مفهوم العمل المؤسسي يختلف عن أنواع الأعمال الجماعية الأخرى، بأنه عمل قائم على أسس ومبادئ وأركان وقيم تنظيمية محددة ويحافظ على تراكم الخبرات والتجارب والمعلومات بحيث لا تتأثر بتغير القيادات
تعيش الأمة ظاهرة القائد الفذِّ أو الرجل العظيم. وتقوم هذه الظاهرة على أن شخصية
القائد هي كل شيء، في يده جميع الخيوط، والكل ينتظر ولا يتحرك حتى تأتيه التوجيهات
من هذه القيادة الملهمة، ولهذا استقر في وجدان الشعوب أن الأمة ستظل قائمة ولديها
القدرة على الصعود والنمو طالما بقي القائد، لكنها ستتوقف وتنهار بسرعه فائقة عندما
يرحل عنها لأي سبب، أو يخلفه في القيادة قائد آخر يوجهها وجهة أخرى معاكسة، وقد
يعود بها إلى نقطة الصفر بحجة التطوير والتجديد، وهكذا ندور في دائرة مفرغة ترتبط
فيها الدول بالقائد العظيم.
ولكن الأمم لا ترتفع بالقائد الفذِّ فقط؛ وإنما ترتقي وتتطور إذا تم إيداع قابلية
النمو والقدرة على التغيير الذاتي في نفوس أبنائها حتى لو رحل عنها مؤسسها، لأنه
أنشأ داخلها خاصية النمو الذاتي، وهذا بالطبع لن يغنيَ عن القائد المؤهَّل الذي
يحمل كاريزما الزعامة ولكن ليس لدرجة أن غيابه يفقد الدولة أو الأمة أو المؤسسة
صوابها فتظل في مكانها راكدة أو تنحرف عن طريقها.
الولايات الـمـتـحدة الأمريكية مثلاً هي بجملتها مؤسسة ضخمة تضم في ثناياها عدداً
هائلاً من المؤسسات مخـتـلفة التخصصات، ولا تتغير إستراتيجياتها الرئيسة بتغير
أفراد حكوماتها إلا من منطلق جماعي، وما حدث في أثناء رئاسة ترامب خير مثال؛ فقد
أراد الرجل أن يتوجه بأمريكا وجهة أخرى مغايرة تماماً لتوجهات الولايات المتحدة
التي خاضت من أجلها حروباً داخلية وأهلية عديدة لتصل إلى حالة من التوازن النسبي
بين الأعراق والديانات المختلفة وإدارة هذا التنوع بقدْر الإمكان نحو الهيمنة
العالمية، ولكن ترامب أراد أن يعود بأمريكا إلى الوراء بسيادة الأقلية البيضاء
البروتستانتية المتحالفة مع اليهود، غافلاً عن حقيقة أن المؤسسات الأمريكية قد وصلت
إلى حالة من القوة ما يستحيل معها تغيير توجهات الدولة بطريقة معاكسة تماماً،
وتغيير بوصلتها كليّاً، وقد كشفت شبكة سي إن إن الأمريكية الأيام الماضية نقلاً عن
كتاب من المتوقع إصداره الشهر المقبل من تأليف مراسلي واشنطن بوست، عن أنه كانت
هناك خطة لرئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي وكبار الضباط
العسكريين للتحرك ضد ترامب في حال قرر الرئيس السابق وحلفاؤه الانقلاب على نتائج
الانتخابات أو اتخاذ إجراءات غير قانونية بعد الانتخابات؛ بل يؤكد صحفيو واشنطن
بوست أن الجنرال ميلي منع ترامب من إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريس وراي
ومديرة وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل.
وبما أن أمريكا دولة مؤسسات راسخة فكان من المستحيل أن يأخذها أحد وجهة أخرى بعكس
كثير من الدول أو الكيانات التي تنقلب توجهاتها رأساً على عقب بمجرد تغيير زعيمها
الملهم.
وفي خضم محاولات أمتنا الإسلامية النهوض من كبوتها، فإن من بين واجبات الوقت
استلهام النماذج المشرقة في تاريخها، التي حاولت النهوض فيها على أسس مؤسسية علمية
بحيث ترتكز تلك النهضة على هذه المؤسسات لتستمر حتى في حال غياب الزعماء والقادة.
