رمضان وفقه مدراسة القرآن

كان السلف يضاعفون وِرْدَهم من القرآن في شهر رمضان اقتداء بالرسولين الكريمين عليهما الصلاة والسلام، كما أن كثيراً من العلماء كانوا يوقفون أنشطتهم العلمية للتفرغ لتلاوة القرآن ومدارسته وتدبره.


يُستحَب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان؛ لأن فيه كان نزوله. ولهذا كان جبريل يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم  في كل سنة في شهر رمضان، فلما كان في السنة التي توفي فيها صلى الله عليه وسلم  عارضه به مرتين تأكيداً وتثبيتاً.

عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل [وفي رواية: لأن جبريل كان يلقاه] وكان يلقاه [في كل سنة] في كل ليلة من رمضان [حتى ينسلخ] فيدارسه القرآن [يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم  القرآن] فَلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود بالخير من الريح المرسلة [فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  أجوَد بالخير من الريح المرسلة]»[1].

وقد ذكر العلماء أن مدارسة جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم  من جملة الإقراء المذكور في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى: ٦].

وتضمن هذا الحديث بيان ما كان عليه رسولا الله الملَكي والبشري؛ جبريل ومحمد صلى الله عليهما وسلم؛ من الاجتماع على مراجعة القرآن في شهر رمضان:

قوله: «يلقاه» أي ينزل عليه[2].

وظاهر الروايات أن كلاً منهما كان يقرأ على الآخر، كما يدل عليه قوله: «فيدارسه»، وقوله في رواية: «يعارضه»[3].

قال الحافظ بن حجر: «والمعارضة مفاعلة من الجانبين كأن كلاً منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع»[4].

الأثر النفسي لكثرة مدارسة القرآن:

قوله: «لأن جبريل كان يلقاه» فيه بيان سبب الأجودية المذكورة؛ حيث «كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام، ولكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود»[5].

قال العلَّامة ابن حجر: «قوله: (فيدارسه القرآن) قيل: الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعمُّ من الصدقة، وأيضاً فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي صلى الله عليه وسلم  يُؤْثر متابعة سنة الله في عباده فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود، والعلم عند الله تعالى»[6].

وقال في موطن آخر: «وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير»[7].

و «قوله: (فَلَرَسول الله صلى الله عليه وسلم ) الفاء للسببية واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيداً أو هي جواب قسم مقدر، والمرسلة أي المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح.

وعبَّر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عمـوم النفـع بجوده كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.

ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث: «لا يُسْأَل شيئاً إلا أعطاه».

وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر: «ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  شيئاً فقال لا»[8].

قال شيخنا العلامة عبد الله كنون رحمه الله:

«لقاء جبريل هو صلةٌ مباشرة بالملأ الأعلى، يصفو معها جوهرُ النفس، وتسمو معنوياتها إلى أبعد حدٍّ ممكن لبَشَرٍ، ومذاكرة القرآن - وهو مَعْدِن الأسرار والأنوار - لا تأتي إلا بأعظم النتائج في باب التخلق لعموم الناس، فأحرى بالرسول الكريم.

وعلى كل حال، فالغاية من الجميع هي الجود، وذلك ما يجعل من رمضان مدرسةَ إحسان، يتخرج فيها ملايينُ المحسنين كل عام، من الصائمين الذين يكونون على قدم الرسول صلى الله عليه وسلم  في الاتِّصاف بالجود أيامَ السنة كلها، وفي أيام رمضان أكثر».

التفرغ لتلاوة القرآن ومدارسته:

كان السلف يضاعفون وِرْدَهم من القرآن في شهر رمضان اقتداء بالرسولين الكريمين عليهما الصلاة والسلام، كما أن كثيراً من العلماء كانوا يوقفون أنشطتهم العلمية للتفرغ لتلاوة القرآن ومدارسته وتدبره.

فكان الزهري إذا دخل رمضان قال: إنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام.

قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف.

قال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على قراءة القرآن[9].

قال في الطبقات (7/139): أخبرنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا أبو الأشهب أن أبا رجاء كان يختم في شهر رمضان في كل عشر ليال مرة.

وقال سلام بن أبي مطيع: «كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم كل ليلة»[10].

التدبر ثمرة المدارسة:

يتخلى المسلم في رمضان عن كثير من العوائق والعلائق التي تبعده عن التدبر الأمثل لكتاب الله عز وجل، وربما كانت منها معاصٍ ومخالفات تحجب نور القرآن عن قلبه.

فإذا حل الشهر المبارك ارتفعت تلك الحجب، ففتحت أبواب التدبر، وتيسر سبيل التأمل في كنوز القرآن، والعاقل من يستغل هذه الفرصة ليديم التدبر في كتاب الله تعالى.

«والتدبر: التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، وإنما يكون ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أُودِعت فيه، بحيث كلما ازداد المتدبر تدبراً انكشف له معانٍ لم تكن بادية له بادئ النظر»[11].

