ما دعوة الشيخ محمد بن عبد الواهاب - رحمه الله - إلا امتدادٌ لمذهب أهل السُّنة والجماعة، بل هي امتداد لِـمَا كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبُه الكرام، رضي الله عنهم؛ فمن أصول هذه الدعوة الإصلاحية: الدعوة إلى عبادة الله - تعالى - وحـدَه لا شريك له، ولزوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتِّبَاعُه في أقواله وأفعـالـه وتقريـراته؛ فالذين يدعون إلى الله - تعالى - مخلصين له الدين يتحقق لهم النفع والدوام؛ إذ كل عمل لا يُبتَغَى به وجه الله يزول ويضمحِل. قال - تعالى -: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ}. [القصص: ٨٨].

كما أن الذين يتَّبعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحصل لهم تمام الاهتـداء والتـوفيق، كمـا قال - عز وجل -: {وَإن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}. [النور: 54].

إن هذا التوحيد الخالص الذي حققته هذه الدعوة السلفية عبر مؤلَّفاتها ورسائلها ومواقفها، أورث جـزيرة العـرب أمناً وطمأنينة، واهتداءً وبصيرة في الدنيا والآخرة؛ فالناظر إلى حال الجزيرة - ونَجْدٍ على سبيل الخصـوص - قبل الدعوة لا تقع عينه إلاَّ على انحرافات دينية، وفقر حضاري، وتدهور أمني، ونزاعات سياسية، ونقص في المعايش والأرزاق؛ فلما ظهرت هذه الدعوة المباركة أعقبَ ذلك صلاحُ الدين، واستقامة الأحوال، واستقرار الأوطان، ورَغَد العيش، وازدهارٌ حضاري. قال - تعالى -: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

أفيقال بعد ذلك: إن هذه «الوهابية خطر على الإسلام والعالم»[1]، وإنها تهدِّد الأمن والسلام... سبحانك هذا بهتان عظيم!

إن هذه الدعوة المباركة قد مضى على ظهورها قرابةُ ثلاثة قرون، وقـد عمَّ خيـرها وظهـر أثرها في بلاد العرب والعجم، ولا يزيدها تصرُّم الأيام والليالي إلا قَبُولاً وانتشاراً.

ومهما تكالب خصوم المذهب السلفي، واشتد كيدهم، وعَظُمت شوكتهم، إلا أن الظهورَ والغلبةَ لمذهب السلف في القديم والحديث؛ فإن مذهب السلف الصالح في غاية الإحكام والسداد، والثبات والاطِّراد؛ فسرعان ما تَقْبَلُه الفطرة، وتدركه العقول السليمة، فتحظى ببرد اليقين ورسوخ الإيمان، وأما المذاهب البدعية فإنما يتجرعها أصحابها على مضض وكُلْفة؛ إذ لا تكاد تسيغه ولا تقبله إلا بعَنَت.

وإذا نظرنا إلى مواقف خصوم هذه الدعوة الإصلاحية فإنك لا تكاد تحصي المؤلَّفات، والمقالات، والندوات، والمؤتمرات المعادية لهذه الدعوة، إضافة إلى كثرة الحروب والمعارك التي قامت من أجل استئصال هذه الدعوة. لكنَّ هذا المكر أضحى أثراً بعد عين؛ فالعاقبة للمتقين، والله - تعالى - لا يُصلِح عمل المفسدين.

وأظن أن هذه الدعوة قد كُذِب عليها أكثر مما كَذَب الرافضة على جعفر الصادق، رحمه الله؛ فإذا كانت الدعوة الإصلاحية في مهدها قد تمالأ عليها في العارض بِنَجْدٍ أكثرُ من عشرين عالماً وطالبَ علم[2]؛ فما بالك بعد

أن تجاوزت نجداً إلى سائر جزيرة العرب وبلاد العرب والعجم؟

وما أروع الوقائع والأمثلة التي حررها العلاَّمة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في رسالته «المقامات»، تلك التي تكشف أنواعاً من الكرامات والحفظ والنصرة لهذه الدعوة؛ رغم الحروب الشرسة والجيوش الجرارة التي تتقصد سحقها؛ ومثال ذلك أن دهام بن دواس (أمير الرياض آنذاك) حارب الدعوة أكثر من ثلاثين عاماً، وأعانه أهل نجران والأحساء، ثم آخر أمره يخرج طريداً وحيداً «ولم يبقَ لآل دواس بعد ذلك عين تَطْرُف؛ فاعتبروا يا أُولِي الأبصار»[3].

