هو أَوْهَنُ البيوت، وأقلُّها تحريزاً، وأبشعها منظراً، وشرُّها مقصداً؛ لم يُبْنَ لصلاح وإصلاح؛ وإنما بُنِي مصيدة للغافلين، وفخّاً للمارِّين؛ من سقط فيه منهم رَدِيَ، ومن دخل إليه هلك، ومن استجار به كان كالمستجير بأم عامر[1]...
فهو بيت لا يقي العنكبـوت حَـرّاً ولا برداً، ولا يمنعهـا ممـن يقصـدها بسـوء، ولا يحميهـا من العـابثين؛ وهـو وإن ضمـن لهـا شـيئاً من القُـوت - نظراً لِـمَـا اقتضتـه حكمة اللـه - عز وجل - وتدبيرُه للخلق؛ فإن بيتها يبقى أَوُهَن البيوت، وأقلَّها تحريزاً؛ وكذلك من اتخذ من دون الله وليّاً أو إلهاً. قال - تعالى -: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41].
 
وبينما كنت أقرأ ما سطَّره المفسرون حول هذه الآية، ما بين مقلٍّ ومكثرٍ، شدَّني كثيراً، وملأ قلبي وعقلي، ما قاله الشهيد - رحمه الله - في ظلاله؛ حيث ربط ما مضى من السورة بهذا المثال. قال - رحمه الله -: «إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القِوى في هذا الوجود، الحقيقة التي يغفل عنها الناس أحياناً، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويَفْسُد تصوُّرهم لجميع الارتباطات، وتختل في أيديهم جميع الموازين. ولا يعرفون إلى أين يتوجهون. ماذا يأخذون، وماذا يَدَعون؟

وعندئذٍ تخدعهم قوة الحكم والسلطان؛ يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضونها ليكفُّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها، وتخدعهم قوة المال؛ يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة. ويتقدمون إليها في رَغَب وفي رَهَب، ويسعون للحصول عليها؛ ليستطيلوا بها ويتسلطوا على الرقاب؛ كما يحسبون... وينسون القوة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجهها، وتسخِّرها كما تريد، حيثما تريد. وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى - سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات، أو الدول - كالتجاء العنكبـوت إلى بيت العنكبوت؛ حشرة ضعيفة رخوة واهنة لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن؛ إنها العنكبوت، وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: {وَإنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.

وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء، لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة: هذه تضرُّ بهم وتحاول أن تسحقهم، وهذه تستهويهم وتحاول أن تشتريهم... وكلُّها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة؛ حين تَصِحُّ العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى وتُحسِن التقويم والتقدير»[2] وهذا من أعظم الفهم عن الله في كلامه، وتنزيل مراده على الحياة.

إن خصائص بيت العنكبوت قد أشبهت خصائص الشرك والتعلُّق بغير الله من وجوه كثيرة، وإن بشاعة هذه الحشرة وخُبْثَها، لا يشبهه إلا بشاعة مظاهر الشرك والخرافة، وما يمارسه المشركون من مراسم وشعوذات وتقرُّب إلى غير الله بمظاهر غريبة عجبية، تنزل فيها البشرية إلى أحاضيض الجهل والتخلف، وتتباعد فيها عن الحضارة والرقي؛ حتى تصير كأنها في القرون الأُولَى قبل أن يطبخ الناس طعامهم حين كانوا ينهشونه بأسنانهم نهشاً.

ولا تعشش عناكب الشرك والشعوذة، إلا حين تجد سكون الجهل والغفلة، وغبار التخلف والانحطاط؛ فما أشبه أماكن الشرك ببيوت العناكب! وما أشبه المكان الذي تعشش فيه بأصنام المشركين وقبورهم وأضرحتهم التي لا تغني عنهم من الله شيئاً! لأن الله يعلم أنهم ما يدعون من دونه من شيء؛ إن هي إلا أسماء سمَّوها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من سلطان؛ متبعين في ذلك الظن وما تهوى الأنفس، صادِّين به عن سبيل الله، يستهوون به من أضلَّه الله، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة. يتأكلون بغفلة الناس، ويتعيشون بمآسيهم، ويقتاتون على جهلهم وسذاجتهم، كما تقتات العناكب على جهل الحشرات التي تمر بها، وهي التي لا تبصر خيوط بيتها الدقيقة، التي تشبه حبائل الشرك الخفية...

