وهذه صفات المنحرفين في أخلاقهم ، ولذلك فإن الشياطين كثيراً ما تتسلط على ذوي الخلق السيئ ، بل قد يكون من أعظمهم إصابة بمسها .

والمرء لا يكمل إيمانه إلا بحسن الخلق ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً » [8] .

تأصيل وتصحيح في المفهوم : وجِماع الخير في حسن الخلق ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « البِرُّ حُسْن الخُلُق » [9] .

وها هنا ينبغي أن يُعلَم أن من حسن الخلق : التأدب مع الله بالإيمان به وطاعته وعبادته دون أحد سواه ، بل هو أَوْلَى ما دخل في حسن الخلق ؛ لأن كلمة البر تطلق على فعل جميع الطاعات بدليل قوله - تعالى - : { لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ( البقرة : 177 ) .

فكل من كان حَسَن الخلق مع الخَلْق لكنه لا يعبد الخالق ، فهو سيِّئ الخُلق ؛ لأنه لم يحقق سيد الخُلق ؛ ألا وهو التأدب مع الخالق المحسن البَر الرحيم ، بل لا يُقبل منه شيء من أخلاقه ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله ! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين ؛ فهل ذاك نافعه ؟ قال :« لا ينفعه ؛ إنه لم يقل يوماً : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين ».[10]

- المؤمن الحسن الأخلاق : محبوب عند الله ؛ سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحب عباد الله إلى الله ؟ فقال : « أحسنهم خلقاً » [11] .

- المؤمن الحسن الأخلاق : محبوب عند رسول الله قريب من مجلسه يوم القيامة ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً » [12] .

- المؤمن حسن الأخلاق : محبوب عند الناس ، ومن أحبه الله وضع له القبول في الأرض ، والناس مفطورون على حب من أحسن إليهم ، ولربما أطاعوه لحسن أخلاقه .

أحسِنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبهم      فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

- وأثقل شيء في الميزان يوم القيامة : حسن الخلق مع الإيمان ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق » [13] .

- وأعظم ما يُدخِل الناس الجنة : حسن الخلق مع الإيمان ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « وأعظم ما يُدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق » [14] .

- وبالأخلاق الحسنة مع الإيمان : تُرفع الدرجات ؛ ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم »[15] .

- وصاحب الخلق الحسن : بإيمانه في أعلى الجنة ؛ ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أنا زعيم ببيت في ربض الجنة [16] لمن ترك المراء وإن كان محقاً وببيت في وسط الجنة ، وببيت في أعلى الجنة لمن حَسُن خلقه » [17] .

- وبالأخلاق الحسنة عُرِف صدق الأنبياء والمرسلين وبضدِّها عُرف كذب الأدعياء والمفترين .

يقول ابن كثير - رحمه الله - : فمن شِيَم كلٍّ منهما وأفعاله يستدل من له بصيرة على صدق ( محمد صلى الله عليه وسلم ) وكذب مسيلمة الكذاب .

يقول عبد الله بن سلام : لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس قِبَلَه [18] فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب .

قال : فكان أول ما سمعته يقول : « يا أيها الناس ! أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ».[19]

لو لم تكن فيه آيات مبينة      كانت بديهته تأتيك بالخبر

- ِوالخلق الحسن يبذله المسلم في جملته لجميع الناس مسلمهم وكافرهم ؛ فقد قال الله - تعالى - : { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } ( البقرة : 83 ) وقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن : « وخالِقِ الناسَ بخلق حسن » [20] ، وكان أهل اليمن نصارى كما في الصحيحين : « إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب ... » [21] .

والخلق الحسن مأمور ببذله للحيوان البهيم .

رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جَمَلاً فحنَّ وذرفت عيناه فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذفراه [22] فسكت ، فقال : « مَنْ ربُّ هذا الجمل ؟ لمن هذا الجمل ؟ » فجاء فتى من الأنصار ، فقال : لي يا رسول الله ! فقال : « أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها ؛ فإنه شكا إليَّ أنك تجيعه وتُدئبه » [23] .

وهو القائل - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء ؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » [24] .