وكانت تجربة الوزير السلجوقي (نظام الملك) في القرن الخامس الهجري من أقوى هذه
النماذج الناجحة في هذا الشأن، ولذلك سنحاول في هذه الدراسة وضع إطار نظري من خلال
استعراض خصائص العمل المؤسسي وتطبيق هذا الإطار على ما قام به نظام الملك.
خصائص العمل المؤسسي
مفهوم العمل المؤسسي يختلف عن أنواع الأعمال الجماعية الأخرى، بأنه عمل قائم على
أسس ومبادئ وأركان وقيم تنظيمية محددة ويحافظ على تراكم الخبرات والتجارب
والمعلومات بحيث لا تتأثر بتغير القيادات.
هناك ثلاثة عناصر للعمل المؤسسي أو يمكن تسميتها الحد الأدنى من الشروط حتى نطلق
على عمل مَّا أنه مؤسسي:
أولاً: الفكرة:
لا بد أن تكون الفكرة واضحة ومحددة ومميزة، وكما يصفها خبراء الإدارة فإن الفكرة
الواضحة تمثل 50% من العمل المؤسسي، ومن المهم أن يُلِمَّ أفراد المؤسسة أو أكثرهم
بهذه الفكرة ولا تكون حبيسة عند مَن يدير المؤسسة فقط، ويكون أفراد المؤسسة مقتنعين
بل متشبعين بها.
ثانياً: الإستراتيجية:
وتعني المسار الذي يحقق الفكرة، وهذا يتطلب إدراكاً جيداً للواقع؛ سواء واقع
المؤسسة ونقاط القوة والضعف فيها، أم واقع البيئة التي تتحرك فيها المؤسسة لمعرفة
الفرص المتاحة والمخاطر المحيطة، ومِن ثَمَّ وضع الإستراتيجية المناسبة والملائمة
لتلك الظروف الذاتية والمحيطة.
ثالثاً: هيكل التنظيم المؤسسي:
ويتطلب الشمولية والوضوح والمرونة.
فالشمولية تعني أن يكون لكل وظيفة مسؤول، والوضوح معناه أن يعرف كل فرد داخل
المؤسسة صلاحياته وواجباته وعلاقته بالآخرين داخل المؤسسة، والمرونة أن يتم تعديل
الهيكل التنظيمي كلما دعت الحاجة واقتضت المصلحة هذا التعديل.
نظام الملك
سنحاول في هذه المساحة استعراضاً سريعاً لسيرة نظام الملك:
هو أبو علي حسن بن علي بن إسحاق الطوسي، المشهور بنظام الملك ولد في إحدى القرى
التابعة لولاية طوس، أو مدينة مشهد كما تسمى حالياً في أقصى الشرق الإيراني قرب
الحدود مع تركمانستان عام 408هـ الموافق لعام 1018م، وتوفي في رمضان عام 485هـ
الموافق لأكتوبر عام 1092م؛ أي أنه توفي عن عمر يقترب من 77 سنة مقتولاً على يد أحد
الباطنيين.
نشأ نظام الملك في أسرة فقيرة، تعلَّم العربية بجوار الفارسية، وقرأ القرآن الكريم
والحديث واللغة والنحو، ودرس الفقه على المذهب الشافعي، ولحبه تعلُّم الحديث النبوي
الشريف فقد قرر كدأب أقرانه من طلبة العلم الارتحال لطلبه وسماعه بين كبار شيوخه في
كلٍّ من العراق وخراسان والري وأصفهان ونيسابور؛ حتى أنه وصل إلى أن يجلس لإملاء
الحديث على طلبة العلم في مدينة الري.
وبعد ذلك ظهرت ميول هذا الشاب إلى السياسة والإدارة، فتعلم لأجل ذلك الكتابة
والإنشاء وتعمق فيها، فضلاً عن علم الحساب، لأن هذين العلمين كانا من شروط العمل
ومِن ثَمَّ الارتقاء في دواوين الأمراء والسلاطين في هذا العصر، ونتيجة لنبوغ نظام
الملك في هذه العلوم التحق بمناصب في الدولة الغزنوية التي كانت تحكم أفغانستان في
ذلك الوقت واشتهر بعدها، وفي تلك الأثناء كانت الدولة السلجوقية آخذة في الصعود
فالتحق نظام الملك بخدمتها، وبفضل مهارته السياسية وعلمه استطاع أن يترقى في هذه
الدولة حتى وصل إلى كاتب للأمير ألب أرسلان السلجوقي، الذي ما إن وصل إلى السلطنة
حتى عيَّن كاتبه نظام الملك وزيراً للدولة السلجوقية سنة 455هـ، لتبدأ صفحة جديدة
في التاريخ الإسلامي ولِتتحول هذه الدولة لإحدى أفضل الدول التي قادت الأمة
الإسلامية في تاريخ هذه الأمة.