لقد عششت بيوت العناكب في بلاد المسلمين، واقتاتت على عقولهم؛ فخيم على تلك البلدان ظلام الجهل، وظلام الشرك، وظلام السخط واللعنة؛ ظلمات بعضها فوق بعض، ولن يزال الحال كذلك، ما لم ينبعث المصلحون والمسؤولون، كي يهدموا ما بَنَت العناكب، ويطهروا بلاد الله من هذه الفئة المشركة التي تبث الشرك وتدافع عن مرابده؛ كي يأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون، وكم رأيت من هذه المناظر التي تقطع القلوب، من أناس جهلة مساكين، يرجون غير الله ويُقبِلون على رِمَّة بالية، يطوفون بإخلاص ورجاء، ويتمسحون بما علق على القبر من مزيِّنات وأقمشة، يبكون عندها، ويتوسلون في جنبات المكان، وتأتي العناكب لتنسج حولهـم مزيداً من الجهـل، ومزيداً من الخرافة؛ حتى إذا أوثقتهم واستحكمت منهم، مدت أياديها الأثيمة تأخذ من أموالهم بغير حق، وتأكل من ذبائحهم بغير شريعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد زرت في إحدى المرات وكراً من هذه الأوكار، وكان منظراً رهيباً لا يوصف؛ كان ذلك في منطقة زاكورة شمال المغرب، في ضريح الشيخ الناصري صاحب الطريقة الناصرية؛ إذ يسمون ضريحه محكمة الجن. دخلتُ إلى ساحة المسجد الداخلية، فرأيت بئراً والناس يسقون، ورأيت المكان ممتلئاً بالرجال والنساء! وقد افترشوا جنبات الحائط، حتى لم يبقَ مكان فارغ، ورأيت مَنْ يطبخ غداءه ومن يرتب ثيابه، فأحسست أنهم قد قضوا فترة طويلة في ذلك المكان.

لم أفهم شيئاً! ثم التفتُّ إلى امرأة مقعدة تناديني تقول: ساعدني على عبور عتبة الباب. فأخذت كرسيَّها ودفعتها إلى حيث تريد، وكان يبدو من مظهرها أنها امـرأة مثقفة، فسـألتها عن النـاس هــنا، وما خبرهم؟ فقالت: إنهم ينتظرون المحاكمة، فقلت: أيَّة محاكمة؟ قالت: محاكمة الجن، ثم قالت لي: هنا محكمة الجن، يأتي الناس من كل مكان، فلا يحق لهم الخروج حتى يؤذن لهم من طَرَف الحجاب، وقالت أيضاً: إن منهم من تجاوز ثلاث سنين ولم يخرج، قلت: وأنت، ماذا تفعلين هنا؟ وكيف رميت بنفسك في هذا المكان المشين؟ قالت: إن لي أبناءً وأسرةً، وكنت أعيش في حال طيبة، وبدأت أشعر بتنمُّل في أقدامي، فأتيت إلى هذه المنطقة أريد الرمال الدافئة، ثم دخلت أزور القبر وأتبرَّك، ولما أردت المغادرة، نصحوني أن لا أخرج إلاَّ بإذن، فاستهترت بالأمر، ولم أعبأ بقولهم، فما إن تجاوزت هذه العتبة حتى وقعت ولم أستطعِ الوقوف على رِجلَيَّ، ومنذ ذلك الحين وأنا مقعدة على هذا الكرسي أنتظر الفرج، فقلت: كيف تصدقين بهذه الخرافات وأنت امرأة عاقلة؟ قالت: اسكت وإلاَّ سمعوك. قلت: مَنْ؟ قالت: إني أراهم، فبدأت أجهـر بكلامي بصوت عالٍ، وقلت: أين ما تقولين؟ فخافت جداً وقالت: أرجوك إنني أراهم. فتركتها وأنا حزين أشدَّ الحزن على نساء ورجال وشباب وشابات، غدو أسرى للشيطان، وانقادوا لبيوت العنكبوت: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [يونس: ٩٩ - 100].




[1] العرب تسمي الضبع: أم عامر

[2] في ظلال القرآن، سورة العنكبوت، (الآية 41)