لقد لفت الإسلام الأنظار للتدبر والتفكر والاعتبار بصيغ متعددة؛ تفيد لزوم إعمال العقل للتمييز بين الخير والشر والحق والباطل. كما ركَّز على المسؤولية والتبعية الفردية؛ إذ لا يغني عن الإنسان أن يسير مع السائرين أينما اتجهوا: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14]، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].

وبالمقابل رفض هذا الدين الحق التبعيةَ الفكريةَ والتقليدَ، والسيرَ مع الناس كيفما يكون المسير؛ بل لا بد من الوضوح في المنطلق والهدف، وفي الرؤية والاختيار. وفي هذا الصدد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وِّطنوا أنفسكم؛ إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا»[1]. وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «من تشبـه بقـوم فهـو منهـم»[2].

وكان مما عابه الله - عز وجل - على المستضعفين أنهم عطَّلوا عقولهم، ولم يستفيدوا من حواسِّهم، ورضوا بمتابعة المستكبرين والسير على دربهم في الإفساد، فأدَّت بهم العطالة والخوف الذليل الأعمى، والاستسلام للأعراف والتقاليد الاجتماعية بدافع الشهوات والشبهات إلى مشاركة المستكبرين في العذاب المقيم.

ويصور القرآن الكريم حقيقة هذا المشهد بطرفين يتحاوران في النار، كلٌّ منهما يحاول أن يتملَّص من المسؤولية، ويلقي بالتبِعة على الآخر، ولكن بدون جدوى؛ إذ كان سلوك الطرفين اختياراً، فكلُّهم ظالمون: المستكبرون عليهم تبعة مكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن سبيل الله، والتمكين للباطل، وتلبيس الحق، واستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإفساد. والمستضعفون أَلْغَوا عقولهم جرياً على سنَّة الآباء والأجداد، وخنوعاً ورهبة من بطش الأقوياء واستجابة لداعي الشهوات؛ فكلهم في العذاب سواء. قال - تعالى -: {هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: ٣٣]. وقال - تعالى -: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِـمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ 31 قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ 32 وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَـمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 31 - ٣٣].

فهو التخلي عن التبِعة، والإقرار بالمسؤولية المشتركة في الغي والضلال والإفساد؛ إذ يحمِّل المستكبرون المستضعفين تبِعة الغواية من ذات أنفسهم: {بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ: 32].

فلكلٍّ جريمته وإثمه: المستكبرون عليهم وزرهم، وعليهم تبِعة إضلال الآخرين وإغوائهم. والمستضعفون عليهم وزرهم؛ فهم مسؤولون عن اتِّباعهم للملأ (النخبة المفسدة)، ولا يعفيهم من التبعة أنهم كانوا في حال الاستضعاف؛ لأن الله - عز وجل - أكرمهم بالإدراك والحرية، فعطَّلوا أدوات الإدراك فيهم، وباعوا حريتهم بأبخس الأثمان، ورضوا لأنفسهم الذلَّة والخنوع، وقبلوا أن يمتثلوا ويغيِّروا أنماط سلوكهم ومواقفهم اختياراً لتتناسب مع سلوكيات ومواقف المستكبرين، وباعوا آخرتهم بدنيا غيرهم؛ وذلك هو الخسران المبين.

إن هذا البعد النفسي تعبِّر عنه الآية الكريمة بوضوح: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]؛ أي هم متشابهوا القلوب في التصور والتركيبة النفسية، ولديهم جميعاً قابلية للشرِّ والفساد.

ويعبِّر ابن تيمية - رحمه الله - عن التماثُل والتأثُّر والتأثير الحاصل بين الناس بأوضح عبارة، مبيِّناً أن الإنسان يتفاعل في محيطه بالتشابه والمشاكلة. يقول: «إن الله - تعالى - جبل بني آدم، بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين. وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتمَّ، حتى يؤولَ الأمر إلى أن لا يتميِّز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط... ولأجل هذا الأصل وقع التأثُّر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة. وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه. ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم. وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون؛ فالمشابهة والمشاكلة [التماثل] في الأمور الظاهرة: توجب مشابهةً ومشاكلةً في الأمور الباطنة؛ على المسارعة والتدريج الخفي. وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممَّن جرَّد الإسلام... ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسَّر أو يتعذَّر زواله بعد حصوله لو تُفطِّن له. وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد، فإنَّ الشارع يحرِّمه، كما دلَّت عليه الأصول المقرَّرة»[3].