لقد أمضى نظام الملك ما يقرب من عشرين سنة في بدايته في طلب العلم، ولكنه قبل أن
يصل لدرجة الفقيه العلمية اتجه إلى السياسة.
فقد جمع الرجل بين العلم وبين ممارسة السياسة، وتصفه المراجع العربية والفارسية بـ
(العالم الفقيه) كما ذكر المقدسي في كتابه الروضتين، ويؤكد الدكتور عبد الهادي
محبوبة في كتابه عن نظام الملك على هذا المعنى حينما يقول: إن هذه الصفة لا يمكن أن
يُجمِع عليها المؤرخون مصادفة وأن يطلقوها عليه جزافاً واعتباطاً، فالعالم الفقيه
حينذاك لا يمكن أن يكون إلا بعد اجتيازه مرحلة واسعة في التحصيل، وشهرة كافية في
أوساط المتعلمين. ويرجِّح الدكتور أن نظام الملك كان غزيرَ المعلومات ولكنه غير
متعمق في واحد من فروع العلم، وافرَ المعرفة بأشتاتها دون استيعاب لأجزائها وإلمام
بأطرافها، وهو بذلك قد اطلع على مجموعة العلوم الإسلامية آنذاك، وتلقى أصولها على
كبار العلماء وإن لم يكن قد تضلَّع في واحد منها، لأن دراسة تلك المجموعة تحتاج إلى
مواصلة الجهد في البحث وإلى وقت طويل قد يمتد بالمتعلم إلى سن الشيخوخة وحتى الموت،
وهذا لم يُتحْ لنظام الملك الذي أمضى هذه الفترة في تدبير شؤون الدولة وتحقيق
رسالته التي ملكت عليه تفكيره.
وخلاصة القول - كما يرى الدكتور محبوبة - أن ثقافة نظام الملك كانت واسعة أكثر منها
عميقة، وشاملة أكثر منها مركزة، وكان يشوبها عنصر الخبرة والذكاء أكثر من التحري
والاستقصاء.
ولذلك من كتبوا أخبار نظام الملك من المؤرخين لتلك الفترة كأمثال ابن الأثير في
كتابه الكامل وابن كثير في البداية والنهاية والسبكي في الطبقات؛ كانوا يطلقون عليه
لقب المتفقه وليس الفقيه.
عصر نظام الملك
كانت التحديات في العصر الذي ظهر فيه الوزير نظام الملك كبيرة وتتمثل في صعود قوي
لعدوين خطيرين أرادا النَّيل من أمة الإسلام (الباطنيين والصليبيين).
فالباطنيون ظهروا قوة صاعدة تنخر في جسم الأمة خاصة بعد أن استولوا على مصر عام
358هـ وتأسيس الدولة الفاطمية، وشرعوا في بث الدعاة إلى مذهبهم الهدام في أرجاء
العالم الإسلامي.
وبلغت خطورة الباطنية عام 450هـ عندما تمرد القائد العسكري أبو الحارث أرسلان
البساسيري على الدولة العباسية وانضم للباطنيين، وقتها هرب الخليفة العباسي القائم
بأمر الله، وسقطت بغداد حاضرة الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخها في حضن
الباطنيين. ولكن تمكن السلاجقة من استعادة بغداد وأعادوا الخلافة العباسية مرة أخرى
وطاردوا الباطنيين في العراق ومعظم بلاد الشام، ليصيروا بعدها السيف العسكري للأمة
الذي يذود عن عقيدتها ومصالحها.
ولكن الخطر ظل موجوداً وازداد قوة بتحول النسخة الباطنية إلى شكل أكثر تطرفاً
وإجراماً بظهور طائفة الحشاشين الإسماعيلية بزعامة حسن الصبَّاح واستيلائهم على
قلعة أََلَـموت في بلاد فارس وبالتحديد في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ.
أما الصليبيون: فقد شهدت تلك الحقبة من التاريخ الإسلامي بداية الحملات الصليبية
على العالم الإسلامي، تلك الحملات التي حشد لها بطرس الناسك مئات الألوف من نصارى
الروم خاصة الكاثوليك وأطلقوا عليها: استعادة الأراضي التي استولى عليها المسلمون
واسترداد بيت المقدس.
