إن الاستسلام لله - عز وجل - وتعظيم أمره ونهيه، من أخص صفات المؤمنين، وقد تواترت النصوص الشرعية لتأكيد ذلك؛ اقرأ - مثلاً - قول الحق  - تبـــارك وتعالى -: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: ٢٣]، وقوله - عز وجل -: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ} [الحج: 30].

وحرمات الله وشعائره في هاتين الآيتين هي: أفعال الحج، لكنها - كما قال العلاَّمة السعدي -: (كلُّ ما له حرمة، وأَمَر باحترامه، من عبادة أو غيرها؛ فالمعظِّم لها يبرهن على تقواه، وصحة إيمانه، لأن تعظيمها، تابع لتعظيم الله وإجلاله)[1].

والناظر في أحوال بعض الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية فضلاً عن عامة الناس، يرى أنَّ كثيراً منهم قد يستسهل الوقوع في المعصية، ويتهاون في الإقبال على الطاعة، ثم يلتمس ألواناً من المعاذير ليسوِّغ بها عمله، بل إنَّ بعض الفقهاء والمفتين ربما زيَّن لهؤلاء واقعَهم المتردي بتكلُّفه البحثَ عن المخارج، أو كما يسميها علماء الفقه والأصول بالحِيَل، مع أنَّ الواجب على المفتي إخراجُ المكلَّف عن داعية هواه، كما قرر ذلك الإمام الشـاطبي وغيره[2]، وممَّا يُعَضُّ عليه بالنواجذ قوله - رحمه الله - في ذلك: (فإذا عرض العامي نازلته على المفتي، فهو قائل له: أخرجني عن هواي، دلَّني على اتباع الحق، فلا يمكن - والحال هذه - أن يقال له: في مسألتك قولان، فاختر لشهوتك أيهما شئت، فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع)[3].

إنَّ محاضن الدعوة التي يتربى فيها الشباب، ويأتلف فيها طلبة العلم، أحوج ما تكون إلى ترسيخ التدين، وتعميق الصلة بالله، تعالى. ولا يتحقق ذلك إلا بتعظيم الأمر والنهي والوقوف عند حدود الشرع، وهذا من أعظم دلائل استقامة القلب، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم[4].

لكن هاهنا ثلاث مسائل ينبغي تدارُسها:

المسألة الأولى: نعم! نحن في حاجة إلى استقطاب الفتيان والفتيات، وتقريبهم إلى الخير، وتأليفهم على الطاعات، والرفق بهم، خاصة في هذا العصر الذي انفتحت فيه أبواب الشهوات والشبهات وأصبحت تتخطف قلوبهم، وتسقطهم في مدارك الفساد في صورة لم يسبق لها مثيل؛ لكنَّ هذا الترفُّق لا يعني مجاراة أهوائهم، والاستسلامَ لعوائدهم، وتهوينَ الخطأ في قلوبهم، وتنشئتَهم تنشئة هشة، تذهب معها حلاوة الطاعة. كما لا يعني التشدُّدَ والتنطُّع في تربيتهم، أو قســرَهم علــى ما لا يطيقون من العزائم ومعالي الأمور. والوسط أن ندور مع النص الشرعي حيث دار.

المسألة الثانية: أنَّ جدية الدعوة وحيويتها إنما تكون بالثبات على الطاعات، والالتزام بالمأمورات، والانتهاء عن المنهيات.

وبناء الأمة واستنقاذها من هزائمها وضعفها لا يتحقق إلا على أيدي العُبَّاد الذين امتلأت قلوبهم خشوعاً وإخباتاً واستسلاماً؛ فهذه هي العدَّة التي يواجه بها المصلحون كيد المخالفين وأهل الأهواء، وتأمَّل أمر الله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، فهذا الصدع له تبعاته؛ فالمشركون لن يتركوه وشأنه، بل سيعارضونه ويتقصدون الإساءة إليه، فكانت العدَّة التي تقوي عزمه وتشدُّ أزره: صِدْقَ اللجوء إلى الله - تعالى - والانكسار بين يديه؛ تذللاً وإخباتاً، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97 - ٩٩]. قال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية: (فافزع فيما نابك من أمر تكرهه من المشركين إلـى الشكر لله والثنـاء عليـه والصلاة؛ يكفك الله من ذلك ما أهمَّك)[5].

فهذه هي العدة التي تبني الرجال الأشدَّاء، والدعاة الراسخين، وقد حدَّث صهيب بن سنان - رضي الله عنه - فقال: (وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة)[6]. ومثله قول حذيفة - رضي الله عنه -: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَه أمرٌ صلى)[7]، وتأمَّل قوله: (فزعوا إلى الصلاة) ففيها دلالة جليَّة على سرعة الفرار إلى الله - تعالى - فهو وحدَه الناصر والمعين. قال - عز وجل -: {فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ إنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات: 50].