إن ظاهرة المشاكلة والمشابهة التي ذمَّها الكتاب والسُّنة، إذ تتجاوب فيها أغلبية المجتمع (المستضعفون) – لأسباب نفسية واجتماعية ومادية – مع السلطة الحاكمة (المستكبرين) في تقنينها للفساد، وتكريسها للظلم في شتى صوره، إنها تدخل ضمن ما يسميه علم النفس الاجتماعي الحديث بـ «التماثل».

والتماثل كما يعرِّفه علماء النفس الاجتماعي: هو إنتاج سلوكي مشابه لمصدر التأثير (المجتمع أو السلطة)، وهو سلوك اختياري يحظى بالموافقة والرضى والرغبة.

أما الدوافع النفسية التي تتسبب في التماثل السلبي فترجع إلى عدَّة عوامل، منها:

- الطمع أو الرغبة في الحصول على مكافآت مادية ومعنوية.

- الخوف من عقوبة المجتمع وتهميشه عند إعلان المخالفة.

- أثر البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد[4].

- القابلية للمتابعة مع وعي بمضارِّ ذلك ومساوئه.

وهذه العوامل تعزز مواقف سلبية، منها:

تذلُّلُ وخنـوعُ المتماثلين من أجل الحصول على القبول والترحيب داخل المجتمع أو الجماعة.

الجمود على المعايير والوسائل نفسها؛ على الرغم من تغيُّر الظروف والملابسات التي أنتجتها، وهو ما يعود بالضرر على الجماعة والمجتمع.

لكن مع ذلك فإن للتماثل الإيجابي بعض المزايا: كتقليص النزاع وإزالة الاختلاف بين عناصر الجماعة التي تجتمع على عقيدة ربانية صحيحة، وتشجيع التنسيق بينهم عندما يكون أعضاء الجماعة على القَدْر نفسه من الكفاءة والمبالغة في الحماسة للمواقف والآراء المشتركة.

ويفيد التماثل أيضاً عندما يحدث التنسيق والتأثير المتبادل بين أعضاء الجماعة، لا سيما عندما يكونون على مستوى واحد من الكفاءة؛ متشابهين في طباعهم وأنماط سلوكهم... وفي حالة أخرى عندما يكون الفرد مستعداً لاقتباس أحكام نظرائه إذا كانوا أكثر دراية وخبرة منه في القضايا المطروحة.

ويمكن للتماثل أيضاً أن يستعمله أشخاص مع نظرائهم غير المذعنين كأداة لتوجيه تحدٍّ للسلطة. كما أن التماثل في المعايير الأساسية جوهري إذا كانت الجماعة ترغب في البقاء، وتريد بلوغ أهدافها ومقاصدها.

وهناك ظاهرة أخرى هي «الإذعان»، يعرِّفها علم النفس الاجتماعي بأنها: تغيير السلوك للخضوع لأوامر مباشرة لسلطة عليا. وهو سلوك إجباري تسعى السلطة من خلاله إلى ممارسة التأثير ومراقبة مدى خضوع الفرد لأوامرها.

ويعود فِعْل الإذعان إلى جملة من العوامل، منها:

- تنفيذ المستضعَف أو المذعِن أوامر قائده ظناً منه أنَّ مَنْ فوقه هو المسؤول عن أفعاله.

- قبول التفسيرات التي تعطيها السلطة لتبرير سلوكها تجاه الأحداث.

- إبداء المذعن مسؤولية أقلَّ إزاء أفعاله الخاصة.

- الطمع في أخذ مكافأة على ممارسته غير الإنسانية.