وسارت الحشود الهائلة من جميع أرجاء أوروبا تجاه الأناضول وأطراف العراق الشمالية
والشام. ولَـمَّا كان هؤلاء يسيرون بلا نظام فقد سببوا الفوضى والدمار لكل المناطق
التي مرُّوا بها حتى النصرانية منها، حتى اشتكى منهم إمبراطور القسطنطينية، وعندما
وصلوا بلاد المسلمين صبُّوا عليها جام غضبهم فأهلكوا الزرع والضرع، وأحرقوا الأخضر
واليابس، وعاثوا في الأرض الفساد، وقتلوا ومثَّلوا، وانتهكوا من الحرمات ما سطره
المؤرخون المسلمون في الكتب التاريخية التي دونوها في تلك الفترة.
ولكن التحدي الأخطر الذي واجه الأمة في ذلك الوقت، هو ضعف الخلافة العباسية وعجزها
عن إدارة الصراع مع هؤلاء الأعداء، وتشتت المسلمين بين دويلات على رأسها أمراء
متفرقون يطمحون إلى الزعامة غير مبالين بأخطار الباطنيين والصليبيين.
نظام الملك بين الفكرة والإستراتيجية:
ظهرت الدولة السلجوقية وصعد نظام الملك بخبراته وعلمه إلى المرتبة التي تلي سلطان
الدولة مباشرة، بل كان في عصر السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان بمثابة من بيده السلطة
الحقيقية. كانت الفكرة التي أراد أن ينشرها نظام الملك تقوم على إحياء عقيدة أهل
السنة والجماعة بين الانحرافات الهائلة، التي تقف وراءها جماعات تدعو إليها وتؤسس
الدول على تلك العقيدة المنحرفة كالفاطميين في مصر، وكذلك محاولات الباطنيين
الآخرين في الشام والعراق تأسيس دول على النهج الفاطمي، فكان تركيز نظام الملك على
إعادة الاعتبار لعقيدة أهل السنة والجماعة ونشر الشريعة والفقه المؤسس على تلك
العقيدة، ومِن ثَمَّ إحياء الجهاد للوقوف في وجه الباطنيين والصليبيين، ورأىَّ أن
من لوازم حماية العقيدة وجود الدولة التي تتولى نشر الإسلام وحمايته؛ سواء حماية
فكرية أم حماية الأراضي التي حكمها الإسلام، لذلك انتشرت الكتابات سواء من مدرِّسي
أو خريجي المدارس النظامية (التي أسسها نظام الملك)، والتي تركز على الإمامة
وشروطها ووظيفة الإمام وأحوال وجوده أو غيابه، ووظائف أهل الحل والعقد فظهرت كتابات
الجويني والماوردي بهذا الخصوص في السياسة الشرعية.
لقد استقر في عقل نظام الملك أن تغيير هذا الواقع المرير لأحوال المسلمين يتطلب
أموراً ثلاثة:
•
مقاومةً فكرية للعقائد المنحرفة التي نشرها الباطنيون.
•
إحياءً لمعاني الجهاد سواء كان دفعاً أم طلباً.
•
إدراكاً جيداً للواقع المحيط ونقلاً سريعاً للمعلومات؛ خاصة بعد أن انتشرت
المؤامرات الإجرامية السرية التي أجادها الباطنيون.
لقد كانت الفكرة واضحة في ذهن نظام الملك وأراد أن ينقلها إلى أكبر عدد ممن توسم
فيهم الصلاح والمقدرة على نشر الفكرة أو تطبيقها في واقع الأمة، ومن هنا ظهرت
إستراتيجيته التي ترتكز على إيجاد المؤسسات التي يتخرج منها أشخاص يحملون همَّ نشر
الفكرة بعناصرها الثلاثة: العلم الشرعي القائم على عقيدة أهل السنة والجماعة،
الجهاد الصحيح، الفقه الدقيق للواقع.
من أجل ذلك قام نظام الملك بتأسيس ثلاثة أنواع من المشروعات:
فكان أولها المدارس التي اشتهرت باسم المدارس النظامية نسبة إلى اسمه.