ويبدو أن البغي والفجور في الخصومة من قِبَل أولئك الأعداء كان سبباً في ظهور هذه الدعوة وانتصارها؛ فإن الله - عز وجل - أحكم الحاكمين، وقد يقيم الدولة الكافرة إن كانت عادلة[4]؛ فكيف لا يقيم الدولة المسلمة العادلة؟ قال - تعالى -: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: ٥٥].

قال ابن تيمية: «إن الإنسان إذا اتَّبع العدل نُصِر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه»[5].

ولو عَقَل الخصوم في مواقفهم لسلكوا سبيل العدل والعلم؛ فأين التثبُّت في النقل؟ وأين الأدلَّة على تلك الدعاوى والأقاويل؟ فإن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدَّعياً فالدليل.

وتراث علماء الدعوة الإصلاحية مطبوع، متداوَل، وتقريرات علماء الدعوة واضحة ميسَّرة تُوائم عقيدة التوحيد في وضوحها وسَيْرها؛ فليت أولئك القوم يطالعون هذا التراث مباشرة؛ فلا تُحاكَم هذه الدعوة وَفْقَ مقررات سابقة، أو دعاوى كاذبة!

وأيِّ إفك أشد وأشنع أن يُتَّهَم الشيخ محمد بن عبد الوهاب - على سبيل المثال - بادِّعاء النبوة، وانتقاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟   ثم يُفتَرَى على هذه الدعوة خلال هذه الأيام، بأنها لا تَقِلُّ سوءاً عن الكيان الصهيوني! فهذه الكذبات الصلعاء تعكس جهلاً كثيفاً لدى الشانئين، كما تؤكد إفلاسَهم وتهافُتَهم.

وإذا كنا نعجب من بغيٍ وافتراءٍ على هذه الدعوة من قِبَل عرب متسنِّنَة، فأعجب من ذلك أن ترى العدل والإنصاف من عالِمٍ ليس عربياً، بل هو أعجمي فارسي، بل ليس سنيَّاً، وإنما نشأ في إيران، وأحكم المذهب الشيعي حتى شهد له أبرز علماء الشيعة بالاجتهاد؛ إنه «آية الله العظمى» البرقعي؛ حيث يقول عن حكومة الخميني: «ليعلم القارئ أن هذه الدولة جعلتْ الناس أعداءً لنا؛ فإنَّ كلَّ من جرى على لسان كلمةٌ لبيان العقائد الموافقة للقرآن، فإن نظام الخميني يتهمه بأنه «وهابي»، مع أنه لا يوجد في الدنيا مذهب اسمه «الوهابية»، وإنما هم لغرض استعداء الناس وتنفيرهم. نعم! من حيث العقيدة هم يسيرون على عقائد العالم محمد بن عبد الوهاب، ولكنه لم يأتِ بمذهب جديد، وإنما هي آراء ابن تيمية وابن القيم، وهذان أيضاً لم يفعلا شيئاً سوى محاربة الخرافات والبدع، ودعوة الناس إلى الرجوع إلى القرآن»[6].

وأخيراً: فإن عَجْزَ بعض المتسنِّنَة عن مدافعة هذا الكيد، وجَزَعَ بعضهم من تلك الأحداث والمتغيرات العالمية الهائلة، هو الذي أوقع أولئك الخصوم في هذا العداء السافر والمكر الكبَّار، فنعوذ بالله من جَلَد الفاجر وعجز الثقة.

فأين هـؤلاء العَجَـزة الجبنـاء مـن مـلا عمـران بن رضـوان - رحمه الله - وهو الذي ما إن تبيَّن له صحةُ دعوة الشيخ الإمام، حتى بادر داعياً إليها، فَلَقَّبوه بالوهابي، فأنشد قائلاً:

إن كان تابعُ أحمدَ متوهِّباً

                                  فأنا الـمُقِرُّ بأننَّي وهَّابي

أنفي  الشريكَ  عن  الإله؛  فليس لي

                                ربٌّ سوى المتفرِّد الوهَّابِ

 
 


[1] عنوان ندوة بالقاهرة عُقِدَت خلال شهر جمادى الأولى 1431هـ.

[2] انظر: بحوث أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب: 1/108.

[3] المقامات: ص12.

[4] انظر: الاستقامة لابن تيمية: 2/247، ونقض التأسيس: 2/344، 348.

[5] الدرء:8/409.

[6] سوانح الأيام (أيام من حياتي) للبرقعي: ص 308 = باختصار.