وقد بين الله سبحانه أن علة إنزال القرآن هي تدبره لفهم معانيه والاقتناع برسالته وتجسيد أحكامه في الواقع العملي: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29]. فهذا «هو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر». وقد أنكر الله سبحانه على الذين لا يتدبرون القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

«فمن رضي بالاقتصار على حفظ حروفه، كان كمن له لقحةٌ درورٌ[12] لا يحلبها، ومهرة نتوج[13] لا يستولدها، وكان جديراً بأن يُضَيِّع حدوده فيخسر خسراناً مبيناً»[14].

قال الحسن البصري رحمه الله: «نزل القرآن ليُتَدبر ويُعمَل به فاتخذوا تلاوته عملاً».

وقد بيَّن الإمام ابن القيم رحمه الله فوائد التدبر فأفاد وأجاد: «فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته؛ من تدبُّر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تُطْلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما وعلى طرقاتهما وأسبابهما وغاياتهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتضع في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة وتثبِّت قواعد الإيمان في قلبه وتشيد بنيانه وتوطِّد أركانه وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه وتحضره بين الأمم وتريه أيام الله فيهم وتبصره مواقع العبر وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وما لسالكيه بعد الوصول والقدوم عليه وقواطع الطريق وآفاتها.

وتعرِّفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرِّفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة وأقسام الخلق واجتماعهم فيما يجتمعون فيه وافتراقهم فيما يفترقون فيه.

وبالجملة: تعرِّفه الرب المدعو إليه وطريق الوصول إليه وما له من الكرامة إذا قدم عليه وتعرفه في مقابل ذلك ثلاثة أخرى: ما يدعو إليه الشيطان والطريق الموصلة إليه وما للمستجيب لدعوته من الإهانة والعذاب بعد الوصول إليه.

فهذه ستة أمور ضرورية للعبد معرفتها ومشاهدتها ومطالعتها فتُشهِده الآخرة حتى كأنه فيها وتغيِّبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما اختلف فيه العالم فتريه الحق حقاً والباطل باطلاً وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد، وتعطيه قوة في قلبه وحياة وسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأنٍ والناس في شأنٍ آخَر؛ فإن معاني القرآن دائرة على التوحيد وبراهينه، والعلم بالله وما له من أوصاف الكمال وما ينزَّه عنه من سمات النقص، وعلى الإيمان بالرسل وذكر براهين صدقهم وأدلة صحة نبوَّتهم والتعريف بحقوقهم وحقوق مرسلهم، وعلى الإيمان بملائكته وهم رسله في خلقه وأمره وتدبيرهم الأمور بإذنه ومشيئته وما جعلوا عليه من أمر العالم العلوي والسفلي وما يختص بالنوع الإنساني منهم من حين يستقر في رحم أمه إلى يوم يوافي ربه ويقْدِم عليه، وعلى الإيمان باليوم الآخر وما أعدَّ الله فيه لأوليائه من دار النعيم المطلق التي لا يشعرون فيها بألم ولا نكد ولا تنغيص وما أعد لأعدائه من دار العقاب الوبيل التي لا يخالطها سرور ولا رخاء ولا راحة ولا فرح وتفاصيل ذلك أتمَّ تفصيل وأبيَنَه وعلى تفاصيل الأمر والنهي والشرع والقدر والحلال والحرام والمواعظ والعبر والقصص والأمثال والأسباب والحكم والمبادئ والغايات في خلقه وأمره فلا تزال معانيه تُنهِض العبد إلى ربه بالوعد الجميل وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل وتبعثه على الازدياد من النعم بشكر ربه الجليل وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق والتحويل وتسهل عليه الأمور الصعاب والعقبات الشاقة غاية التسهيل وتناديه كلما فترت عزماته وونى في سيره: تقدمَ الركبُ وفاتَكَ الدليل فاللحاق اللحـاق والرحيل الرحيل وتحدو به وتسير أمامه سير الدليل وكلما خرج عليه كمين من كمائن العـدو أو قاطع من قُطَّاع الطريق نادته: الحذر الحذر! فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل.

وفي تأمل القرآن وتدبره وتفهمه أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد، وبالجملة: فهو أعظم الكنوز؛ طلسمه الغوص بالفكر إلى قرار معانيه»[15].


 


[1] متفق عليه.

[2] مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 6/ 443.

[3] فتح الباري: 9/ 45.

[4] فتح الباري: 9/43.

[5] لطائف المعارف: 1/ 183.

[6] فتح الباري: 1/ 31.

[7] فتح الباري: 9/ 45.

[8] فتح الباري: 1/ 31.

[9] لطائف المعارف: 1/ 183.

[10] سير أعلام النبلاء: 5/ 276.

[11] التحرير والتنوير: 1 / 3625.

[12] أي: شاة حلوب.

[13] أي: ناقة ولود.

[14] نظم الدرر للبقاعي: 7 / 191.

[15] مدارج السالكين: 1/451 - 453.

 

 


أعلى