- الخوف من عقاب رئيسه.

وللإشارة أقول: إن الإذعان يكون أحياناً طوعياً بفعل تأثير العادات والتقاليد الاجتماعية، والأهواء، والقابلية للمتابعة.

ونحن إذا وضعنا مفهوم «الإذعان» في ميزان الشرع، فسنرى أن هذا السلوك غير محمود وغير مرغوب فيه؛ لأنه يعوِّد الناس على الذل والاستسلام للباطل، وممارسة الظلم على غيرهم؛ إرضاءً لرؤسائهم وكبرائهم أو خوفاً منهم؛ كمن باع آخرته بدنيا غيره.

وقد حكى القرآن الكريم قصة المستضعفين وهم في النار يُلقُون التبعة على المجرمين الذين أطاعوهم وأذعنوا لتشريعاتهم وقوانينهم وسوُّوهم بالله - عز وجل - في الطاعة والتعظيم والتشريع، وهو ما يتعلق بشرك الألوهية، فلم تنفعهم حسرتهم وندامتهم وتمنِّي العودة إلى الدنيا لتغيير السلوك والمواقف: {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ 96 تَاللَّهِ إن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ 97 إذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ 98 وَمَا أَضَلَّنَا إلاَّ الْـمُجْرِمُونَ ٩٩فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ 100 وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ١٠١ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 96 - 102].

وكذلك وجَّهت الأحاديث الشريفة الإنسان المسلم إلى توطين النفس على الإحسان: «لا تكونوا إمَّعة تقولون...» الحديث[5].

على أن طاعة القيادة مشروطة بالمعروف وتنفيذ تعاليم الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الطاعة في المعروف»[6] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[7].

إنها طاعة واعية مبصرة لا تسمح للأفراد أن تذوب شخصيتهم في شخصية القيادة؛ لأن المؤمن يتعلق بالمبدأ لا بالقيادة، التي تُسمَع وتطاع بحسب امتثالها لأوامر الله، عز وجل.

وحتى في أحلك الظروف؛ فإن الإنسان يملك قوة عظيمة هي قوة الرفض بقلبه، وهذه القوة سماها النبي صلى الله عليه وسلم «جهاداً» في قوله: «ما من نبي بعثه الله في أمَّة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنَّته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخْلُف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبَّة خردل»[8].

وهذا الحديث وإن كان مسوقاً في بيان أحوال الأنبياء السابقين؛ إلا أن الظاهر من لفظه أن هذه الأمة داخلة فيه؛ إذ يمثل سنَّة اجتماعية مطَّردة وشاملة.

إنَّ الانهزام الداخلي الذي يستطيل به الباطل، يمنعه المسلم بالتماسك القلبي. والموالاة التي يحتاجها الباطل – حتى مع قوَّته - فَلْيمنعها عنه. وهذا ما يطلَق عليه جهاد القلب.

وقد جاء الوعيد شديداً في مَن يلتف حول أهل الباطل ويذعن لهم، ويتعلق قلبه بنصرتهم، أو يتبعهم من غير رويَّة: «أهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له[9]، والذين هم فيكم تبع...» الحديث[10].

ومن المعلوم أن أفعال الإنسان من حيث اعتبارُ الإرادة والقصد على ثلاثة أحوال:

1 - ثبوت الرضى والاختيار (وهو ما يتناوله هذا البحث)، وهذه ليست حالة إكراه.

2 - انعدام الرضى وبقاء الاختيار.

3 - انتفاء الإرادة والقصد بانتفتاء الرضى وانتفاء الاختيار[11].

أما الحالة الأولى: فقد تحدثنا عنها بما فيه الكفاية، والمذعن ها هنا يكون مسؤولاً عن موقفه وسلوكه، ويتحمَّل تبعة أفعاله.

وأما بالنسبة للحالة الثانية؛ حيث يتعرض المذعن «للتهديد»، وينعدم رضاه ولا ينعدم اختياره تماماً: فالمؤمن يختار في هذه الحالة أخفَّ الضررين وأهون الشرين، كما هو حال نبي الله شعيب عليه السلام مع قومه: {قَالَ الْـمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِيـنَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ٨٨ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْـحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين} [الأعراف: ٨٨ - 89].

