الاحتلال الفرنسي للمغرب

الاحتلال الفرنسي للمغرب


 

الإمبريالية:

هي حركة توسعية استعمارية عرفها العالم خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مدفوعة بضرورات حاجة الصناعة الناشئة عقب الثورة الصناعية إلى المواد الأولية وأسواق جديدة لتصريف فائض الإنتـاج، وكذلك بضرورات اجتماعية متمثلة في التخلص من الفائض البشري ومشاكله من بطالة وفقر وتصديره نحو المستعمرات.

وقد تم تبرير السياسة الإمبريالية، بكونها حاملة للحضارة والتنوير والعلم ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة للشعوب، لكن احتلال المستعمرات كشف الوجه القبيح للاستعمار الرامي لطمس الحضارة والهوية، واستعباد الإنسان والحجر واستغلال الثروات.

ويعد الاستعمار الفرنسي نموذجاً حيّاً للإمبريالية الغربية واستغلالها لخيرات الشعوب، وتعتبر سياسته في المغرب أكبر دليل على ذلك وعلى وجه الاستعمار القبيح؛ فما هي أهم آثار الاستعمار الفرنسي للمغرب على الاقتصاد والمجتمع؟

عملت فرنسا على حكم المغرب بطريقة غير مباشرة بواسطة السلطة التقليدية بإبقائها في وظائفها، من خلال مراقبتها عن كثب؛ إذ تم الحفاظ على دولة المخزن برئاسة السلطان، وإعادة تنظيمها. هذا التنظيم الذي حوَّل السلطة إلى يد الفرنسيين برئاسة المقيم العام. فقد مكنت السيطرة الإدارية والسياسية الجديدة من وضع الإطار القانوني الذي سيسهل الاستعمار الاقتصادي، الذي يعتبر الغاية القصوى التي يطمح إليها نظام الحماية.

 إن هدف كل عملية استعمارية، هو الاستفادة من خيرات البلاد، وفرض حضورها على كافة الميادين. كذلك فعل الفرنسيون بالمغرب.

ففي المجال الفلاحي نهجت فرنسا سياسة الاستعمار الفلاحي، من خلال الاستيلاء على الأراضي الفلاحية وإنشاء مراكز للاستيطان؛ إذ عمدت سلطاتها إلى وضع قانون عقاري الغرض منه تصفية وضعية الأراضي، ومنحها صفة أملاك تامة الشروط. فقد تم إصدار ظهير التسجيل العقاري، وأُنشئت مصلحة المحافظة العقارية، وهو ما جعل الأملاك المستولى عليها أملاكاً تامة على المستوى القانوني. فقد نتج عن ذلك ظهور استغلاليات فلاحية كبيرة في يد المعمرين، تعتمد على تقنيات وأساليبَ حديثةٍ، وهو ما ساهم في ارتفاع الإنتاج الزراعي، فارتفع إنتاج الحبوب من 20 مليون قنطار سنة 1930م إلى 30 مليون قنطار سنة 1956م. وارتفعت المساحة المغروسة بالكرمة المعدَّة لصناعة النبيذ من 10 آلاف هكتار سنة 1930م إلى 55 ألف هكتار سنة 1955م. أما زراعة الحوامض والبواكر، فارتفعت مساحتها المغروسة من 5 آلاف هكتار سنة 1935م إلى 52 ألف هكتار عام 1958م[1].

إلا أن هذه السياسة أدت إلى حرمان كثير من الفلاحين المغاربة من أراضيهم نتيجة الاستحواذ عليها من طرف المعمرين، وعدم قدرة الفلاحة التقليدية المعاشية على منافسة الفلاحة العصرية التي أدخلها الأوروبيون إلى البلاد. وهو ما نتج عنه هجرة العديد من الفلاحين نحو المدن و ظهور ما اصطلح عليه (بروليتاريا القرى) الذين هاجروا نحو المدن المنجمية والمدن الكبرى، وعاشوا فيها ظروفاً اجتماعية مزرية حيث الأجور الزهيدة والسكن في هوامش المدن خصوصاً في الأحياء الصفيحية.

أما في المجال الصناعي، فلم تعمل سلطة الحماية على إنشاء صناعة عصرية قوية في المغرب، بل ارتكز عملها على استخراج المعادن من خلال استغلال الموارد المنجمية بسرعة وكثافة؛ نظراً لحاجة الاقتصاد الفرنسي للمواد الأولية. فبدأ إنتاج الفوسفات سنة 1925م، إضافة إلى الرصاص والزنك والكـوبالت والمنغنيز والحديد، الذي بلغ إنتاجه سنة 1920م ما يناهز 300 ألف طن، ليرتفع سنة 1938م إلى 1.1 مليون طن. فالإنتاج المنجمي عرف نموّاً في السنوات من 1930 إلى 1955م، بنسبة 7%. وإذا أخذنا بالاعتبار سنوات الحرب والأزمة، فيصل إلى 12% بالنسبة للسنوات العادية[2].

إلى جانب استخراج المعادن، نجد الصـناعات التحويلية والحرف؛ ففي الفترة ما بين عامي 1948 - 1953م، عرفت هذه الصناعات استثمارات مهمة؛ خصوصاً الصناعات الغذائية (معلبات، سكر، عجائن غذائية)، والميكانيكا الخفيفة. ووجبت الإشارة، إلى أن الصناعة والحرف التقليدية، عرفت تراجعاً كبيراً بسبب منافسة المنتجات الصناعية الأوروبية العصرية، رغم كون هذه الحرف التقليدية تؤمن العمل لربع السكان العاملين في المدن في بدء الاستعمار، أي حوالي 100 ألف شخص عام 1920م[3]، في مقابل ذلك عرف إنتاج الصناعات الحديثة ارتفاعاً بسبب (تأورب) الأذواق.