ميزانه : والمرء إنما تُعرف أخلاقه في بيته مع أهله ؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي » [25] لأن الإنسان قد يصطنع خارج بيته خلقاً حسناً ويتصبر عليه ؛ لأن وجوده مع الناس قصير المدى ، فإذا لقي أهله كان أسوأ الناس خلقاً وأشحهم نفساً وأقلهم خيراً ، ولا شك أن من كان كذلك فهو محروم التوفيق .

ففي البيت يُكتشف لين المرء من فظاظته وكرمه من بخله وأناته من عجلته ، ومَن ملَك نفسه عند أهله ظهرت خيريته ، ومن لم يحسن تدبير بيته ، فكيف يحسن تدبير غيره ؟ وبالسفر والجوار والبيع والشراء تُعرف أخلاق الرجال .

شهد رجل عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ولم يكن يعرفه ، فقال : ائت بمن يعرفك ، فقال رجل من القوم : أنا أعرفه .

قال : بأي شيء تعرفه ؟ قال : بالعدالة والفضل ، فقال : هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا .

قال : فعاملك بالدينار والدرهم اللذَيْن يُستدل بهما على الورع ؟ قال : لا .

قال : فرفيقك في السفر الذي يُستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا .

قال : لست تعرفه ، ثم قال للرجل : ائت بمن يعرفك [26] .

واقع الأمة وحاجتها : الأمة اليوم تعاني من التقصير الخُلقي أشد العناء حتى تكاد لا تجد في الناس أميناً ، وحتى خُوِّن الأمين وائتُمن الخائن ، وهذا التقصير رجع على دين الإسلام بالتهمة ؛ لأن الناس إنما ينسبون تصرفات المسلمين إلى الإسلام ؛ فأصبح المسلمون يسيئون إلى دينهم من حيث لا يشعرون .

ومهما يكن من هذا التقصير ، فإنه متى جدَّ المرء في تقويمه وتغييره وجد ذلك سهلاً ميسوراً بإذن الله .

وهذا الحيوان البهيم تُراضُ أخلاقه وتُغيَّر ؛ أفلا تُراضُ أخلاق الإنسان السوي العاقل وتبدل ؟ وهؤلاء صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة كانوا كسائر كثير من العرب ممن يتصفون بالشدة والقسوة والغلظة ، فلما دخلوا في الإسلام رقَّت طباعهم وحسنت أخلاقهم ، بل إنهم أصبحوا مثالاً يحتذى ونهجاً يُقتفى .

والمؤمن الحق لا يُؤتى الإسلام من قِبَلِه ؛ فهو دائم اليقظة الخُلقية ، صادق التحري لأداء حقوق غيره عليه ، بعيد الأذية لهم ، حتى إنه ليحاسب نفسه على قشر الفاكهة يلقيه بطريق الناس .

أسباب اكتساب الخلق الحسن : ولاكتساب الأخلاق الحسنة أسباب إذا أخذ العبد بها استقامت سيرته بإذن الله .

منها : قوة الإيمان وسلامة العقيدة ؛ فالسلوك ثمرة لما يحمله الإنسان من عقيدة ، والانحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في المعتقد ، ثم إن العقيدة هي الإيمان و : « أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً » [27] .

فالعقيدة الصحيحة تحمل صاحبها على مكارم الأخلاق من صدق وحلم وكرم وشجاعة ... ونحو ذلك ، كما أنها تردعه عن مساوئ الأخلاق من كذب وشح وطيش ... ونحوها .

ومنها : الدعاء ؛ فمن رغب بالتحلي بمكارم الأخلاق ورغب بالتخلي عن مساوئها فليلجأ إلى ربه وليرفع إليه أكف الضراعة ليرزقه حسن الخُلق ويصرف عنه سيئه .

ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - كثير الضراعة إلى ربه ليرزقه حسن الخلق ويصرف عنه سيئه وكان يقول في دعاء الاستفتاح : « اللهم ! اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت » [28] .

وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - :« اللهم ! جنبني منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء » [29] .