فلا تجوز الاستجابة لهذا التهديد واستقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء والانقياد، كما في قوله - تعالى -: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10].

وفي ما يتعلق بالحالة الثالثة «الإلجاء»؛ حيث ينعدم الرضى والاختيار، وتُنفى الإرادة والقصد؛ بالوقوع تحت طائلة التعذيب الشديد، وهو ما يلغي الإرادة ويسقط مسؤولية الإنسان عن أفعاله وأقواله؛ بحيث تكون كأفعال العجماوات والجمادات[12]: فهذه الحال هي التي نزلت فيها آية النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل: 106]، واختلفت فيها مواقف الصحابة - رضي الله عنهم - كبلال وعمار وغيرهم بحسب قوة الإيمان وقوة الإرادة وقوة التحمل وضعفها. لكن لا تبعة على الإنسان في مثل هذه الحالة؛ إذ يُستخدَم فيها كالآلة.

وهكذا من منطلق التأصيل الشرعي، ينبغي أن نفرق بين الإكراه (التهديد والإلجاء) وبين مشاعر الخوف والطمع التي تتزاوج فيها مشاعر الرجاء والتعظيم والاتِّباع (الإذعان)، كما يجب أن نفرق بين الاستضعاف مع الرفض القلبي وبين الهزيمة النفسية والاستكانة لتقاليد وأعراف المجتمع، والركون إليها، وفقدان الثقة في الله، وترك التوكل عليه.

وفي الختام يمكننا القول بأن الفكر الغربي قد بلغ شأواً بعيداً في تفكيك وتحليل الظواهر الاجتماعية؛ بالكشف عن أسبابها والعوامل المؤثرة فيهـا وما يتمخـض عنها من نتائج وآثار، وذلك بفعل التجارب المختبرية والدراسات الميدانية.

لكن يبقى هذا الفكر عاجزاً عن إيجاد حلول حقيقية للمشاكل الناجمة عن الظواهر الاجتماعية المستعصية؛ لأنه مقطوع الصلة بالوحي، وهو ما يجعله غير قادر على فهم حقيقة النفس الإنسانية، وطبيعتها، ودروبها، وتشعباتها، ووسائل علاجها، ومن ثَمَّ لم يحالفه النجاح في ضبط بِنيَة العلاقات الإنسانية والنفسية المجتمعية في سيرورتها الآنية والمستقبلية.

وليس أدلَّ على ذلك مما تعانيه المجتمعات الغربية من انحطاط خُلُقي وأمراض اجتماعية ونفسية تنذر بحتمية الانهيار مهما يكن بطيئاً: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } [الفتح: 23].

 


[1] أخرجه الترمذي في سننه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع.
[2] أخرجه أبو داود في السنن «كتاب اللباس»: 1/403، وأحمد في المسند: 1/11. وصححه الشيخ أحمد شاكر، والشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير: 9/14.
[3] ابن تيمية : اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، ص 219، 220 .
[4] ويبيّن الحديث الشريف بشكل جليٍّ أثر البيئة الاجتماعية في التماثل؛ حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه...»، رواه أحمد في مسنده، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
[5] سبق تخريجه.
[6] أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب المغازي: 5/101.
[7] أخرجه أحمد في المسند: 5/66. وذكره الألباني في الصحيحة وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
[8](3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان: 2/27.
[9](4) وفي رواية: «لا دين له». لا زبر له: أي لا عقل له يمنعه مما لا ينبغي. انظر : صحيح مسلم بشرح النووي: 17/199.
[10] أخرجه مسلم في كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار: 17/ 197 - 198. وأحمد في المسند: 4/162.
[11] عبد المجيد الشاذلي: حدُّ الإسلام وحقيقة الإيمان، ص 575.
[12] عبد المجيد الشاذلي، المرجع السابق، ص575.