إلا أنه على العموم تبقى النسب المئوية للنمو الإجمالي للإنتاج الصناعي والحرفي ضعيفة جداً في سنة 1930م؛ فلم تتعد %2 في الفترة ما بين عامي (1910 - 1930م)، لتصل إلى 5.8 % ما بين عامي (1930 - 1955م)[4].

أما التجارة (الداخلية منها) فكان يسيطر عليها الأوروبيون ووسطاء من قبيل البورجوازية اليهودية التي تفرنست. فقد كانت الشركات الفرنسية هي المسيطرة، وازدهارها يعكس ظهور اقتصاد عصري يعتمد على النقود ومن ثَمَّ انهيار الاقتصاد المعاشي، المعتمد على الاكتفاء الذاتي.

وأما التجارة الخارجية، فقد عرفت عجزاً مزمناً على مستوى الميزان التجاري؛ وذلك نتيجـة لتصدير المواد الأولية منخفضة القيمة، واستيراد المواد المصنعة مرتفعة القيمة، والتي كثرت نتيجة الزيادة على المستوى الديموغرافي ونظراً لتغير الأذواق بالنسبة للطبقة المتوسطة المغربية، وتصاعد عدد الرغبات خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية.

كما أحدثت سلطات الحماية تحولات اجتماعية في بداية الحماية، لكنها كانت بطيئة أو منعدمة، إلا أن نسبتها تسارعت بعد مضي ثلاثين سنة من احتلال المغرب. وهو ما أنتج ظهور بلاد جديدة ومجتمع جديد. فسكانياً، شهد المغرب زيادة مهمة في عدد الأجانب، الذين شكلوا بذلك أقلية محظوظة سيطرت على الاقتصاد والإدارة.

كما ارتفع عدد السكان المسلمين، فوصل سنة 1952م إلى ما يناهز 8 ملايين و 700 ألف نسمة، وهو ما كانت له انعكاسات اقتصادية واجتماعية وسياسة (تناقضات بين المتطلبات الجديدة للمجتمع في خضم التحول، وإطار سياسي يطمح إلى الثبات).

كما عرفت أوضاع الحياة في البوادي انقلاباً بسبب تضاعف الساكنة مقابل تناقص الأراضي الصالحة للاستغلال، وقلة فرص العمل بسبب استيلاء المعمرين على معظم الأراضي واستعمالهم للوسائل والآليات العصرية. وهو ما ساهم في انتشار الفقر والبؤس داخل الأرياف. وتحوُّل معظم الفلاحين إلى عاطلين، يهاجرون إلى السهول الخصبة في المواسم، أو إلى المدن والمراكز المنجمية للعمل. ومن المغاربة من كان يهاجر إلى الجزائر للعمل خلال موسم جني الكروم. كما انهارت الهياكل القبلية التقليدية، وأنماط العيش التقليدية، وهو ما دفع العديد من السكان إلى مغادرة موطنهم والنزوح نحو المناطق الشمالية والغربية بحثاً عن أماكن للعمل.

أما بالنسبة للحواضر، فقد عرفت المدن الحديثة التي أنشأها الاستعمار مقارنة بالمدن العتيقة ازدهاراً. فمدينة الدار البيضاء تزايد عدد سكانها، من 30 ألف نسمة سنة 1907م إلى 682 ألف نسمة سنة 1952م.

إلا أن أهم التحولات التي عرفها المجتمع المغربي، تتمثل في ظهور طبقة من الأعيان تمتلك مساحات شاسعة، تمثل طبقة غنية، قليلة العدد، حملت اسم البرجوازية، في مقابل ذلك هناك أغلبية من الفقراء والعاطلين، تمثل طبقة فقيرة.

بين هاتين الطبقتين توجد طبقة متوسطة، وظهور هذه الفوارق يعود للأزمات التي عرفها المجتمع المغربي؛ خاصة الأزمات الناتجة عن الحروب التي ساعدت على المضاربة، وهو ما ساعد التجار على جمع أموال كثيرة خاصة بواسطة الاتجار في المواد الغذائية، مثل الحبوب والمواد المستوردة كالسكر والشاي.

أما ظهور الطبقة العمالية في المدن، فكان من أهم مظاهر التحول الاجتماعي في عهد الحماية؛ فقد تجمع العمال في المدن التجارية وسكنوا في دور الصفيح وفي المراكز المنجمية، وكانوا معرضين للاستغلال والفقر لأنهم ممنوعون من الحقوق النقابية.

ولم تستثن هذه التحولات المجال التعليمي، بل شملته؛ إذ عرف تغييرات جذرية على مستوى بنياته وأهدافه. باعتبار التعليم الذي قدمته الحماية الفرنسية للمغاربة يدخل في إطار سياسة مكملة للتدخل العسكري؛ بجعله أحد الأدوات التي تسهل استغلال خيرات المغرب.

لعل هذه أهم الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلَّفها الاستعمار الفرنسي للمغرب، والتي ستلعب دوراً كبيراً في بناء دولة الاستقلال فيما بعد، وكشفت بالملموس الوجه الآخر القبيح للحداثة والتنوير الغربي، ممثَّلاً بالنموذج الاستعماري الفرنسي.


 


[1] أمين سمير، المغرب العربي الحديث، ترجمة: كميل. ق. ذاغر، دار الحداثة، بيروث، 1980، ص45.

[2] المرجع السابق، ص50.

[3] المرجع نفسه، ص 49.

[4] المرجع نفسه، ص50.

 

 


أعلى