ومنها : المجاهدة ، والخُلق نوع من الهداية يحصل عليه المرء بالمجاهدة الدائمة المستمرة .

قال - تعالى - { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ( العنكبوت : 69 ) .

ومنها : التفكر في الآثار المترتبة على حسن الخلق والنظر في عواقب سوء الخلق .

ومنها : أن يضع المرء نفسه موضع الآخرين ؛ فلا يؤتي الناس إلا ما يحب أن يؤتوه إياه .

وهي قاعدة عظيمة في التمييز بين الأخلاق الحسنة والسيئة ، أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ».[30]

ومنها : مصاحبة الأخيار وأهل الأخلاق الفاضلة .

وأهمها : إدامة النظر في السيرة النبوية الشريفة ثم النظر في سيرة الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - وقراءة سِيَر أهل الفضل والصلاح .

وبالجملة : أن ينتفع الإنسان بكل من خالطه وصاحبه ، وإن كثيراً من العقلاء يتعلم من الحيوانات البُهْم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره .

قيل لرجل : من علَّمك البكور في حوائجك أول النهار لا تُخِل به ؟ قال : من عَلَّم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك ولا تخاف ما يَعرِض لها في الجو والأرض .

والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها .

 

المراجع :

1 - سوء الخلق : مظاهره أسبابه علاجه ، محمد بن إبراهيم الحمد .

2 - الموعظة الحسنة في الأخلاق الحسنة ، عبد الملك بن أحمد رمضاني .

 

 


(1) المسند : 2/381 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2197 .

(2) سنن أبي داود : 5156 ، و ابن ماجه : 2697 ، وصححه الألباني في الإرواء : 2178 .

(3) سنن الترمذي : 1987 ، وقال : حديث حسن صحيح .

(4) المسند : 3/ 425 ، وحسن الألباني إسناده في حاشية فقه السيرة للغزالي : 84 .

(5) المسند : 6/ 159 ، وصححه الألباني في الصحيحة : 519 .

(6) البخاري : 7/ 82 ، و مسلم : 2321 .

(7) سنن أبي داود : 4896- 4897 ، وصححه الألباني في الصحيحة : 2231 .

(8) سنن الترمذي : 1162 ، وصححه الألباني .

(9) مسلم : 4632 - 4633 .

(10) مسلم : 315 .

(11) الطبراني في الكبير : 1/ 181 ، وقال الهيثمي في المجمع : رجاله رجال الصحيح : 8/24 .

(12) سنن الترمذي : 2018 ، وصححه الألباني فيه .

(13) سنن أبي داود : 4799 ، والترمذي : 2002 - 2003 ، وقال : حسن صحيح ، وصححه الألباني في الصحيحة : 876 .

(14) سنن الترمذي : 2004 ، وابن ماجه : 4246 ، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي : 1630 .

(15) سنن أبي داود : 4798 ، وصححه الألباني في الصحيحة : 795 .

(16) ربض الجنة : أدناها .

(17) سنن أبي داود : 4800 ، وصححه الألباني فيه : 4015 .

(18) انجفل الناس : ذهبوا مسرعين .

(19) سنن الترمذي : 2485 ، وابن ماجه : 1334 ، وصححه الألباني فيهما ذكر ذلك ابن كثير في تفسير قوله - تعالى - : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } (يونس : 71) .

(20) سبق تخريجه .

(21) البخاري : 1401 - 4000 ، ومسلم : 27 .

(22) الذفرى : مؤخر الرأس .

(23) سنن أبي داود : 2549 ، وصححه الألباني فيه تدئبه : تنهكه وتتعبه .

(24) مسلم : 3615 .

 (25) سنن الترمذي : 3895 ، وابن ماجه : 1977 ، وصححه الألباني في الصحيحة : 285 .

(26) ذكر الصنعاني في سبل السلام : 4/ 129 أن ابن كثير حسنه في الإرشاد ، وكذلك حسنه العجلوني في كشف الخفا : 1/ 549 .

(27) سبق تخريجه .

(28) مسلم : 771 .

(29) الحاكم في مستدركه وصححه ، ووافقه الذهبي : 1/ 532 .

(30) متفق عليه .