فأنشأ مدرسة بغداد عام 457هـ وأعقبها التوسع في هذه المدارس في العديد من مناطق
العالم الإسلامي، وتخرج من هذه المدارس وتولى التدريس فيها الكبار من العلماء الذين
قادوا الصحوة العلمية في بلاد المسلمين، مثل ابن عساكر والعز بن عبد السلام وأبو
حامد الغزالي وإمام الحرمين الجويني وابن الجوزي، كذلك تخرَّج من هذه المدارس عماد
الدين الأصفهاني وبهاء الدين شداد وكلاهما كانا من رجال السلطان صلاح الدين الأيوبي
محرر القدس بعد ذلك، وكان أيضاً من نتاج هذه المدارس عبد الله بن تومرت مؤسس دولة
الموحدين في المغرب العربي، ومن هؤلاء: القادة الذين وقع عليهم الاختيار آق سنقر جد
نور الدين محمود الذي ولي حلب وديار بكر والجزيرة، وقد ذكر الرحالة ابن جبير في
كتابه (رحلة ابن جبير) أنه رأى في بغداد وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة، ويصف مبانيها
بأنها أعظم من القصور.
لم يهتم نظام الملك بالمدارس العلمية فقط ولكن اهتم أيضاً بتأسيس المدارس العسكرية
التي لم تكن مهمتها قاصرة على التدريب على أنواع القتال فقط؛ بل كانت تزرع التربية
الإيمانية بجانب التربية العسكرية باعتبار أن ما يقوم به العسكريون ليس مجرد القتال
بل هو جهاد ودفاع عن ديار المسلمين وإعلاء راية أهل السنة والجماعة فيما يعرف
حالياً بالعقيدة القتالية.
ولم يكتفِ نظام الملك بتأسيس المدراس العلمية أو الجهادية بل أسس أجهزة تدير البنية
التحتية للدولة من المراقبين؛ فهناك جهاز لجمع المعلومات تقوم فكرته على وضع
الأعوان في جميع مناطق الدولة مترامية الأطراف، ليأتوه بالمعلومات وأخبار هذه
المناطق عن طريق الحمام الزاجل، ليتم اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية بالسرعة
المناسبة على ضوء هذه المعلومات فيما يُعرَف حالياً بأجهزة المخابرات.
كما قام نظام الملك بتعيين رجل نزيه أمين في كل مدينة ليراقب الوالي والمحتسب في
تلك الجهة أو المدينة فيما يعرف بجهاز المراقبة والمحاسبة.
ومن حُسن تدبير هذا الرجل وإدراكه أنه يؤسس لمرحلة طويلة تستمر من بعده وليست طفرة
تقوم وتنتهي بوفاته، فقد دوَّن إستراتيجيته تلك وكل خططه السابقة في كتاب شهير أطلق
عليه (سياسة نامة) أو سير الملوك الذي يتكون من خمسين فصلاً.
لذلك أثنى على هذا الرجل علماء عصره ومن جاؤوا من بعده:
فقد أثنى عليه الذهبي في سير أعلام النبلاء قائلاً:
«الوزير
الكبير، نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، عاقل، سائس، خبير، سعيد
متدين، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء».
وقال عنه ابن كثير:
«من
أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة»،
ووصفه المؤرخ ابن الأثير بأنه نشأ وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة، والاشتغال
بالعلم، فتفقه وصار فاضلاً، كما ذكره السبكي بقوله:
«وكانت
مجالسه معمورة بالعلماء مأهولة بالأئمة والزهاد».
لذلك وصف العلَّامة أبو شامة في كتاب الروضتين الأثر الذي نتج عما أسسه نظام الملك
بأنه جدد من هيبة الخلافة ما كان قد دَرَس.
فكان انتشار الدولة السلجوقية عظيماً بفضل ما أسسه نظام الملك، فقد اتسعت حدودها
فأصبحت دولة مترامية الأطراف تمتد من حدود الهند والصين شرقاً إلى البحر المتوسط
غرباً، ومن البحر الأسود شمالاً إلى الخليج الفارسي جنوباً، وصارت أكبر قوة في
العالم آنذاك.
ولم يقتصر تأثير مؤسسات نظام الملك على الدولة السلجوقية؛ بل امتد إلى الدول التي
أعقبتها كالدولة الأيوبية وبعدها دولة المماليك؛ بل امتد تأثيره إلى المغرب العربي
ودولة الموحدين.
ونختم سيرة هذا الرجل بما قاله عنه ابن عقيل:
«بهر
العقولَ سيرةُ النظام جوداً وكرماً، وعدلاً وإحياء لمعالم الدين، كانت أيامه دولة
أهل العلم، ثم ختم له بالقتل وهو مار إلى الحج في رمضان فمات ملكاً في الدنيا ملكاً
في الآخرة»
رحمه الله.