فالمعوَّلُ عليهم في الشدائد وصناعةِ التغيير في الأمة، ومواجهةِ أمواج الفساد والانحراف، هم العبَّاد الذين يفزعون إلى الصلاة؛ يستمطرون فضل الله - عز وجل - وتأييدَه، فيسلك هؤلاء العبَّاد عبر مقامات المناجاة والذكر والأنس بالقرآن، أوسع أبواب الثبات والرسوخ على الحق؛ ولهذا قال المولى - جلَّ وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]. أما المهازيل الذين لم يتذوقوا حلاوة الطاعة، ولم تَفِض أعينهم بدموع الخشية، ولم يهنأ ليلهم بلذة المناجاة؛ فلن يصنعوا تاريخاً، ولن يستنقذوا أمة، ولن يتجاوزوا مواضع أقدامهم.

فالتربية إذاً ليست ترفاً أو أمراً شكلياً؛ بل هي الأساس الذي تستقيم به الدعوة، وتنهض به الأمة.
المسألة الثالثة: عبوديةُ القلب أجلُّ وأعظمُ أنواع العبودية، وهي - كما قال ابن القيم -: (أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم؛ فهي واجبة في كل وقت)
[8].

لكن مما ينبغي التأكيد عليه هنا أن ثمة تلازماً وثيقاً بين أعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»[9].

فكما أن الواجب على المحاضن الدعوية العناية بأعمال القلوب؛ فكذلك تجب العناية بأعمال الجوارح، ولا ينبغي التقليل من شأنها، أو التهاون في أمرها. قال ابن تيمية: (إذا نقصـت الأعمـال الظـاهرة الواجبـة، كـان ذلك لنقص ما في القلب من الإيمان)[10].

وقال الشاطبي: (جُعِلَت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإذا كان الظاهر منخرماً حُكِم على الباطن بذلك، أو مستقيماً حُكِم على الباطن بذلك)[11].

ومن لطائف هذا البـاب التي تدل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على التواصي بالأعمال الظاهرة: أن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - لمَّا طُعن زاره شاب، فلما أدبر إذا إزارُه يمس الأرض، فقال عمر: ردوا علـــيَّ الغلام. قــال: (يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك)[12].

فرغم شدة حرج اللحظة وشدة الكرب، إلا أن ذلك لم يمنع  عمر - رضي الله عنه - من العناية بالأمر والنهي في الهدي الظاهر.

المسألة الرابعة: أن القدوات لهم شأن آخر، فينبغي أن يكون حرصهم على السنن (فضلاً عن الواجبات) أكثر من غيرهم، ويكون تورُّعهم عن المكروهات ومواطن الشبهات (فضلاً عن المحرمات) أكثـرَ من غيرهم كذلك؛ فهم في محل القدوة والمثَل الذي يُحتَذى؛ فإذا قصَّروا أو فرَّطوا فغيرهم من باب أَوْلَى.

ومما يَحْسُن التنبيه إليه: أن بعض أعلام الدعوة المعاصرين قد يفرِّطون أحياناً في بعض المأمورات أو المستحبات، أو يتوسعون في المباحات؛ فيكون فعلهم فتنة لبعض الناس. ومن عمق فقه السلف الصالح عنايتهم بتلقي العلم عمَّن يطمئنون لديانته؛ ولهذا قال إبراهيم النخعي: (كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن الرجل، نظروا إلى صلاته، وإلى هيئته، وإلى سُنته)[13]، وقال الأوزاعي: (خذ دينك عمَّن تثق به وترضى عنه)[14].

وهكذا الدعاة ينبغي أن يكونوا صفّاً واحداً مع من يثقون بديانته وصلاحه.

 



[1] تيسير الكريم الرحمن: (5/ 291 ـ 293).

[2] الموافقات: (1/515) و (2/289)، و الاعتصام: (1/134، 135).

[3] المرجع السابق: (5/97).

[4] الوابل الصيب: (ص120).

[5] تفسير الطبري: (14/51).

[6] أخرجه: أحمد، رقم (18937)، وابن أبي شيبة: (10/319-320)، وقال الأرنؤوط في تحقيقه لمسند أحمد: صحيح على شرط مسلم.

[7] أخرجه: أحمد، رقم (23299)، وأبو داود، رقم (1319)، وضعف إسناده الأرنؤوط في تحقيقه للمسند، والألباني في مشكاة المصابيح، رقم (1325)، لكن حسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم (4579)، وصحيح سنن أبي داود.

[8] بدائع الفوائد: (3/230).

[9] أخرجه: مسلم، رقم (2564).

[10] الفتاوى: (7/582).

[11] الموافقات: (1/367).

[12] أخرجه: البخاري في كتاب فضائل الصحابة، رضي الله عنهم، رقم (3700).

[13] الجرح والتعديل: (2/29).

 [14] المرجع السابق.